مارتن كريمر أميركي اسرائيلي ألّف عدداً من الكتب المتواضعة المستوى عن الاسلام السياسي، - ولم أعثر على ذكر لها في قوائم القراءة لأي أكاديمي بريطاني أو أميركي. انه على الأرجح معروف اكثر بكونه مديراً سابقاً لمركز دايان في جامعة تل أبيب، القوي الصلة بالاستخبارات العسكرية الاسرائيلية. لكن كريمر نجح لفترة قصيرة في الدور الذي رسمه لنفسه كناقد ومجادل، عندما كهرب أجواء مراكز دراسات الشرق الأوسط الأميركية بكتابه "أبراج العاج المبنية على الرمال" الذي أصدره مباشرة بعد الهجمات على نيويوركوواشنطن في 11 أيلول سبتمبر. كلمة "الرمال" بالطبع هي الترميز الاسرائيلي المفضّل للعالم العربي، فيما يقصد ب"الأبراج العاجية" مراكز دراسات الشرق الأوسط، التي خذلت الولاياتالمتحدة، كما يقول، عندما فشلت في "توقع وايضاح التطورات الرئيسية في مجتمعات وسياسات الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين". وردد عدد لا يحصى من الصحف وبرامج النقاش هذه التهمة السقيمة، حيث اعيد توضيبها في شكل مختصر يدين مراكز الدراسات بعدم تجهيز الحكومة الفيدرالية بالمدركات اللازمة لفهم أوضاع الشرق الأوسط. مع ذلك، وبالرغم مما سببه هذا من ازعاج للأشخاص الذين أورد كريمر ذكرهم لفشلهم في التعامل في شكل صحيح مع ما يعتبره حقيقة الوضع في الشرق الأوسط، فقد برهنت القضية على أنها مجرد عاصفة في فنجان. ذلك أن الحكومة الفيديرالية وعت أنها بحاجة أكثر من أي وقت مضى للخبرات في شؤون الشرق الأوسط، وسارعت الى مضاعفة تمويلها لاقسام تعليم اللغات وغيرها من مجالات التدريب. من الجائز أن كريمر، نظراً الى خلفيته في مركز دايان، يعتبر أن واجبه الأول اعلام حكومته عن الاحتمالات في الشرق الأوسط. لكن غالبية الأميركيين الذين أجروا المقابلات معه لم تكن على ما يكفي من الذكاء لسؤاله عن السبب في توسيع ذلك الواجب لكي يشمل الحكومة الأميركية. اذ لا شك أن الكل، حتى الأقل ذكاء، يعرف تماماً مصير البحث العلمي عندما يخضع لأهداف حكومة ما. ان واجبنا هو توفير المعلومات في حالتي تفحص البنى السياسية والاقتصادية - الاجتماعية بما يسمح للآخرين باستعمالها للتعليم أو التحليل أو المشاريع العلمية المشتركة. وهذا ما تأخذه الحكومة الأميركية في الاعتبار، فهي تقدم المال لجامعة هارفارد وغيرها لتعليم اللغات وعقد الندوات وورش العمل والاتصال بالجاليات المحلية، ولكن ليس للأبحاث. عدا ذلك فان الكشف المختصر الذي يقدمه كريمر لتاريخ دراسات الشرق الأوسط في أميركا خلال الخمسين سنة الماضية مغرض ومليء بالتناقضات الصارخة، ويتكلم عن أزمة متنامية في حقل دراسات المناطق، وهو ما ترفضه الغالبية الساحقة من العاملين في هذا الحقل. كما يفترض كريمر أن الباحثين في شؤون الشرق الأوسط ينقسمون الى معسكرين، معسكر الصلاح الذي يمثله تابعو برنارد لويس، ومعسكر العبيد الفكريين المضلليين التابعين لأدوارد سعيد، الذي يزعم كريمر انه "ما بعد حداثي"، وهي فكرة على قدر من السخف والبعد عن الحقيقة يصعب معه أن نصدق أن لكريمر أي معرفة، مهما كانت ضئيلة، بالموضوع الذي يكتب عنه. يفترض هذا الوضع "المانوي" الذي يصوره كريمر أن للاساتذة القدرة على فرض الأفكار على طلبتهم، وهو افتراض خاطيء بقدر ما هو مهين لطلبتنا. واستطيع القول انني لم استطع، ولا مرة واحدة خلال سنواتي التسع في هارفارد، التأثير على مرشح أو مرشحة للدكتوراه فيما يخص اختيار الموضوع، ولم أشرف مرة على اطروحة في حقل دراسات الشرق الأوسط الحديث تعترف، ولو شكليا، بتأثير أفكار ميشال فوكو، ناهيك عن بوردو أو هومي بابا. واتمنى احياناً لو استطعت الحصول على طلبة أكثر للعمل على المواضيع الأقرب الى اهتماماتي، أي الاقتصاد السياسي. لكن يبدو أنها ليست طريقة عمل هارفرد. عليّ ان أضيف ان كريمر يذكر اسمي ست مرات في كتابه، اثنتين منها ايجابيتين. ويبدو أن من بين ايجابياتي أنني عندما كنت في أكسفورد أشرفت على أطروحة روبرت ساتلوف، مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط. النقطة الايجابية الأخرى، كما اكتشف كريمر خلال أبحاثه المتحمسة، انني قلت مرة وهو رأي عادي تماماً ان "سياسات الشرق الأوسط أقل استعصاء على التنبؤ من ما يفترض في احيان كثيرة". أظهرُ في الكتاب أيضا في ذلك الزي المضحك، زي "النخبوي الما بعد حداثي"، الذي انتقل من أكسفورد الى هارفرد حاملا جرثومة "السعيدية". لا بد من القول ان تعبير "نخبوي ما بعد حداثي" لا يخلو من طرافة، لكن بعده عن الحقيقة جعلني اعود الى التساؤل اذا كانت لدى كريمر أي فكرة عن معنى "ما بعد الحداثة" أو انه قرأ أيا من مؤلفاتي في السياسة وتاريخ الاقتصاد. أم هل كان السبب استعمالي مفهوم "الدولة" لهيكلة بعض تحليلاتي، وهو مفهوم خطير ايديولجيا حسب منظور كريمر، ولا وجود له بالتأكيد في اعمال برنارد لويس الأخيرة؟ لكن لا وجود له أيضا في اعمال ادوارد سعيد. الذكر الأخير لاسمي في كتاب كريمر يأتي على شكل ضربة غادرة مؤذية. اذ يقتبس كريمر عن عمود كتبته في "الحياة" ونشرته صحيفة "الاهرام الاسبوعي" عن بداية انتفاضة الأقصى ما معناه أنني لا أرى جدوى في القيام بحملات في واشنطن أو التكلم الى مراسلي الصحف المحلية في الوقت الذي يشعر فيه طلبتي بالقلق وعدم الاستقرار خلال معايشتهم للأزمة في "محيط غير ودي". ان كل من مارس التدريس، حتى لفترة قصيرة، في مراكز تضم طلبة من تركيا واسرائيل وايران والبلاد العربية، يدرك فورا مدى التحفظ المطلوب تجاه الادلاء بأي تصريحات علنية في أوقات كهذه، عندما يشعر الطلبة بالقلق والبعد عن الوطن والتعرض، كما يرون، للاهانة والاستخفاف من أطراف كثيرة. لا شك ان واجبنا في ظروف كهذه هو، أولا، تأمين بيئة أكاديمية تضمن استمرار الابحاث بأكثر ما يمكن من الهدوء. ثانيا، علينا ان نوفر لجامعاتنا ومجتمعاتنا المحلية الحقائق التي تمكّن من الحكم على ما يجري. وقد بذلنا، زملائي وأنا، جهدا اضافيا للقيام بالواجبين منذ 11 أيلول سبتمبر وسنستمر في ذلك مستقبلا مهما يقول مارتن كريمر. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.