رداً على مقالة إدوارد سعيد "الحياة" 3/12/2002 التي تناول فيها السيرة المهنية لكنعان مكية، ردّت زمرة من الكتّاب على سعيد، مكيلة له اتهامات باطلة، ابتداء بالليكودي الإسرائيلي مارتن كريمر الذي نشر دفاعه المستميت عن مكيّة على موقعه على شبكة الانترنت، وانضم عدد من الكتّاب إلى جبهة الدفاع هذه في ثلاث مقالات نشرت في "الحياة"، مضللين القراء العرب بشأن الدور الذي لعبه ويلعبه مكيّة في الولاياتالمتحدة، ويقدمونه على أنه كاتب مضطهد قابع تحت القمع الصدامي، كما يروج مثلاً محمد الرميحي في مقاله، بينما يقيم مكيّة في الحقيقة منذ السبعينات بين بريطانيا وأميركا، بعيداً عن الاضطهاد السافر الذي كان ولا يزال يتعرض له الشعب العراقي تحت نظام صدام حسين الفاشي. فبينما ينادي مكيّة بغزو العراق من كل منبر أميركي وكل المنابر، ما شاء الله، مفتوحة له، ويحاول خلق تنافس غير حقيقي على غرار حسن منيمنة في مقاله بين قضيتي فلسطينوالعراق، وهو ما يرفضه إدوارد سعيد كما نرفضه معه تماماً، يتهم نقاد سعيد الأخير بأنه يكيل بمكيالين في طرحه للوضع في فلسطينوالعراق. فهل سمعنا سعيداً يوماً، مثلاً، ينادي بغزو أميركي لإسرائيل والأراضي الفلسطينيةالمحتلة ل"تحريرها"، كما ينادي مكيّة؟ في هذا الصدد، أود أن أعطي نبذة تاريخية عن السياق الأميركي الذي انتج كنعان مكيّة، وعن الدور المنوط به في السياسة الأميركية الخارجية والداخلية، خصوصاً الإعلامية منها. فبينما كان سعيد ولا يزال من أقوى الأصوات الناقدة لسياسات أميركا التعسفية في داخل أميركا وخارجها وللديكتاتوريات العربية والتطرف الديني، على رغم ازدياد جحافل أعدائه من الصهاينة والأميركيين المحافظين، يحظى مكيّة وأمثاله بدعم سياسي وإعلامي في أميركا لم يحظَ بهما مثقف عربي من قبل، وذلك ليس نتيجة تفوقهم في مجالات تخصصهم الأكاديمي أو الفني، بل لتفوقهم عن بني قومهم في عدائهم الشديد للعرب والمسلمين. كيف برز كنعان مكيّة وغيره في أميركا؟ نتيجة الانتفاضات السياسية والثقافية التي هزت الولاياتالمتحدة في عقد الستينات وأوائل السبعينات، لجأ الخطاب العنصري الأميركي المهيمن على السلطة السياسية والاقتصادية والإعلامية في الولاياتالمتحدة إلى استنباط استراتيجيات جديدة لنشر السياسات العنصرية داخل أميركا وخارجها. فبينما كان السياسيون والأكاديميون والإعلاميون البيض لا يشعرون بالحرج عند استخدامهم نعوتاً عنصرية في وصف الأقليات السوداء واللاتينية في البلاد، أثرت الاستراتيجية الجديدة منذ السبعينات في ابراز طاقم من السياسيين والأكاديميين السود واللاتينيين الذين يتفوهون بالصفات العنصرية ذاتها التي يصفون بها بني أعراقهم ويدافعون عن سياسات جائرة ضدهم باسم "تحريرهم" من "عقدة" الاضطهاد، إذ أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري للسود مثلاً، كما يصر الخطاب الجديد، ناتج لا عن العنصرية البيضاء القائمة والممأسسة، بل عن تمسك المجتمع الأسود بتاريخ العبودية واستمراره في اعتبار نفسه "ضحية" العنصرية التي يزعم الخطاب اليميني الجديد أنها انتهت منذ عقود. وهكذا يصبح السود هم المسؤولون عن وضعهم المزري لا عنصرية البيض. وكون هذه الاطروحات تصدر عن سياسيين وأكاديميين سود، فلا يمكن أحداً اتهامهم بالعنصرية. وصارت هذه الجوقة من السود واللاتينيين اليمينيين تعتلي المناصب السياسية والأكاديمية في الولاياتالمتحدة وتستضاف باستمرار في أجهزة الإعلام الأميركي كخبراء في شؤون السود واللاتينيين في البلاد. نتيجة نجاح هذه الاستراتيجية على الصعيد الداخلي في اقناع بيض أميركا بأن السود هم المسؤولون عن اضطهاد السود لا البيض، اقتنع أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة بضرورة توسيع هذه الاستراتيجية على المستوى العالمي. في هذا السياق، برز في أوائل الثمانينات الأكاديمي اللبناني فؤاد عجمي كأهم صوت عربي معادٍ للعرب ومؤيد لإسرائيل على الساحة الأميركية. ولم تنحصر أهمية عجمي في المجال الأكاديمي، بل تجاوزتها إلى المجالين السياسي والإعلامي، إذ أصبح وجهه مألوفاً على شاشات التلفزة الأميركية وعلى صفحات الجرائد والمجلات اليمينية، مشهراً بالعرب تارة ومشيداً بإسرائيل تارة أخرى، متفقاً بذلك مع الكتّاب والأكاديميين البيض الأميركيين في عنصريتهم ضد العرب. وها هو محمد الرميحي في مقاله يدعونا إلى تحمل "المسؤولية" وألا نتهم الانكليز والفرنسيين والأميركيين بالمسؤولية عن أوضاعنا، مثله في ذلك مثل نظرائه من بعض الكتّاب والأكاديميين السود اليمينيين في أميركا والذين أشرت إليهم في ما سلف. توسعت السوق الإعلامية والأكاديمية الأميركية في احتياجاتها إلى المزيد من العرب من أمثال فؤاد عجمي والذين لم تكن تستوعبهم هذه السوق في السابق. في هذا السياق ظهر كنعان مكيّة على المسرح الإعلامي والسياسي الأميركي أثناء الحرب كمطبّل ومزمّر للجيوش الأميركية التي ناشدها باستمرار أن تغزو بغداد، في عام 1991 وما بعده، وكان يقول ذلك أمام جماهير من بيض أميركا المحافظين والعنصريين في معاهد واشنطن الديبلوماسية وفي غيرها من المدن الأميركية، وكان هؤلاء يهللون له ويلاقونه بالتصفيق الحار. على رغم أن دور مكية كان محدوداً في الحرب الأولى عام 1991، إذ أنه بقي على هوامش الحياة الأميركية منذ منتصف التسعينات لعدم حاجة السوق الأميركية إليه واكتفائها بفؤاد عجمي الذي كان يلبي حاجتها، ثم توسعت هذه السوق من جديد بعد 11 أيلول سبتمبر فاستوعبته في تحضيرات الحرب على العراق، وبُعثت الحياة مرة أخرى في كنعان مكيّة الذي أصبح أيضاً من مستشاري الحكومة الأميركية ومن أهم ضيوف مؤسسات اللوبي الصهيوني والمؤسسات المحافظة في الولاياتالمتحدة، يحاضر فيهم عن "قسوة" العرب وتجبرهم، وهي سمات كان خصص لها كتابه الأول عن العراق وكتابه الذي تلاه عن "القسوة والصمت". ها هو اليوم يعطي في جامعة براندايز الأميركية التي تصف نفسها على أنها تحت "رعاية يهودية" دروساً عن الثقافة العربية وعن "قسوة" العالم غير الغربي وهو لا يعني بذلك الصين أو الهند أو افريقيا أو حتى إسرائيل. يتنافس المئات، بل الآلاف، من حملة الدكتوراه كل عام على مناصب أكاديمية محدودة في السوق الأكاديمية الأميركية، بينما يجد مكية نفسه، وهو لم يدرس الشرق الأوسط ولا يحمل درجة دكتوراه في أي مادة، استاذاً للدراسات الشرق الأوسطية في هذه الجامعة، حيث المؤهلات المطلوبة، كما هو واضح، هي كراهية العرب والمسلمين لا التخصص الجامعي والخبرة الأكاديمية. ومكيّة، من دون كل زملائه في الكلية، الوحيد الذي لا يحمل درجة الدكتوراه باستثناء بعض معيدي اللغات. ومن الحِكَم التي يمطرنا بها مكية والتي جعلت عنصريي أميركا اليمينيين يعشقونه قوله مثلاً في كتابه "جمهورية الخوف" إن "للفكر التآمري جذوراً واسعة في القدرية المتطرفة والعداء للفردية التي يمكن اعتبارها من سمات الثقافة الإسلامية عموماًَ" ص100، متفقاً بذلك مع اطروحات دانيال بايبس، وهو الأميركي الليكودي العنصري الذي يكتب عن الإسلام. أما في كتاب مكيّة "القسوة والصمت" الذي يذكرنا بكتاب المستشرق والعنصري الإسرائيلي رافائيل باتاي "الذهن العربي"، فيقول مكيّة لقرائه الغربيين بأن العرب، على عكس الانكليز، لا يعتبرون التجشؤ العلني وقاحة، بل يعتبرونه من "عادات العرب في الضيافة"، والتي يزعم مكيّة أن العرب المعاصرين يمارسونها على مائدة العشاء ترحيباً بضيوفهم. هنا بالضبط تكمن أهمية مكيّة وفؤاد عجمي وأمثالهم في السوق السياسية والإعلامية الأميركية، فعندما يعلنون كعرب أمام الأميركيين آراء تدين ثقافة العرب والمسلمين وتنادي باستخدام العنف والعداء ضدهم، يتم اسكات الأصوات الأميركية العربية وغير العربية المناهضة للنهج الحربي للحكومة الأميركية. وعندما ينضم مكيّة، كما انضم فعلاً إلى طوابير اليمين الأميركي والليكود الصهيونية الكارهة للعرب، مؤكداً أن مواقف هؤلاء تجاه العالم العربي صحيحة بل ضرورية، يتنصل هؤلاء من أي تهمة بالعنصرية. فكيف يكون العداء السافر لدى هؤلاء للعرب والمسلمين عنصرية مع أن هناك عرباً أمثال مكيّة وعجمي يتبنون آراءهم، أو بالأحرى لعل هؤلاء الصهاينة يتبنون آراء هؤلاء العرب. إن السجال القائم حول كنعان مكيّة واتباعه ليس شخصياً البتة، بل هو سجال صريح مبني على اختلاف جذري في المبادئ، ومحاولة تصوير هذا السجال على أنه شخصي، هو تضليل لا أكثر. إن المدافعين الحقيقيين عن صدام ونظامه الفاشي هم هؤلاء الذين يطالبون بغزو أميركي لاستبدال صدام بصدام آخر. فلن يتحرر شعب العراق بتغيير شخصية الزعيم مهما أصرّت على ذلك أميركا وزبائنها. أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك.