في حديث له الى الصحف العربية ذكر السفير مارتن انديك مساعد وزيرة الخارجية الاميركية "أن ظاهرة التحديث وتغيير الاجيال في الشرق الاوسط على المستويين القيادي والشعبي ظاهرة مهمة المطلوب متابعتها، خصوصاً عملية انتقال السلطة الى الجيل الجديد. فقد حدث ذلك في اسرائيل مع وصول بنيامين نتانياهو ومن بعده ايهود باراك الى السلطة. وحدث في الاردن بوصول الملك عبدالله بدلاً من الامير الحسن، وحصل ايضاً في البحرين. ونرى الآن في دمشق طبيب عيون يُحضِّره والده لتسلم الزمام، كما يُحضِّر الملك الحسن الثاني ابنه لتسلم السلطة... جيل شاب جديد يجري تحضيره لتسلم السلطة تعلم في الغرب وسيجلبون الى الحكم نظرة عصرية". وهذه ملحوظة ذكية من السفير انديك تعتبر نادرة من ضمن ملحوظاته التي يوجهها وتتصف بقصر النظر وعدم المعرفة والاثارة التي ترتفع احيانا الى حد الغضب. وعلى رغم المشاعر الشخصية فالموضوع مهم يحتاج البحث فيه الى ورش عمل محدودة وجادة لتحديد التوقعات التي يمكن ان تحدث خلال عشرين او ثلاثين عاما على سبيل المثال. ونحن من دعاة تداول السلطة ليتواءم ذلك مع توالي الاجيال، شرط ان يكون ذلك بصفة جدية، وإلا نكون كمن "يفسر الماء بعد الجهد بالماء". فالتحديث لا يعني ابداً مجرد تغيير الوجوه او الاسماء او الاجيال، ولكن يعني في حقيقة الامر ذلك كله ويزيد عليه تغيير الافكار والسياسات وآليات تنفيذها لتدعيم الثوابت وتنفيذ المتغيرات، لا لتساير "العولمة" فقط، بل لتعزز "العوربة" ايضاً في الوقت نفسه، على رأي الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. وفي هذا المجال لا أنسى ابداً ما كان يقوله لي الصديق السياسي الثعلب العراقي المرحوم صديق شنشل، وأنا أعمل سفيراً لبلادي في العراق: "يا أبا هشام... رباط العنق هذا هو تماما كالعقال، فبدلاً من ان نلفه حول الرأس لففناه حول العنق". كان ذلك في الستينات ولا أظن ان الامر تغير كثيراً ونحن على ابواب القرن الواحد والعشرين. في اسرائيل - كما لاحظ انديك - حدث تغير كبير في المؤسسة العسكرية في العام الاخير. وكلنا يعلم ان هذا شيء مهم لاعتماد اسرائيل على هذه المؤسسة في البقاء، بل وكونها احد المنابع لإفراز القادة السياسيين الى جانب الاحزاب. شمل التغيير المناصب العليا في الجيش، أحيل بموجبه عدد من الضباط القدامى الى التقاعد لإفساح المجال امام طاقم من القادة الشبان. ولهذا دلالاته في ثلاثة اتجاهات خاصة بالسن، والمستويات العلمية، والبنيات الطائفية الطبقية - كما لاحظ محمد خليفة في مقاله المهم في مجلة "الحرس الوطني" السعودية في عدد ايار مايو 1999 - ولوحظ في من شغلوا المناصب العليا في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية، سواء في رئاسة الأركان أو قادة المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية او الاستخبارات العسكرية انهم جميعاً من "الصابرا" الذين ولدوا في اسرائيل او انتقلوا اليها في مرحلة الطفولة ولم يفدوا من "الدياسبورا" كالاجيال السالفة. وكذلك لوحظ ان جميعهم ولدوا بعد تأسيس الدولة و إعلان الاستقلال، وان اعمارهم ترتيباً على ذلك لا تتجاوز الخمسين عاماً. فرئيس الاركان الجنرال شاؤول موفاز من مواليد 1948، وولد باقي الجنرالات بعد ذلك، لدرجة ان اهم المناطق العسكرية، وهي المنطقة الشمالية التي تواجه سورية ولبنان، يتولى قيادتها الجنرال جابي، وهو اشكنازي من مواليد عام 1954، أي لا يتجاوز عمره 44 عاماً. واذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو ورئيس الوزراء الحالي باراك من جيل "الصابرا" ايضاً، وهما يختلفان بذلك عمن سبقوهما من رؤساء الوزراء الذين كانوا من مواليد الشتات او من جيل المخضرمين الذين ولدوا على ارض فلسطين قبل ان تصبح اسرائيل، ولذلك فهم لا يعرفون لهم بلداً الا اسرائيل، ولهذا معناه ومغزاه. وحافظ المستوى العلمي للقيادة العسكرية على تطوره المستمر، فمعظم القادة الجدد حصلوا على شهادات علمية تميز تخصصاتهم العسكرية، سواء في ادارة الاعمال او الرياضيات او الفيزياء او العلوم السياسية. فهل لهذا علاقة باحتمال تطور المنطقة الى حال السلام البارد اذا تحقق الاتفاق بين اسرائيل والبلاد العربية على حل المشاكل القائمة، ما يساعد المؤسسة العسكرية على التكيف مع الميادين الاخرى غير الحرب المباشرة التي سوف يجري فيها الصراع والمنافسة؟ على اي حال، يركز القادة الآن بصفة أساسية على الحد من حجم العنصر البشري في جيش الدفاع بدءاً من قوات الاحتياط. ولا علاقة لذلك بحال السلام او الحرب مع العرب، ولكنه يرجع الى رفع المستوى التكنولوجي في المعدات العسكرية مع زيادة نسبة اعداد المتخصصين والمهنيين، وكذلك زيادة الاعتماد على التخطيط، ما يؤثر على الخطط التقليدية للتعبئة وعلى التوازن بين حجم القوات العاملة وحجم قوات الاحتياط. ويقول المحلل العسكري أمير أورون: "عند نهاية القرن سيصبح الجيش الاسرائيلي جيشاً بلا احتياط.. جيشاً محترفاً اكثر ثقافة من سوابقه في كل النواحي". والانقلاب الأخطر الذي حدث في القيادة العسكرية الجديدة هو إشراك اليهود الشرقيين أي "السفارديم" في أعلى قممها، الأمر الذي كان يعد من المستحيلات. اذ عادة ما كان يشكل اليهود الشرقيون القاعدة العريضة من الجنود وضباط الصف، ولم يكن من الممكن تولي ضباط شرقيين المناصب العليا. فكان تولي اسحق موردخاي، اليهودي العراقي، منصب وزير الدفاع في حزيران يونيو 1996 تطوراً غير مسبوق، تلاه تعيين الجنرال شاؤول موفاز لرئاسة الاركان وهو ايراني الاصل. اما الجنرالات الستة الجدد فبينهم ثلاثة سفارديم، ما يعد انقلاباً سياسياً واجتماعياً وطائفياً، وليس مجرد تطور عسكري مهم تبدو خطورته في ظل تولي دافيد ليفي وزارة الخارجية ممثلاً لحزب جيشر، وكهالان وزارة الداخلية، ثم ترشيح عزمي بشارة رئيس التجمع الوحدوي نفسه لمنصب رئيس الوزراء، ومحمد بركة رئيس "حداش" لرئاسة الكنيست السادس عشر، وهاشم محاميد عضو الكنيست عن القائمة العربية الموحدة، لعضوية لجنة العلاقات الخارجية والامن في المجلس، وهم من عرب اسرائيل. هذا بالاضافة الى النواب العرب داخل الكنيست بعدد كبير نسبياً يحسب حسابه عند تشكيل الحكومات الائتلافية. وكما نرى، فإن التحولات التي يحدثها تغير الاجيال في اسرائيل خطيرة لدرجة يتحتم معها متابعتها ودراستها في ضوء حقيقة احتكار كل من الليكود، الذي يمثل السفارديم، والعمل الذي يمثل الاشكناز العمل السياسي حتى الآن، وفي ضوء حقيقة اخرى هي ان السفارديم على رغم ان تعدادهم يتراوح من 40 الى 60 في المئة، من اجمالي السكان، يرزحون تحت نظام عنصري يضع العراقيل دائماً أمام سعيهم الى المساواة في اقتسام الثروة التي يحتكرها الاشكناز، وفي نصيبهم من التعليم والوظائف التي يستأثر بها اليهود الغربيون، ما يجعل هذه التطورات التي ذكرناها كماردٍ اندفع من القمقم. هذه التحولات الطائفية يمكن ان تتجه الى التطرف الديني أكثر فأكثر، لأن السفارديم اكثر ارتباطاً بالدين والعقيدة التوراتية وتمسكاً ب"الها خولاه" أي الشريعة، من الاشكناز الذين يتمسكون بالعلمانية. وهذا له رد فعله على التطرف السياسي والتمسك بسياسة الاستيطان لأن اغلبهم تربى اصلاً في "الكيبوتس" التي يقوم نظامها الداخلي على اساس الحياة الجماعية بدلاً من الحياة العائلية للسكان، والتي تعتمد على التربية الدينية بل والالتحاق بالمدارس الدينية التي تعفيهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، ولكن كعامل يوازن هذا التطرف مع الاتجاهات الخطيرة التي تسود الشباب، إذ تراجعت النظرة الى الالتحاق بالجيش كوسيلة لصعود درجات السلم الاجتماعي ليحل محلها الالتحاق ب"نواحي البيزنيس" للاثراء، فارتفعت نسبة المتخلفين عن تأدية الخدمة العسكرية والراغبين في الخدمة في الوحدات الادارية في الخلف. يضاف الى ذلك زيادة الضغوط العربية المطالبة بحق الاسرائيليين العرب في المساواة. أما تغيير الاجيال في البلاد العربية فتأثيره أقل وأبطأ. فالرغبة في التغيير تتزايد بمرور الوقت، إلا ان العقبات التي توضع امام هذه الرغبة تقلل من القدرة على التغيير. فبينما كانت هذه الرغبة تتمثل في حدوث إنقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات، حيث حدث على سبيل المثال 27 انقلاباً عسكرياً في 9 بلاد عربية من 1961 الى 1969، إلا ان ذلك ما لبث ان تراجع الى حد الندرة. وعلى رغم ذلك - وكما تقول ريزرا بروكس في كتابها عن العلاقات السياسية العسكرية واستقرار الانظمة العربية - لا يزال "العسكريون يحتفظون بتأثيرهم في الانظمة العربية والرغبة في الحصول على ولائهم باعتباره أمراً مهماً للاحتفاظ بالسلطة. وتلجأ الانظمة، على اختلاف مشاربها، الى وسائل عدة لتحقيق ذلك، ما أثَّر في القدرة العسكرية للقوات المسلحة العربية في مسرح العمليات، لأن الاساليب التي اتبعتها الانظمة لضمان ولائها تصادمت مع مبادئ الكفاءة. فتركيز القيادات وتسييسها والإبقاء عليها لمدد طويلة والسماح بالنشاطات الحزبية والاقتصادية واستغلال العنصرية والقبلية والتغاضي عما يحدث في حقل النفقات العسكرية والصناعات الحربية، كلها حدّت من الكفاءة القتالية". ويمكننا ان نقطع بأن القدرة العربية القتالية لم تختبر حتى الآن في مسارح العمليات، وبخاصة في حروبنا المتوالية مع اسرائيل. فالرغبة في استخدام القوات المسلحة العربية لتثبيت السلطة في الداخل، اي في التأمين الذاتي للحكم، تناقضت مع استخدام القوات بكفاءة لمواجهة التهديدات الخارجية، أي تحقيق الامن القومي للدولة او للدول العربية. وهناك ملاحظة مهمة في ما يتعلق بما لاحظه السفير مارتن انديك عن التحديث وتغيير الأجيال على المستويين القيادي والشعبي في البلاد العربية، إذ أن ذلك يحدث دائماً بفعل القدَر في كل الأنظمة العربية، في ما عدا لبنان والجزائر على رغم الظروف المأسوية التي يمران بها: الأولى للاحتلال الخارجي، والثانية للصراع الدموي الداخلي. فإذا أخذنا سورية مثلاً، نجد أن بعض الجهات ستحاول تفسير إحالة اللواء محمد الخولي، قائد القوات الجوية، واللواء محمد ناصيف رئيس فرع الأمن الداخلي، الى التقاعد بعد استنفاد كل سنوات الخدمة العادية والاحتياط التي تسمح بها رتبتهما، في الوقت الذي صدر مرسوم يقضي بتمديد السن القانونية لمن يشغل منصبي وزير الدفاع ورئيس الأركان لتصبح 70 سنة بدلاً من 67 سنة، ونقلهما من خدمة الاحتياط الى سلك الضباط العاملين. وهذا يذكرني بما قيل عن المكتب السياسي الصيني الذي كان كل أعضائه يتعدون التسعين عاماً، فلما هبط السن الى سبعين عاماً علق البعض بأن "الصين أصبحت تُحكم بالعيال". وفي الحقل المدني تجرى محاولات يقوم بها الدكتور بشار الأسد، نجل الرئيس حافظ الاسد، لمحاربة الفساد وفرض الإصلاح الاقتصادي في ظل هيبة أمنية أكيدة. لكنه يواجه صعوبات كبيرة أهمها النقص الهائل في الكوادر الجديدة الذي تسبب في عدم التغيير وتجاهل التحديث في السنوات الماضية. وفي ظل هذا الواقع، وفي ظل ثبات القمة في القيادتين السياسية والعسكرية، نشك كثيراً في ان يكون إصدار قوانين ونظم جديدة كافياً لتغيير الواقع. فهذا يحتاج الى آلية واعية، وهذه مفقودة، وفاقد الشيء لا يعطيه. وما يجري في الاردن يستحق وقفة. فرحيل الملك حسين وانتقال السلطة الى الملك عبدالله الثاني مع تخطي التوقعات التي كانت تركز على الأمير الحسن، أثار العديد من هواجس اسرائيل التي تعيش من جراء سياستها الملتوية العدوانية اصلاً، في هواجس وشكوك دائمة. فما هي التوجهات المستقبلية لإدارة الملك خصوصاً بعد التعديلات الواسعة التي ادخلها في الحكومة والديوان الملكي؟ إذ خلت - كما يقول علاء سالم في مقاله في "مختارات اسرائيلية"، عدد ايار مايو 9919 إصدار المركز الاستراتيجي في صحيفة "الاهرام" - من الشخصيات الداعية الى تعاون أوثق مع اسرائيل، وما هو تأثير التعديلات التي قد يقدم عليها الملك على العلاقة الثلاثية بين الاردنوفلسطين واسرائيل، او على الاستراتيجية الاسرائيلية التي تعتبر الاردن منطقة عازلة بينها وبين العراق؟ وهكذا نرى مقدار الهواجس التي انعكست على رتابة الاستراتيجية الاسرائيلية أيام الملك حسين وولي عهده الامير الحسن بعد أن حدث تغيير الاجيال المفاجىء بضربة قدر أطاحت كل التوقعات. ولكن ما تأثير ذلك على الداخل مع أخذ الموقع الاستراتيجي للأردن في الاعتبار؟ ما تأثير ذلك على العلاقات الاردنية - العربية في ظل العلاقات الاردنية - الاسرائيلية الخاصة؟ المستقبل غامض، فأكفأ قارئي الكف والفنجان يعجزون عن قراءة المستقبل العربي، فما بالك إذا اعتمدت القراءة على المنطق في ساحة لم تعرفه او تسمع عنه او تتعامل معه؟ اما عن تعاقب الأجيال في مصر فهو متوقف، سواء على مستوى الرئاسة او الوزارة او الاحزاب او النقابات والمؤسسات. فالدستور المصري يسمح بتجديد مدة الرئاسة "لدورات"، مدة الدورة 6 سنوات. والحكومة بوزرائها تعمل في اطار سياسة الاستمرار التي تكفل الخبرة، والنقابات ذات رئاسة ممتدة مثل الاحزاب. ولذلك، فإذا ضرب القدر ضربته تحدث الخلافات والانقسامات والصراعات. وطابور الاجيال الصاعدة يزداد طولاً في انتظار الفرصة، على رغم ان هذا "السكون"، ولا أقول الاستقرار، حقق انجازات لا يمكن تجاهلها. ولكن كيف يرفع غطاء القمقم لينطلق الجيل الجديد بسلبياته وايجابياته؟ هذه هي القضية. القدرات العربية ضخمة غير مستغلة. فالحسابات الثقيلة التي تحول دون تغيير الاجيال وتعاقبها تؤثر في قدرة الدولة على استثمار ما وهبها الله من خيرات تنظر اليها الدول الاخرى بغيرة، وتحسب وتعمل جهدها حتى لا ينطلق المارد من القمقم. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.