لم يكن يخيّل للشاعر حبيب يونس ان يكون ديوانه الأول "شغل محابيس" * ديوان السجن الذي أمضى في "ظلمته" سنة وثلاثة أشهر سجيناً سياسياً. فهو يملك - كما يشير - خمسة دواوين جاهزة للنشر منذ سنوات ولم يتسن له ان يصدرها. ترى أهي محض مصادفة أن يبدأ الشاعر طريقه الى النشر بديوان أول هو حصيلة مراس شعري طويل، أم أنه قدر حبيب يونس أن يكتب أوّل ديوان متكامل بالعامية اللبنانية عن عالم السجن والسجناء، وعن التجربة المريرة التي خاضها وراء القضبان؟ وإن كان ديوان "شغل محابيس" مشبعاً بجوّ السجن، صوراً ومفردات، أحوالاً وتأملات، مكابدة واختباراً، فانّ فرادته لا تكمن فقط في كونه نتاج تلك التجربة الأليمة التي لم يشهدها الشعر العامي في لبنان، وإنّما أيضاً في أصالته العاميّة ورسوخه في حركة هذا الشعر الذي تجلّى في أعمال شعراء كبار من أمثال ميشال طراد وسعيد عقل والأخوين رحباني وايليا أبو شديد وموريس عوّاد وسواهم. حبيب يونس هو سليل المدرسة العاميّة اللبنانية وابنها الوفيّ، تعلّم على سعيد عقل - الذي يعتبره "المعلم" ويوائم بينه وبين لبنان "مجداً بمجد" - سرّ الصنعة الشعرية بناء ونحتاً، وتعلّم على الشعراء الآخرين - ومنهم زجالون كبار - وفي مقدّمهم والده الذي توفي في غيابه، كيف يجمع بين الطلاوة والعفويّة والجمالية والفطرية والدأب اللغوي والتصوير واللعب الايقاعي والترميز... ومَن يقرأ ديوان "شغل محابيس" يشعر للحين أنّ أصداء كثيرة من الشعر العامي تترجّع فيه ولكن ضمن قصائد كتبها حبيب يونس، بمراسه الصعب وخبرته وبنَفَسه الخاصّ. وفي هذا المعنى يكون حبيب يونس خير وارث للمدرسة اللبنانية مع ميل واضح الى الصنعة التي تجلّت مع سعيد عقل. ليس عنوان الديوان "شغل محابيس" غريباً عن قصائد الديوان نفسها. ف"شغل" المساجين غالباً ما يقتضي الدقّة والتأنّي والتؤدة كونه "شغلاً" حِرَفياً تحلّ فيه اليد محلّ المخيّلة وربما محلّ الاحساس والحدس. وقد جمع حبيب يونس بين هذه الحرفية التي يتقنها "المعلّمون" عادة والبعد الشعريّ، أي بين الدأب الحرفي أو المراس الذي يتطلّب الكثير من المهارة في الصوغ والسبك، والموقف الشعريّ المتجلّي هنا في حال الأسر والبعاد والعزلة و"الغربة" كما يحلو للشاعر أن يسمّي سجنه. ولعلّ هذا الجمع بين هذين الاتجاهين هو الذي يميّز قصائد الديوان: شعر يهدر كالنهر لكنّه لا يقع لحظة في الركاكة أو الوهن والضعف. حتى في القصائد التي يشعر القارئ أنّ الشاعر كتبها "عنوة" بغية قتل الفراغ واليأس، أو تعبيراً عن خلجة ما أو إحساس عابر، تظلّ تحافظ على شكلها ولغتها، فالشاعر جعل من الكتابة "مصهراً" تتصفّى فيه القصائد من أي هنةٍ أو عيب. إلا أن الشاعر - الصانع لن يفقد عفوّيته ولا "انثياله" العاطفي والحميم، ولن تنعم حرفيّته في قتل تلقائيّته لا سيما في القصائد الحافلة بالذكريات والمشاعر الرهيفة والمواقف الوجدانية. كتب حبيب يونس خلال 459 يوماً هي أيام سجنه ولياليه 1258 قصيدة. هذا عدد يصعب استيعابه شعرياً ولو كانت قصائد كثيرة من الديوان هي أقرب الى "التدوين" اليومي الذي يشبه كتابة "اليوميات". ولكنها "يوميات" شعرية يرصد الشاعر - السجين من خلالها حركة العالم من حوله، بأناسه، مسجونين وسجّانين، وبإيقاعه الرتيب المعرّض دوماً للكسر، علاوة على كتابته بعض الخواطر التي تلتمع في رأسه وخصوصاً عندما يحل الليل مضيفاً الى عتمة السجن قتامة أخرى. كان الشعر خشبة خلاص داخل الزنزانة، داخل تلك "الغربة" التي لا يفقهها سوى مَن يحياها. وكانت اللحظة الشعرية، لحظة حرّية داخل الجدران، لحظة انفصال وانعتاق، لحظة حقيقية ومتوهمة في الحين نفسه. وكانت قادرة فعلاً على اختراق العتمة الدامسة التي تحل في الروح قبل حلولها في الزمان والمكان. وإذ كتب حبيب يونس الشعر داخل السجن فهو لم يغفل عن استذكار الشعر أو الكتابة عنه أو مديحه. بعض القصائد تتغنى بهذا الصنيع مثلما تتغنى قصائد أخرى بالحرية والوطن والحبّ والحبيبة والابنة... يعتبر الشاعر في احدى قصائده القلم "أرجوحة يغفو عليها ويستريح" والحبر "عطراً لكلمته". وفي قصيدة أخرى يقول انه يكتب القصائد في العتم كي يظل نور الحق في قلبه. قد يلائم السجن الشاعر أكثر مما يلائم الروائي وسواه، كما يعبّر الشاعر الروسي جوزف برودسكي. فالشاعر يستطيع أن يكتب عن معاناة اعتقاله داخل السجن إن توفّر له أن يكتب، فيما يختزن الروائي آثار التجربة ليكتب عنها لاحقاً. هذا ما علّمنا اياه "أدب السجون" الذي تعاقب على ابداعه أدباء وشعراء كبار على مرّ العصور. الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس كتب في السجن سراً بعضاً من قصائده الجميلة، وكذلك التركي ناظم حكمت أو الايراني أحمد شاملو أو المغربي عبداللطيف اللعبي. أما وول سوينكا وآرثور كويستلر وخورخي سمبون وفاكلاف هافل وسواهم فكتبوا عن الاعتقال أعمالاً روائية ومسرحية مهمة ولكن بعد خروجهم. يستطيع الشاعر أن يخترق ذلك "المربع من الاسمنت" مرّة تلو أخرى، كلما كتب أو كلّما غاص في مخيّلته بحثاً عن صورة أو كلمة. يقول جوزف برودسكي: "ان كنت شاعراً فأنت تستطيع أن تخرج من سجنك وفي حزامك بضع قصائد جميلة". حبيب يونس خرج من السجن وبين يديه قصائد جمّة، بعضها بديع وبعضها جميل وبعضها تدوين شعري يومي. لكنّه لم يضطرّ الى أن يخبّئها في حزامه. ولم يضطر كذلك، كما في السجون "الايديولوجية" أو في سجون الأنظمة القاسية أن يكتب خفية عن السجّان بين سطور كتاب أو على ورق سجائر، أو على ورق الحمام. كان حبيب يونس يكتب علانية وعلى دفاتر يراقبها السجّان ولكن عن أسرار قلبه وآلام الروح وجروح الداخل. وجد حبيب يونس في الشعر دواء وربما علاجاً للألم الممضّ والطويل الذي خالجه في ذلك "الحبس" الذي يضم "حبساً" في داخله كما يعبّر. كان لا بدّ من أن يطغى الجو القاتم في أحيان كثيرة على قصائد حبيب يونس وأن يحلّ الليل الحالك على شعره وأن يطغى الاحساس بالفقد والفراغ والعزلة. ها هو يصف في قصيدة بديعة موت الأيام قائلاً: "إيام عم بتموت/ عَ مهلا معي/ وبعدا بتجي إيام.../ مش عارفي؟/ هيّ العارفي/ إنّو الزمن ناصب/ لتكّاتا حبل إعدام". وفي قصيدة جميلة يخاطب وجهه الذي لا يجده في المرآة عندما ينظر اليها في الصبح. وفي قصائد أخرى يستحضر الأصدقاء والأهل الغائبين ويتوهّم نفسه ساهراً معهم أو عاجزاً عن تحمّل غيابهم فيخاطب الدمع أن يجلب اليه رائحة ثيابهم. وقد تكون القصائد المهداة الى الابنة الصغيرة لين أو المكتوبة على لسانها من أشدّ القصائد لطافة ووجداً. وكذلك القصائد الموجّهة الى الزوجة التي هي بمثابة الحبيبة المفتقدة. ناهيك بالقصائد المكتوبة الى بعض السجناء وتلك التي تستوحي أحوال السجناء، ومنها قصيدة جميلة يصف فيها سجيناً يقضي الليل ساهراً جالساً على الكرسي وكأنه "شاويش الليل"، ينتظر أن يستيقظ السجن كي يسلّمه مفاتيح أصبحت صدئة من شدّة النعاس. يحتل حال "البكاء" الكثير من قصائد الديوان، البكاء في ما يفترض من دمع وصمت. حتى الحديد يبكي في الديوان، وكذلك الجدران: "دمع وحديد وناس" يقول الشاعر. وفي قصيدة يجعل للدمع يوماً كما لو أنّه يوم القيامة أو يوم الرحيل قائلاً: "ببكي ليوم الدمع". وفي قصيدة أخرى يصف كثرة البكاء بالصلاة التي تنقي القلب. هذه الجملة تذكّر بما قال الكاتب الفرنسي سيوران عن الدمع الذي وحده يُحسب في الآخرة. إلا أنّ أحوال اليأس والقهر والحزن لن تهيمن وحدها على الديوان. فالشاعر الذي يتماهى في صورة الشاعر التي تمثّلها سعيد عقل، سرعان ما ينهض من كبوة الكآبة وألم "الغربة" معتبراً نفسه صنو الفارس الذي لا بدّ له من التغلّب على المشقات. يشبّه حبيب يونس الشاعر ب"الخيّال" الذي "سيفه المجد" و"حصانه الشعر". ويشبه الشاعر أيضاً ب"مجنون حرية" ويقول ان كلمة الشاعر هي "كلمة في عين الشمس". ولا غرابة ان تتواتر مفردات وعبارات "عنفوانية" تذكّر بمعجم سعيد عقل "البطولي": "عم بحلمك راجع/ مثل أبطال الحكايات:/ راسك مكلّل/ ومرفوع..." أو "ت يزهر ويبقى مجد لبنان". يحتاج ديوان حبيب يونس "شغل محابيس" الى أكثر من قراءة. ماذا يعني أن يقرأ المرء 1258 قصيدة بعضها من الشعر الصافي، الأليم والحزين والمتفائل أحياناً، وبعضها يمكن أن يسمى "يوميات سجين"؟ وكان في إمكان الشاعر أن يصدر الديوان في جزءين وربما أكثر نظراً الى وفرة قصائده، لكنّه آثر أن يؤرّخ اعتقاله شعرياً فكانت القصائد أقرب الى أوراق الروزنامة، يكتبها الشاعر يوماً تلو يوم، أو ليلة تلو أخرى. ومَن يقرأ الديوان يشعر، على رغم الأسى الشديد الذي يخالجه، أن السجن "لاءم" حبيب يونس شاعراً وليس انساناً أو زوجاً أو أباً أو صديقاً... وجعله يكتب هذا الديوان الذي يعتبر "محطّة" في تاريخ الشعر العاميّ. لقد استطاع حبيب يونس فعلاً أن ينتصر على السجن بالشعر وأن يغلب "الغربة" والقهر بالقصائد. * صدر الديوان عن "المرشدية العامة للسجون في لبنان"، الغلاف ورسم الشاعر بريشة الفنان بيار صادق.