الحكايات التي تدور في كواليس الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق، وبالتحديد المجلس الإسلامي، تقول إن ثمة انقلاباً عسكرياً بعثياً يعد في الخفاء. وذكرت لي سيدة، تعنى بهذا الأمر، أن لديها قوائم مخيفة بأسماء الضباط البعثيين الذين اعيدوا الى الجيش، وذكرت اسمين يظهران باستمرار في صحبة رئيس الوزراء. ولا تكاد الاقوال عن «قرب الانقلاب» تخفت عند هذا الحزب، حتى تبرز عند حزب آخر، في صورة تحذير من تسلل بعثيين الى البرلمان، وبالتالي عودتهم الى السلطة. تبدو هذه مثل حكاية سندريللا الاسطورية، سوى أن سندريللا البعثية، عجوز بلا اسنان، بحذاء أو من دونه. لا ريب في ان البعثيين الذين اندرجوا خفافاً في الأحزاب الإسلامية، كالحركة الصدرية، وحزب الفضيلة، والمجلس الإسلامي، بعد أداء طقوس «غفران»، سيتظاهرون بأن الحديث لا يجري عنهم. فهم الآن مسلحون إسلاميون، وقتلة او انتهازيون في سبيل الله، لا البعث. ولا ريب أيضاً ان البعثيين الذين تركوا الحزب إثر حرب 2003 بعد ان تحرروا من الحاجة اليه لنيل وظيفة او عمل، سيجدون في هذه الاقوال تهديداً لحياتهم الطبيعية المسالمة. ولا ريب أيضاً ان البعثيين الذين رفعوا السلاح، ثم القوه واندرجوا في العملية السياسية في اطار مجالس الصحوات، سيقفون متسائلين: ما جدوى التفاوض إذاً؟ أما بعثيو الخارج، والبعث كتنظيم لا يكاد أن يكون له وجود ملموس إلا خارج العراق، فلا ريب انهم سيغتبطون لهذه المخاوف، بل لربما يعرضونها في بازار التباهي بقوتهم، او في معرض البرهنة على «عودة الشيخ الى صباه» بدليل خوف أصحاب الحكم منهم. أما ان حزب البعث تفتت شظايا، وفقد جسمه الرؤوس، فتلك مسألة بائنة. وتوزعت هذه الشظايا على أحزاب إسلامية، وتيارات ليبرالية، واخرى عراقية عروبية، ورابعة سلفية تدميرية، وخامسة مافيوية، وهلمجرا. اما الجسم السياسي الرسمي لحزب البعث خارج العراق فقد انقسم الى أجنحة متصارعة، مصير كل كيان سياسي مهزوم. تاريخياً، ما من حزب شمولي استطاع العودة الى السلطة. الحزب النازي في المانيا، خرج ولم يعد، على رغم وجود الملايين من اعضائه. والحزب الفاشي الايطالي انقلب على زعيمه، وتمزق، وخرج، ولم يعد. والحزب البلشفي الروسي فقد السلطة في انتخابات، وتحلل الى كل التيارات السياسية التي نجدها في روسيا اليوم، من القومية السلافية، الى الليبرالية المنفلتة، الى النزعة الدينية في ظل الكنيسة الاورثوذكسية هو أيضاً عاجز عن العودة. وينطبق مبدأ العجز عن العودة على حزب البعث اكثر من غيره. فتاريخياً، كان حزب البعث حزباً صغيراً، لا تتعدى عضويته بضع مئات (وبضعة آلاف من أنصار واصدقاء). وصول البعث الى السلطة اعتمد دوماً على الاقرباء قبل الاعضاء في الجيش للانقضاض على السلطة. ثم استخدم أموال النفط لبناء حزب جماهيري، اي عبر سياسة الهبة، وديكتاتورية الحاجات. والآن لا عسكرية لديه ولا نفط. بالأمس كانت الانقلابات العسكرية ممكنة بسبب الطابع الفلاحي للمجتمع، حيث جل الأمة في الأرياف النائية، المعزولة، الامية، وحيث تتركز الموارد البشرية، والمادية، وادوات السلطة في مدينة مليونية واحدة هي العاصمة بغداد. فالاستيلاء عليها كان يعني الاستيلاء على الامة. واليوم ما من جيش يستطيع السيطرة على بغداد بملايينها السبعة. وثمة عشرة مدن مليونية أو على شفا المليونية، وهي مراكز حضرية تحوي قوى اجتماعية كافية للتحرك السياسي. وإذا كان بوسع بعقوبة والفلوجة والموصل ان تقلب العراق عاليه سافله، على مدى سبع سنوات، فكيف يسع اي «انقلاب» أن يدير البلاد بمواجهة عشرات المدن المعارضة والمعترضة. واقع الانقلابات في المجتمعات اللاحضرية حقيقة قائمة، أما في المجتمعات الحضرية الفائقة فإنها محض خرافة. ان الدراسات السوسيولوجية - السياسية العميقة تكشف لنا بوضوح، مثلما تكشف المقارنات التاريخية البسيطة، ان الانقلابات العسكرية ظلت تتكرر في منطقتنا منذ عشرينات القرن العشرين: انقلاب بهلوي في إيران، انقلاب بكر صدقي (1936) في العراق، انقلاب عبدالناصر في مصر (1952)، وهلمجرا. لكن اتجاهات تطور المدن، والتمدين، ونمو مؤسسات الدولة نفسها (نمو الجيش نفسه) أغلقت ابواب الانقلابات العسكرية الواحدة تلو الاخرى. وبالفعل فإن القوى التي سعت الى تدبير انقلاب عسكري في العراق خلال عقدي الثمانينات والتسعينات فشلت فشلاً ذريعاً. كان هذا إيذاناً بانتصار المدن المليونية، وخروج السياسة من احتكار المركز - العاصمة. كثرة لا يفقهون هذا، سياسيون اوغير سياسيين. ولكن كثرة تدرك أيضاً استحالة هذا الأمر، سياسيون اوغير سياسيين. ما جلية الخوف من البعث؟ لدينا دستور يحظر هذا الحزب أولاً، ولدينا قانون مساءلة وعدالة يعاقب كل مرتكبي الجرائم، بعثيين كانوا بالأساس أم لا؟ ولدينا نظام قضائي يعاقب كل مرتكب جريمة الآن او في المستقبل. محاسبة الارهاب، ومحاسبة البعث، عملية قانونية في الجوهر. ولعل أبرز أسباب فشل قانون اجتثاث البعث (الذي سبق قانون المساءلة والعدالة) هو تسييس هذا القانون، اي قيام جهات سياسية وليس قضائية بالإشراف على تطبيقه. من هنا اعفاء بعض من تبعات القانون أما بسبب الرشا، أو بسبب الكسب السياسي، وما شاكل. أليس الدولة الجديدة مسلحة دستورياً وقانونياً بما يكفي لدرء الارهاب، فلماذا كل هذا النفخ في فقاعة الخطر البعثي؟ الجواب ليس في وجود هذا الخطر أم لا، بل في حيرة الاحزاب الإسلامية، التي نضبت خزينتها من الافكار والابتكار. لقد جاءت على عربة الطائفية، بدعوى (محقة) هو الاستبعاد والاضطهاد. لكن فك النظام السياسي قوض الاحتكار السابق، ولم يعد رد الظلم والمظالم مطلباً ممكناً، لأنه ببساطة، تحقق. بعد هذه النقلة بات على كل حزب إسلامي ان يقول للناخب ما يعتزم عمله لهذه الأمة المنكودة بمليوني أرملة، وربع مليون معوق، ومليون عاطل، وأمية ضاربة، وثلاثة ملايين موظف يلتهمون موارد النفط، فضلاً عن اقتصاد بلد يستورد كل حاجاته الزراعية، استيراده الوقود، كل هذا في بلد نفطي. الطائفية في انحسار لما سببته من آلام ودماء واحتراب، وامام هبوط اسهم الطائفية السياسية في بازار الرضا، يجري اختراع مخاطر الانقلاب والعودة. فكلما شحت الأفكار وغابت البرامج، تعالى الصياح عن الاخطار الداهمة. هذه شهادة فقر حال بامتياز.