تدشين مسار «لامة مدر» التاريخي بحائل بالشراكة بين البنك العربي الوطني و«درب»    مقتل 21 مسلحا ..وأردوغان يهدد أكراد سورية    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    الأمير عبد العزيز بن سعود يكرم مجموعة stc الممكن الرقمي لمعرض الصقور والصيد السعودي الدولي ومهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    مساعد وزير التعليم يدشن في الأحساء المعرض التوعوي بالأمن السيبراني    استشهاد فلسطيني متأثراً بإصابته في قصف إسرائيلي شمال الضفة الغربية    تركي آل الشيخ يتصدر قائمة "سبورتس إليستريتد" لأكثر الشخصيات تأثيرًا في الملاكمة    بسبب سرب من الطيور..تحطم طائرة ركاب أذربيجانية يودي بحياة العشرات    ميدان الفروسية بحائل يقيم حفل سباقه الخامس للموسم الحالي    تدشين أول مدرسة حكومية متخصصة في التقنية بالسعودية    "التخصصي" يتوج بجائزة التميز العالمي في إدارة المشاريع في مجال التقنية    "سعود الطبية" تعقد ورشة عمل تدريبية عن التدريب الواعي    الشر الممنهج في السجون السورية    "رحلات الخير" تستضيف مرضى الزهايمر وأسرهم في جمعية ألزهايمر    عائلة عنايت تحتفل بزفاف نجلها عبدالله    الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد اتفاقية تاريخية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    الإحصاء: ارتفاع مساحة المحميات البرية والبحرية في المملكة لعام 2023    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    "الرأي" توقّع شراكة مجتمعية مع جمعية يُسر بمكة لدعم العمل التنموي    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    أهلا بالعالم في السعودية (3-2)    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    الدوري قاهرهم    نقاط على طرق السماء    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من فصول تدمير التراث الحضاري العراقي . شراء القطع الأثرية تسمح به قوانين وتمنعه أخرى وفوضى العراق مسرح مفتوح 2 من 2
نشر في الحياة يوم 25 - 11 - 2003

العدوان على التراث الحضاري العراقي تمّ خلال فوضى عارمة أعقبت اجتياح الجيشين الأميركي والبريطاني العراق والقضاء على نظامه الصدّامي.
ولما كان هذا التراث يخصّ البشرية كلها تعالت أصوات تحمّل الجيشين المحتلين، خصوصاً الأميركي، مسؤولية ما حدث، وجرى اهتمام متفاوت بالكارثة، واسترجعت آثار مسروقة داخل العراق وضبطت أخرى مع مهرّبين عند معابر حدودية في الشرق العربي وأوروبا، لكن القضية لم تنته فصولاً وإن غابت عن اهتمام الاعلام في الفترة الأخيرة.
القضية هي موضوع كتاب للدكتور خالد الناشف لم ينشره بعد، عنوانه "تدمير التراث الحضاري العراقي - فصول الكارثة". نشرنا أمس عدداً من مقاطع الكتاب ونتابع اليوم وننهي.
قوانين بريطانيا تسمح بأن تباع التحف القديمة العراقية في شكل علني من دون خطر الملاحقة القانونية، كما أشار النائب ريتشارد ألان، الذي تقدم بمشروع لتعديل هذه القوانين، وقال: "ان أي شخص يريد حالياً بيع تحفة مسروقة يمكن ملاحقته قانونياً إذا حددت هوية المالك الأصلي للقطعة، ولكنه لا يلاحق إذا لم يكن بالإمكان الوصول الى المالك الأصلي، هذه هي الثغرة، التي نحاول سدها". وقد يفيد ميثاق اليونيسكو حول "وسائل تحريم ومنع الاستيراد، التصدير، والنقل غير الشرعي لملكية الممتلكات الثقافية" من عام 1970، الذي وقعت عليه بريطانيا والولايات المتحدة من بين 97 دولة، غير ان استعادة الحقوق بحسب البند 13 من هذا الميثاق تعتمد على القوانين المحلية، كما أشار غويدو كاردوتشي من اليونيسكو. ويبدو مدى اهتمام الحكومة البريطانية ب"سد هذه الثغرة" بالموقف غير الحازم لوزيرة الثقافة البريطانية تجاه الموضوع، وبخاصة اذا علمنا ان الكثير من تجارة التحف يمر عبر أسواق لندن، وأن حجم "الصادرات" من التحف في بريطانيا يبلغ 50 مليون جنيه استرليني سنوياً، وأن 65 - 90 في المئة من هذه القطع غير معروف المصدر، أي انها مسروقة.
ومهما كان شكل القوانين المطلوب تغييرها، فإن الموضوع يعني، ضمن الظروف غير الطبيعية التي يعيشها العراق، تشريعاً لنهب المواقع الأثرية بحثاً عن القطع الأثرية وعرضها في سوق التحف القديمة.
ويظهر موقف المتاحف العالمية وكأنه يسمو على النقاش حول امكان تعديل القوانين العراقية لتسهيل خروج التحف الفنية أو القطع الأثرية الى الغرب. وبالتأكيد لا يعني الموضوع، في قليل أو كثير، المتاحف الكبرى، كالمتحف البريطاني، اللوفر، أو متحف الشرق الأدنى في برلين، التي كانت استولت منذ القرن التاسع عشر على جزء كبير من التراث العراقي القديم. غير أن متاحف "أقل شأناً" وأحدث عهداً بهذا التراث، كمتحف ميتروبوليتان للفنون في نيويورك، لها رأي آخر عبّر عنه فيليب دو مونتيبيلو، مدير المتحف. فبعد حوالى شهرين من نهب المتحف العراقي ومتحف الموصل كان الميتروبوليتان يعرض "فنون المدن الأولى - الألف الثالث ق.م. - من المتوسط الى نهر السند"، وهو معرض يضم في شكل رئيس تحفاً قديمة من العراق، بعضها مميز جداً، مثل "رأس الثور" المحلى بالذهب وأحجار اللازورد من متحف جامعة بنسلفانيا، وغيرها من متاحف أخرى. وبهذه المناسبة طعن دو مونتيبيلو بمشاريع المطالبة بإعادة هذه القطع الى بلدانها الأصلية، مشيراً الى أن معظم القطع التي يضمها المعرض "جاء نتيجة نظام التقسيم الذي كان قائماً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
... والصهيونية؟
أجريت في العراق حملة بحث محمومة عن "أقدم نسخة من التلمود في العالم"، يفترض انها كانت موجودة في مقر الاستخبارات، قامت بها مجموعة من الجنود الأميركيين من "فريق ميت - ألفا"، الذي كان يبحث عن "أسلحة الدمار الشامل"، برفقة أعضاء من "المؤتمر الوطني العراقي". ولم تعثر الفرقة إلا على كتب دينية يهودية، من بينها نسخة تلمود مطبوعة في فيلنا، ليتوانيا، تعود الى القرن التاسع عشر، الا ان التقرير الذي كتبته جوديث ميللر من ال"نيويورك تايمز"، لافت في أكثر من جانب. ف"فريق ميت - ألفا" كان متردداً في بادئ الأمر في قبول طلب البحث عن النسخة التلمودية، تلبية لطلب أعضاء من "المؤتمر الوطني العراقي"، لأن مهمته تنحصر في "إثبات وجود أسلحة غير تقليدية، وليس إنقاذ الكنوز الحضارية والدينية". ويبقى اهتمام بعض اعضاء "المؤتمر الوطني العراقي" بالعثور على نسخة قديمة من التلمود موضع تساؤل، إذ لا يبدو ان المسألة هي للحفاظ على التراث العراقي، على اعتبار ان التلمود البابلي المفترض هو جزء من هذا التراث. ومن الصعب التصور ان اعضاء "المؤتمر الوطني العراقي" مهتمون بالتراث اليهودي بحد ذاته. لذا فمن المؤكد أن هناك من يقف وراء هذا الاهتمام الزائد بنسخة من التلمود حتى يقوم بالبحث عنه "فريق ميت - ألفا".
وفي مقال له في ال"وول ستريت جورنال" دعا هيرشل شانكس الى شراء القطع المنهوبة تعبيراً عن رفضه لموقف "المؤسسة الأميركية للآثار"، التي تدين بيع جميع التحف الأثرية، وبحسب تعبيره فإنها تشوه بذلك سمعة هواة جمع التحف، وتنظر الى تجار التحف كوسطاء بين اللصوص والهواة، الذين يشملون، كما يقول، "متحف ميتروبوليتان للفنون" نيويورك و"متحف الفنون الجميلة" بوسطن. وبالنظر الى أن قطعاً ثمينة جداً قد نهبت من "المتحف العراقي"، فإن شانكس يرى انها ستصل يوماً ما الى السوق السوداء. ولئلا يكون مصير تلك القطع هواة جمع التحف، فإنه يدعو المؤسسات العامة الى المشاركة في عملية شرائها الآن قبل أن تصبح أسعارها باهظة جداً حتى "تستعيد القطع مكانها في مؤسسات عامة، وربما يوماً ما، في المتحف العراقي". وإذا كان في ما يقوله شانكس تكريس لنهب الآثار والتحف والمتاجرة بها، فإنه لا يمانع بأن تنتهي القطع الى مكان عام، غير مكانها الأصلي. ويمكن أن يؤخذ هذا الكلام على محمل الجد لو لم يكن كاتبه هيرشل شانكس، محرر "مجلة آثار الكتاب المقدس" الأميركية. فهذه المجلة هي الواجهة الرئيسة في العالم، خارج إسرائيل، التي تستغل الآثار الفلسطينية في دعم المقولة الزائفة بالحق التاريخي لليهود بأرض فلسطين، وهي مجلة موجهة الى الجمهور العام، بمقالات مبسطة يكتبها آثاريون ومؤرخون من اسرائيل وخارجها. وإن كان يبدو ان لشانكس، في مقاله، موقفاً سلبياً من هواة جمع التحف القديمة "الذين يخبئون هذه القطع لمتعتهم الخاصة"، فهو لا يبدي هذا الموقف في مجلته مع هؤلاء بالذات، ومن بينهم الثري اليهودي، جامع التحف القديمة، شولوم موساييف، غير البعيد عن موضوع سرقة آثار العراق.
ففي عام 1998 رفعت الحكومة العراقية دعوى ضد موساييف، اليهودي البريطاني، في محاولة لاسترجاع منحوتة تبين انها سرقت من موقع نينوى الأثري. وتفاصيل القضية ان موساييف كان يحاول "تصدير" هذه القطعة الى اسرائيل، فتوجه الى "متحف بلاد الأرض المقدسة" في القدس للاستفسار حول ما إذا كان هذا المتحف "يرغب بعرض هذه المنحوتة"، وقدم طلباً الى السلطات البريطانية للحصول على تصريح بالتصدير. ولإتمام شكليات الصفقة، أرسل المتحف الاسرائيلي صورة من هذه القطعة الى جون مالكولم راسيل، خبير الآثار الرافدية، وبخاصة آثار نينوى، للتأكد من أن القطعة لم تسرق. غير أن الأخير أكد أنه كان صور المنحوتة في موقعها، في نينوى، عام 1989، ما يعني ان القطعة مسروقة. وكان موساييف اقتنى القطعة من تاجر تحف في سويسرا "بنية حسنة"، بحسب أقوال محاميه، الذي نفى أن يكون موكله يتاجر بالتحف الفنية. والقضية هنا تتعدى التجارة بالتحف القديمة وتشير الى التورط بإدخال آثار مسروقة الى اسرائيل.
في ختام كلمته في المؤتمر الذي نظمه الانتربول في بداية أيار مايو 2003، يقول وزير العدل الأميركي: "في منطقة تحفل بتراث تاريخي لا مثيل له، ستجتذب بلاد بابل ونينوى السياح، الفنانين، العلماء، ورجال الأعمال، وهذه كلها علائم مجتمع منفتح وحر". وبالفعل، اجتذبت بابل الأميركية، الى جانب الصحافيين الاسرائيليين، الاسرائيليين من يهود العراق، واليهود الباحثين عن العقارات، ورجال الدين اليهود، كالنقيب في الجيش أفروهام هوروفيتس من "قوة طلائع المارينز الأولى" الذي كان يدلي بمعلومات لأحد مراسلي قوات المارينز حول بابل، ربما من الموقع الأثري نفسه.
يقول أحمد الكبيسي، الذي قام بعد عودته الى العراق بتشكيل "الحركة العراقية الوطنية المتحدة"، ان "الارتباط بين بابل وفلسطين عضوي... ولن تفترقا من وجهة النظر الأميركية واليهودية". كما يدعو الى اعادة اعمار العراق، على رغم وجود قوات الاحتلال، وبمشاركة جميع الفئات من "سنّة، وشيعة، ويهود وغيرهم"... علماً أن عدد اليهود اليوم في العراق يبلغ 120 نسمة لا غير، معظمهم من كبار السن غير القادرين على "الاعمار". ويبقى السؤال: اي فلسطين هذه التي يتكلم الكبيسي على ارتباطها العضوي ببابل، فلسطين العربية الحقيقية أم تلك الدويلة المصطنعة القائمة على أراضيها؟
كانت "منظمة التربية والعلوم الثقافية" التابعة للأمم المتحدة اليونيسكو إحدى أولى المنظمات التي طالبت بالحفاظ على التراث العراقي، وذلك بإعلانها عقد اجتماع لحوالى ثلاثين خبيراً عراقياً ودولياً، في السابع عشر من شهر نيسان ابريل، لإجراء تقويم أولي لوضع هذا التراث وتحديد تدابير طارئة ينبغي اتخاذها لحمايته. وعلى رغم النبرة الحازمة لكلمة الافتتاح للمدير العام لليونيسكو كويشيرو ماتسورا في اللقاء المذكور، فإن دور اليونيسكو في الحفاظ على تراث العراق الحضاري يبقى مبهماً، إذ لم يكن للمنظمة دور يذكر في هذا الشأن، باستثناء مهمات تدريبية وتقديم الدعم الفني في مجالات الترميم والحفاظ على اصروح المعمارية، من دون ايضاح حجم هذا العمل. فمن بين المواقع، التي سجلت في "لائحة التراث العالمي" لليونيسكو 1985 لم يكن هناك إلا موقع الحضر الأثري، "المدينة العظيمة، التي تجمع تأثيرات يونانية ورومانية وشرقية"، على حد تعبير اليونيسكو. وليس هناك ما يفسر اختيار هذا الموقع بالذات، في حين أن هناك الكثير من المواقع التي تستحق ان تدرج في اللائحة مثل أوروك، أور، كيش، وغيرها من الفترات القديمة، أو المدائن، وفيها إيوان كسرى، وسامراء من فترات أحدث. ويبدو ان اعتبارات الاختيار شكلية، مثل وجود معالم على السطح أقرب الى الذوق الغربي كالمعابد والأسواق والقاعات العامة اليونانية او الرومانية. وفي شكل عام، فإن اختيار موقع الحضر دون غيره يتناقض في شكل فاضح مع التكرار الممل بأن العراق "مهد الحضارات"، في حين أنه لا يوجد أفضل من مدينتي أوروك أو أور لتمثيل هذا "المهد". وكانت اليونيسكو بحثت أمر إدراج بعض المواقع مع السلطات العراقية بين أعوام 2000 و2002، ولا يفهم لماذا أدرجت أشور قلعة شرقاط، في لائحتي "التراث العالمي" و"التراث العالمي المهدد" لليونيسكو في اجتماع الدورة السابعة والعشرين ل"لجنة التراث العالمي" لعام 2003، في حين أن مشروع السد الذي كان سيبنى في المنطقة قد علق من "الإدارة" الحالية.
قواعد بيانات
الكثير من الجهود المبذولة لاستعادة التراث العراقي تمثلت بالتركيز على انشاء قواعد بيانات بالقطع المسروقة كخطوة أولية وضرورية لتقويم حجم الأضرار، ولتوزيع هذه القوائم على هيئات فرض القانون وتجار الفن. وإذا كان مبرراً أن تكون قوائم كهذه متوافرة لسلطات الجمارك، مثلاً، فإنه من الصعب تبرير توزيع هذه القوائم على تجار الفن، أو إشراكهم في جهود ترميم التراث العراقي أو الحفاظ عليه، كدعوتهم الى المؤتمرات الدولية الخاصة بالموضوع. ففي مؤتمر الانتربول، الذي عقد في ليون في بداية ايار مايو 2003، شارك جيمس إيد، المدير التنفيذي ل"الرابطة الدولية لتجار الفن القديم"، الذي صرح بأن رابطته زودت أعضاءها بتعليمات ب"ألا يشتروا قطعاً من وادي الرافدين أو يتاجروا بها من دون اثبات مصدَّق لمصدر القطعة". ويعتقد الأخير ان "الضرورة الملحة لإعادة القطع الى العراق ينبغي ألا تشكل عذراً لتعليق قواعد الحقيقة، وانه من الضروري إثبات السرقة عندما تظهر في عالم الفن بدلاً من النظر في شكل تلقائي الى أي قطعة رافدية بأنها تجسد فعلاً اجرامياً".
وفي النقاش الواسع والمسهب في المؤتمر حول طبيعة قواعد البيانات المطلوبة، وكأنها الوصفة السحرية لمعالجة الوضع، ظهرت مشكلة غير متوقعة، وهي أن قواعد البيانات العلنية سيستفيد منها أيضاً اللصوص، ربما أكثر من هيئات فرض القانون. ويقول جوليان رادكليف، رئيس "قائمة الأعمال الفنية المفقودة" لندن ان لصوص الفن سيستخدمون قواعد البيانات العلنية ليتأكدوا من إدراج قطعة موجودة في حوزتهم. ويضيف فيرنون رابلي من "نيو سكوتلانديارد" ان "في إمكان المجرمين الرجوع الى قاعدة البيانات والادعاء ان أي قطعة لا تتضمنه هي شرعية". وان كان السيد رابلي حصر الموضوع بالشرعية وغير الشرعية، فإننا نضيف ان في قواعد البيانات هذه فوائد جمة لمجرمي الفن، في أنهم يتعرفون على التحف وأهميتها، وهكذا يستطيعون توجيه تحركاتهم اللاحقة في شكل أفضل.
تهميش الحدث
لم يمض وقت طويل على عملية التدمير الشامل للتراث الحضاري العراقي، حتى بدأت تعلو أصوات تحاول التقليل من حجم الكارثة: ففي نهاية شهر نيسان كان الجنرال تومي فرانكس، قائد ما يسمى بقوات التحالف، يقول: "أخذ الكثير من العراقيين يتصلون بنا هنا في العراق ويقولون: في الحقيقة، نعرف أين يوجد العدد الأكبر من القطع". وبالإشارة الى تحف مميزة أمكن استعادتها ساد اعتقاد بأن ما تبقى من القطع المفقودة لا يتجاوز العشرات. فمثلاً، قال الفريق سكوت وليامز إنه لم يعد هناك إلا سبع عشرة قطعة ما زالت مفقودة، من دون الإيضاح ان المقصود هو التحف المميزة. ولم يجد وليامز سوى "متحف الجندي المجهول"، الذي لم تذكره التقارير، ليشدد على أنه لم ينهب بفضل وجود القوات الأميركية. وقد ردت على هذه الحملة، التي تتجاهل مقتنيات المتحف العراقي ككل، "لجنة التنسيق الأميركية للتراث الحضاري العراقي"، التي شكلت في مطلع أيار، قائلة إن الموضوع لا يقتصر على القطع الثمينة، فهناك "أصناف كثيرة من القطع والوثائق والمواقع والبقايا المادية، لا بل حقب حضارية بأكملها تمتد الى آلاف السنين، فقدت أو تعرضت لخراب كبير".
واستمرت حملة التهميش حتى حزيران يونيو، على رغم توالي الأنباء عن عمليات النهب للمواقع الأثرية والمتاحف الاقليمية، هذه المرة بالادعاء بأن وسائل الإعلام بالغت في وصف الحدث وبالتشكيك بصدقية دوني جورج، مدير عام الأبحاث في هيئة الآثار والمتاحف العراقية. ففي التاسع من حزيران، بثت هيئة الاذاعة البريطانية برنامجاً ادعى فيه دافيد كوريكشانك بأن المتحف كان هدفاً عسكرياً مشروعاً وأن النهب قد نظم "من الداخل". وشكك البرنامج بكفاءة موظفي المتحف لأنهم كانوا ينتمون الى حزب "البعث". وفي اليوم التالي نشرت "الغارديان" مقالاً لدافيد آرونوفيتش تحت عنوان: "ما فقد من متحف بغداد هو الحقيقة"، التي يجدها آرونوفيتش في نتائج فريق التحقيق الأميركي برئاسة بوغدانوس بدون الإشارة اليه. وكان فريق التحقيق المذكور قد مهد لحملة التهميش بالاشارة الى أن رقم "170000 قطعة"، الذي أوردته وسائل الإعلام في البداية، هو "مبالغة دراماتيكية"، أو في الإشارة الى أن ما تبقى من قطع مميزة ما زالت مفقودة هو قليل جداً، وبتبسيط مضحك قال: "25 ليست الشيء نفسه ك170000". وآرونوفيتش لا يوضح للقارئ ان ال170000 هو الرقم تسلسلي حصلت عليه وسائل الإعلام بعد الاستفسار عن حجم مقتنيات المتحف، ولم يقصد به أحد عدد القطع المنهوبة أو المفقودة. أضف الى ذلك ان رقم "170000" لا يعكس وضع المقتنيات الفعلي، فهناك مجموعات من قطع متعددة تحمل رقماً واحداً، بحسب سلمى الراضي جامعة كولومبيا، التي تعمل بتكليف من اليونيسكو لتقويم الأضرار الحاصلة.
وكان آرونوفيتش شكك بحجم الكارثة، التي حلت بالمتحف العراقي، في مقال نشر له بعد الحدث مباشرة تحت عنوان: "هل كان ذلك النهب سيئاً الى هذا الحد؟"، وفيه ينتقد ردود الفعل التي دانت عملية النهب، واعتبرت ان الشعب العراقي فقد ماضيه، أو من سمح لنفسه بالقول إن المتحف العراقي يمنح الناس إحساساً بهويتهم ومن أين جاؤوا. ويلتقط آرونوفيتش هذه العبارة ليذكرنا: من أين جاء العراقيون فعلاً عندما يشير الى "حرب عراقية أخرى" عرضت في إحدى اللوحات الجدارية الآشورية في المتحف البريطاني، التي تصور "جنود الملك الآشوري آشوربانيبال يحرقون مضرباً من مضارب العرب ويفتكون بالنساء". وكان الكاتب استبق هذه الملاحظة بقوله: "ان المتاحف كثيراً ما تخبرك عن شعوب أخرى أكثر مما تفعله عن نفسك". ان رائحة نتنة تنبعث من هذه العبارات، التي تذكر بإدانة الضحية مهما كلف الأمر.
ويكرر آرونوفيتش ما ذكرته الصحيفة الألمانية "فيلت أم سونتاغ" بتاريخ الأول من حزيران من أن دوني جورج نقل عن شهود عيان انهم رأوا جنوداً أميركيين يدخلون المتحف في التاسع من نيسان ويخرجون منه بعد ساعتين وهم يحملون بعض القطع. وبناء على الصحيفة نفسها قال جورج: "ان شخصاً أخبره اثناء اجتماع في أحد المطاعم في لندن انه ينتظر بفارغ الصبر الدخول الى المتحف برفقة الجنود الأميركيين ليسلبه سلباً جيداً". وبصرف النظر عما قاله جورج للصحيفة الألمانية، فما الذي يمنع من تصديقه؟ أليس في ما سمعه تعبير آخر عن الاستباحة الشاملة لمقادير بلد وثرواته من استعماريين جدد كما وصفهم روبرت شير؟ وفي النهاية يصف ارونوفيتش جورج بأنه من "أعضاء جهاز نظام فاشي"، مكرراً ما ادعاه كرويكشانك من انتماء جورج الى حزب "البعث" من دون الى يشير أين الخطأ في ذلك، وما علاقة ذلك الصدقية، ومذكراً القارئ بأن قاموس مصطلحات الحرب الباردة ما زال مجدياً لاستخدامه ضد شعوب العالم الثالث.
تقول هارييت كروفوت، رئيسة "المدرسة البريطانية للآثار" في العراق وإليانور روبسون من "أول سولز كوليج" في أكسفورد انهما تحملان "تقديراً عالياً لشخص دوني جورج وزملائه كونتاه أثناء العمل معهم طوال العقدين السابقين وفي فترة صعبة للغاية، من الحرب العراقية - الإيرانية حتى الأشهر التي سبقت الصراع الحالي، انه يستحق ثناء العالم وليس ادانته لانقاذه الكثير من كنوز العراق ولدعمه القوي في شكل عملي للمتحف حتى يتمكن من العمل في شكل سليم". غير ان هذه الشهادة وغيرها لمصلحة دوني جورج لم تجدِ نفعاً لايقاف الحملة التي اثارتها صحيفة "الغارديان" ضده من جديد، بعد أن نشرت مقالاً تقول فيه ان عدداً من موظفي دائرة الآثار العراقية قدموا التماساً يطالبون فيه باستقالة "مديري المتحف". ويرى هؤلاء ان بعض السرقات "كانت عملاً داخلياً" واتهموا جورج بأنه أمرهم في الأيام الأولى من بداية "الحرب" بأن يقاتلوا الأميركيين. وذكر ناطق باسم "سلطة التحالف الموقتة" في سياق اختيار مديرين جدد للمتحف ان عضوية جورج في حزب "البعث"، التي كان أقر بها، قد "فحصت"، وان "ساحته بُرِّئت، وأي شيء آخر يقال عنه هو اشاعات". وفي ما يبدو ظاهرياً أنه موقف ضد سلطات الاحتلال، تختتم الصحيفة المقال بالقول إن هناك تفضيلاً من هذه السلطات لإداريي أو موظفي المتحف السابقين، المعروفين بعلاقتهم الوثيقة مع النظام السابق، ومن بينهم جورج "الذي كان يتباهى بأن لديه اتصالاً مباشراً بصدام حسين، ناهيك عن دوره في نهب الكويت"! وبالطبع تلقفت صحيفة "فيلت أم سونتاغ" الموضوع، من دون أن تشير الى موقف "سلطة التحالف الموقتة" من دوني جورج، ولتشكك في شكل عنصري بحق الشعب العراقي بحضاراته السابقة بالقول: "السؤال المطروح هو كيف يمكن فهم الهوية الحضارية للعراقيين، في ظل الادعاء بأنها مستمدة من ماضي وادي الرافدين بسبب متحف بكنوزه، التي خُبِّئ القسم الأكبر منها ولم يكن في الإمكان مشاهدتها، ككنز نمرود". وما لم تشر اليه هذه الصحيفة الألمانية هو أن كنز نمرود قد نشر في المانيا عام 1999، إضافة الى ما ذكر سابقاً من رغبة "المتحف الروماني الجرماني" في تنظيم معرض لهذا الكنز.
وعلى رغم اقرار جون بلوم بأن ما حصل هو أكبر عملية سرقة للتحف عرفتها الذاكرة البشرية، فإنه لا يتردد في اثارة الشكوك حول دوني جورج وغيره من موظفي هيئة الآثار والمتاحف العراقية، عندما يكتب أن ما حصل هو أمر مدبر للتغطية على السرقات التي حصلت في التسعينات، حتى انه يتساءل: "هل وضع كنز نمرود في قبو البنك المركزي لحمايته أو حتى يكون في مقدور صدام حسين الحصول عليه إذا كان يرغب ببيعه... أو حتى الأسوأ ليصهر ذهبه؟ أي، هل كان دوني جورج يتعاون مع صدام حسين أم كان يدافع عن المتحف أمام جشع الأخير وولديه؟". أما القوات الأميركية فتنحصر مسؤوليتها في انها انتقلت في العاشر من نيسان من منطقة المتحف الى معارك أخرى من دون أن تترك وراءها قوات تحمي الموقع.
* أكاديمي أردني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.