أدخل الغزو الأميركي للعراق وإسقاط النظام الحاكم فيه طريقة جديدة للتغيير السياسي في البلاد العربية، تضاف إلى الطرق الثلاث التي عرفتها في مرحلة ما بعد الاستقلال. سمى الأميركيون طريقتهم "تغيير الأنظمة" بكل بساطة، أما الطرق الثلاثة الأخرى فهي الانقلاب العسكري والانتخاب الديموقراطي، ثم وفاة الحاكم المعمر على كرسي حكمه. وكان قد بدا لبعض الوقت أن الآلة السياسية المضادة للتغيير وصلت الى حد الكمال في معظم الدول العربية. فقد أمكن وأد احتمال الانقلاب العسكري دون تقديم أي تنازل لمصلحة التغيير الديموقراطي. وحتى الموت الطبيعي أمكن التحايل عليه عبر توريث الحكم تبعاً لخط النسب بما يلغي المفعول التغييري المأمول للتدخل الإلهي. هكذا بدا أن الوظيفة الأساسية للنظام منع التغيير بكل الوسائل، حتى لو اقتضى ذلك تحطيم المجتمعات المحكومة، وهو اقتضى ذلك بطبيعة الحال. إذ التغيير وظيفة حيوية لا غنى عنها للاجتماع البشري، ولا يمكن إلغاؤها دون قتل حيوية المجتمعات وردها كماً بشرياً عاطلا. آخر حكم عربي تغير فعلا بوفاة الحاكم هو حكم الرئيس جمال عبد الناصر في مصر. فقد نجح أنور السادات في الانقلاب عليه بعد وفاته. ولعل هذا النجاح هو الذي ألهم أكثر من رئيس عربي معمّر فكرة التمديد لنفسه بعد الوفاة بوضع ولده مكانه، قاطعا بذلك الطريق على أي انقلاب يلي الموت، ومُرسياً نموذجا جديدا لنظام الحكم نسميه الجمهوريات العضوض تيمناً بالتحول إلى الملك الوراثي العضوض بعد الخلافة الراشدة التي تلت وفاة نبي الإسلام. وكعادتها كانت سورية طليعية في هذا المجال، ويعتقد أن ثلاث دول عربية على الأقل تفكر في الاقتداء بالمثال السوري، فيما حذف الأميركيون مقتدياً رابعاً هو نظام صدام حسين في العراق. ومثال "تغيير النظام" الذي ضربه هذا الحذف العنيف هو بالضبط الاحتمال الذي لم تتحسب له الآلة السياسية العربية. ولعل نظم الحكم في جهتنا من العالم لم تتحسب له لأن ثبات النظام الدولي هو الافتراض المضمر في بناء آلتها السياسية. لقد قامت هذا الآلة على تجييش المجتمع وعسكرته بما يمنع تكوّن أطراف سياسية فعالة تجبر النظام العضوضي على التفاوض معها، ثم على تسييس الجيش وتأمينه بما يجعل احتمال الانقلاب العسكري مستحيلا. وعلى رغم أن معظم الأنظمة العضوض، الجمهورية منها بصورة خاصة، يقودها عسكريون فإنها النظم التي روّضت الجيوش أكثر من غيرها. وقد تم لها ذلك بأسلوبين: تقسيم الجيش جيوشاً متفاوتة الامتيازات، بينها جيش نخبة واحد على الأقل هو بمثابة حرس بريتوري للنظام العضوض، ثم قطع الرؤوس العسكرية الكبيرة تباعا، وتسليط "المدنيين" على العسكر خلافاً لانطباع شائع. والمدنيون المقصودون حزبيون ومفوضون عقائديون و"أقرباء" ورجال أمن، بل حتى عسكر "منحلون" ومضادون للجيش. والحال ان تجييش المجتمع غير ممكن دون نزع اجتماعيته، بقدر ما أن تسييس الجيش مستحيل دون نزع عسكريته ونزع سياسيته ايضاً، أي تجريده من فاعليته السياسية المستقلة، من كونه طرفا بل "حزباً" سياسيا. وهذا التسييس المضاد للسياسة ممكن عبر تغيير معنى السياسية. فالسياسة العضوض ولائية تتكثف كلياً في صاحب السلطة وحوله، والتسييس، بهذا المعنى، التفاف إلزامي حوله وولاء نشط له بقدر ما هو إلغاء للحياد والاستقلال والذاتية. وعبر تغيير معنى السياسة حققت هذه الأنظمة العضوض معادلة كانت تبدو مستحيلة: إبعاد الجيش عن السياسة دون أن يصير جيشا محترفاً. فالسياسة المنزوعة من الجيش هي عسكريته بالذات، أعني استقلاله بقواعد عمل نوعية وسلطة ذاتية مستقلة لا تلتبس بغيرها. ومن هنا تبذيل الرتب كعلامات لهذه السلطة النوعية ومقاييس لها في الوقت ذاته: فلا سلطة بلا ندرة ولا نزع للسلطة دون تبذيل. ونزع الاجتماعية عملية عنيفة تستهدف بدورها عصر ماء السياسة من المجتمع و"تجفيف مستنقعها" الإرهابي بالضرورة بما يعطل القدرة الاجتماعية على إنتاج إرادة عامة أو تمثيل عام أو أحزاب سياسية. وفي غير بلد عربي وصل التجفيف إلى حرق الأرض الاجتماعية وتبويرها أو تصحيرها، كي لا تنبت عليها الأحزاب تماما كما أحرقت الجيوش كي لا ينبت عليها الانقلابيون. فالسياسة "روح" المجتمع أو مقوّم اجتماعيته، وحين يتم تجفيف السياسة يموت المجتمع الذي لا تبقى منه غير قشور يابسة. وإنما عبر هذا النزع المزدوج للذاتية، الاجتماعية الذاتية والعسكرية الذاتية، أمكن التخلص من احتمالات التعدد السياسي والانقلاب العسكري معاً. وفي إطار هذا النزع العام للذاتية الذي يتجاوز المجتمع والجيش الى الثقافة والإعلام والانشطة الانتاجية والقضاء، تتكثّف الذاتية كلها، والسياسة كلها بالتالي، في شخص واحد أو قطب واحد هو صاحب السلطة. إنه بمثابة ثقب سياسي أسود: كل شيء ينجذب إليه، لكن الاقتراب منه خطر ومميت. فالأنظمة العضوض كلها أنظمة "مشخصنة" أو أنظمة قطب واحد، تتناسب شدة صفتها العضوضية مع شدة شخصنتها، وبالعكس يصلح انخفاض الشخصنة مؤشراً على تراخي العض على السلطة. والملاحظة العيانية تقول إن تخلع أسنان السلطة، أي هرمها، هو السر في تراخي عضتها على "الملك". فالملك العضوض خاضع لهرم لا يرتفع إذا حل وفقاً لقوانين ابن خلدون القدرية التي لا ترحم. في عالم اليوم، لا يمكن ترك الدول للتحلل الحر أو القدري. والآلة العضوض لا تستطيع التحسب لمخاطر التغيير الداخلية والخارجية في آن. فهي، أصلاً، لم تستطع البقاء، بعدما دمرت أسس بقائها الداخلية، إلا باستبطان الخارج والاستسلام لقضائه وقدره. فأمسى تغيرها، بما فيه بقاؤها وزوالها، خاضعاً لخطط تتجاوزها، ولم يعد التحلل منهجا للتغيير في مجالنا العربي. إننا محرومون من حرية الاهتراء. فعالمنا الذي عرفناه خلال عقود يتغير بسرعة قد لا ندركها نحن المنجرفين في جوفه. واجتماع هرم الداخل وتحلله وتدفق الخارج منذ 11 أيلول سبتمبر 2001، بعد سقوط بغداد بخاصة، يتواطآن على استئناف التغيير دورته في حصتنا من "الشرق الأوسط". فالتغيير واقع، وفاعل التغيير ليس ذاتياً. هذا يُسمى انجراف.