لو أمكن تصنيف "أدب السجون" الذي كُتب خلال القرن العشرين لبدا هذا الأدب ظاهرة من الظواهر الكبيرة التي شهدها القرن المنصرم. وربّما شكّل أيضاً تراثاً فريداً ونوعاً أدبياً قائماً بذاته. ولئن عرفت القرون الماضية تجارب عالمية رائدة في هذا الحقل فأنّ القرن العشرين يظلّ "مختبر" هذا الأدب نظراً إلى ما شهد من تحوّلات فكرية وسياسية كان لها أثر بيّن على الحياة الثقافية والأدبية عموماً. ومثلما كان القرن العشرون قرن الدادائية والسوريالية والتعكيبيّة وسواها من المدارس كان كذلك قرن هذا "الأدب" الذي كتبه أدباء معروفون أو غير معروفين في عتمة السجون أو خارجها وتحت وطأة ذكراها الأليمة. وقد فُتحت أبواب السجون أمام المثقفين المعارضين والمتمرّدين منذ مطلع العشرينات وغداة صعود النازية والفاشية وعشية اندلاع الحرب الباردة ونهضة القوميات والأثنيات لاحقاً. وإذا طويت صفحات من تاريخ هذه الظاهرة بُعيد سقوط المعسكر الأشتراكي الذي كان معتركاً رئيساً من معتركات هذا الأدب فهي ما برحت رائجة في بعض الدول الآسيوية والأفريقية وسواها من دول العالم الثالث التي تسيطر عليها انظمة عسكرية أو شبه عسكرية. وما زال عدد وافر من المثقفين والكتّاب يقبعون خلف القضبان منتظرين "فجر" الحرية أو يفرّون خارج بلدانهم هرباً من رعب السجون ورهبة الاضطهاد أو القتل. غير أنّ انحسار "أدب السجون" خلال السنوات الأخيرة لا يعني غيابه كظاهرة وسمت القرن المنصرم. علماً أنّ بعض السجون في بعض العواصم العالمية والعربية "تضم" حتى الآن عدداً من المثقفين والكتّاب فضلاً عن المعتقلين السياسيين والمناضلين وفي طليعتهم الأسرى اللبنانيون والفلسطينيون في سجون اسرائيل. ولعلّ الشهادات التي أدلى بها سبعة عشر أسيراً لبنانياً خرجوا قبل أشهر من السجون الاسرائيلية وجمعت حديثاً في كتاب عنوانه "كم مرّ من الوقت" 1 تعبّر عن أحوال الأسر والالام التي يعانيها الأسير وراء القضبان وتمثل نوعاً من اليوميات التي دأب ويدأب على كتابتها بعض الأسرى في السجون "الحضارية" التي يسمح لهم فيها أن يقرأوا ويكتبوا أو في السجون "القاتمة" التي يكتبون فيها بالسرّ. والشهادات التي جمعت هي شهادات مواطنين عاديين اختاروا طريق النضال ليدافعوا عن أراضيهم المحتلّة وليست شهادات كتاب أو مثقفين. وقد بدت رواياتهم اليومية قريبة كلّ القرب من بعض النصوص اليومية التي وضعها بعض الكتّاب في سجونهم. وربّما هي خصائص السجن أو "الأقامة" داخل الجدران الأربعة توحّد الشهادات والنصوص وهي غالباً ما تتميّز ببساطتها وواقعيّتها وصدقها. ومَن يرجع إلى الكتاب الذي أصدرته مؤسسة "بن" العالمية ونشرته بالأنكليزية والفرنسية تحت عنوان:"كتّاب في السجن" 2 ويقرأ القصائد والقصص والنصوص التي كُتبت في الزنزانات أو خارجها يلتمس الخصائص التي يتفرّد بها هذا الأدب والمعالم التي رسّخته كأدب من آداب القرن العشرين. وحوى الكتاب شهادة من الشاعر الروسيّ الفائز بجائزة نوبل جوزف برودسكي كتبها قبيل رحيله وغدت أشبه بمقدّمة للقصائد والنصوص. أدب واحد؟ هل ثمة "أدب سجون" واحد أم أنّه مجموعة آداب عالمية تنتمي إلى مناخ واحد هو مناخ السجن؟ هذا السؤال يطرحه مَن يقرأ النصوص والقصائد التي كتبها شعراء وروائيون من العالم أجمع في صقيع السجون السيبيرية أو في حرّ الزنزانات الأفريقية أو برد الحبوس الصينية؟ طبعاً يختلف "أدب السجن" ليس في اختلاف البيئات أو البلدان التي ينتمي إليها فحسب وإنّما في اختلاف الأدباء - السجناء أنفسهم واختلاف تجاربهم الأدبية نفسها. كاتب نيجيري مثل وول سوينكا يختلف طبعاً عن كاتب روسيّ مثل سولجنتسين أو عن كاتب تشيكيّ مثل فاكلاف هافل. لكنّ سولجنتسين الكاتب الروسيّ الأسير يختلف بدوره عن مواطنه الكاتب الأسير مندلشتام أو فارلام شالامون. وهكذا دواليك. أدب السجن إذاً لا يفترض تشابهاً بين الأدباء ولا حتى تقارباً اسلوبياً بينهم. بل هو يقوم على اختلاف التجارب بعضها عن بعض وعلى تعدّدها. فاذا التجربة تكمّل الأخرى في بوتقة المناخ الواحد وإذا القصيدة تكمّل القصة والقصّةُ الروايةَ في وحدة الموضوع واختلاف المعالجة أو المقاربة واختلاف الرؤية والنظر. هكذا يلتقي أدباء السجن ويفترقون: الجميع يلتقون في ما كتبوا في سياق هذا الأدب ليؤلفوا ظاهرته والجميع يفترقون كلّ إلى عالمه ولغته وتجربته. ومثلما لم يضف أدب السجن إلى "تراث" بعض الأدباء الكبار كذلك لم يجعل هذا الأدب من أدباء عاديين أدباء كباراً أو لم يرَق بأدبهم إلى مصاف العالمية. شاعر في حجم يانيس ريتسوس لم يكن أدب السجن لديه إلا جزءاً من نتاجه الشعري الطليعي على الرغم من مكثه في السجن سنوات طوالاً. فهو يانيس ريتسوس الشاعر أولاً وأخيراً. لكنّ السجن طبعاً أضفى على قصائده ذاك اللمعان "الاسمنتي" الباهر. أما كاتب من مثل الأيطالي بريموليفي فلم يكمن سرّ تجربته إلا في ما كتب عن معاناته الأليمة في معتقل "أشويتز" النازيّ. يظلّ أدب السجن أدب حقيقة أو أدباً حقيقياً في ما يجسّد من معان واختبارات سخصية ومكابدات. بل هو حقيقة من الحقائق التي تصنع ذاكرة العالم وواقعه. "ما يعرف الكاتب أن يقوله عن السجون يجب أن يعني كلّ الذين يريدون أن يبقوا أحراراً" يقول جوزف برودسكي. والقراء الذين تقع بين أيديهم نصوص السجن أو قصائده أو يومياته قد يجدون فيها ما يشبه المتعة الأدبية وغير الأدبية كمتعة السفر مثلاً داخل عالم السجن على غرار السجين نفسه الذي وصفه ارتور كوشتلر لحظة دخوله الزنزانة وأدرك بعد ثلاث دقائق أنّه اكتشف عالماً بكامله يتطلّب اكتشافه أياماً وربّما أشهراً. على أنّ ما يجذب عادة في أدب السجن طابع "المغامرة" الكامن فيه وليس فن السرد وحده أو اللغة أو الصنيع الأدبيّ. فأدب السجن أدب واقعي أو حقيقي وخلو من التكلّف والصنعة. المجازات فيه قليلة وكذلك الصور أو المحسّنات أو التراكيب المصطنعة. أدب جميل في فرادته وطرافة جوّه. جميل حتى وإن بدا قاسياً وقاتماً وصارخاً من شدّة حقيقته. أدب بسيط ولكن على متانة تفرضها قسوة الأسر وقتامة العزلة والأنقطاع عن العالم. ولعلّ فرادة هذا الأدب أو خصائصه إنّما تكمن في جماليته القاسية وبساطته الكامدة وسلاسته الداكنة: اسمنت، قضبان حديد،ظلمة، وحدة، خوف، كوابيس أو أحلام، أخيلة وأشباح وانتظار يطول ويطول. ضمير "الأنا" يغيب. يصبح المتكلّم غائباً أو يحلّ المخاطب كشخص آخر يمضي الكاتب - السجين في محاورته. هنا، داخل عتمة السجن السجن قاتم حتى وإن كان مضاء تمسي الكتابة فعل مواجهة، فعل تحدّ، فعل قتل أو انتقام... ولكن في خواء يشتدّ اضطراماً وهولاً. يكتب الكاتب ليوقف فقدان ذاته أو "أناه" أو هويته. يكتب ليدرك أنّه لا يزال هو نفسه وأنّ السجان أو "السجّنين" لم يستطيعوا أن يلغوا إنسانيته ولا ذاتيته ولا ذاكرته. والكثيرون من الأدباء - السجناء كتبوا عن وضاعتهم داخل الزنزانات وربّما عن "حقارتهم" أو حياتهم "الحقيرة" التي فُرضت عليهم. معظمهم لم يجعلوا من أنفسهم أبطالا ولم يتباهوا بالحقائق التي خبروها وعاشوها ولم يقعوا في الخطاب الأنفعالي والشعارات. هذا ما تدلّ عليه نصوص بوكوفسكي أو دنيس بروتوس أو هامّت أو هافل أو ناظم حكمت وينان تشينغ وريتسوس وأحمد شاملو وسوينكا... الأفريقي دنيس بروتوس كتب عن "برد" الأسمنت الذي "يمتصّ أقدامنا العارية". الصيني نيان شينغ كتب عن علاقته بالرتيلاء التي أضحت صديقته في الزنزانة يراقبها كلّ يوم من الصبح حتى المساء. ولا يشغله عنها إلا قراءة كتب "ماو" كما يعبّر وهو كان يقرأها حتى "تتغبّش" عيناه تبعاً لشحوب الضوء. كيم داي - جونغ كوريا الجنوبية يكتب عن قدوم الشتاء الذي شعر في قرارته أنّه سيكون بارداً وطويلاً. موليفو فيتو افريقيا الجنوبية يكتب عن شعاع الشمس الذي يخترق كوّة السجن قائلاً: "يخيّل إليّ اليوم أنني الأنسان الوحيد في العالم الذي كان في انتظار الشمس". أما بريتن بريتنباخ فيأخذه هاجس القمر والنجوم التي لن يبصرها طوال سنوات. ويعبّر ريتسوس عن الزمن الميت الذي طالما سكنه قائلاً: "يجب أن نبقى هنا - لا أحد يعرف كم من الزمن الميت. شيئاً فشيئاً نسينا الزمن، فقدنا معنى الأشهر، الأسابيع، الأيام، الساعات...". ويتحدّث فلا ديمير بوكوفسكي عن "اللحظة" الرهيبة التي أصبح "كلّ شيء فيها بلا معنى" وبات همّه الوحيد أن "يحصي الأيام بكآبة". ولعلّ الحال التي يكابدها بوكوفسكي ويعبّر عنها في نصّ له عنوانه "الزمن الموقوف" تشبه في عمقها أحوال الصوفيين المنقطعين عن العالم والخالدين إلى عزلاتهم: "انّها العزلة الشاملة، ثلاشي ضوء النهار، رتابة الحياة، الجوع والبرد الدائمان... توقعه جميعاً في حال غريبة، شبه إغفاءة، شبه حلم يقظة...". وكم أصاب جوزف برودسكي حين تحدّث عن قدرة السجن على تحويل الأفكار الميتافيزيقية في أذهان الأدباء - السجناء إلى ما يشبه السلوك اليومي وكأنّه يصفهم ب"النسّاك" الذين اكتشفوا النسك والعزلة قسراً أو جعلوا حياتهم "الداخلية" أو الروحية والميتافيزيقية حياة يومية. ولم يتوانَ برودسكي أيضاً عن تشبيه السجن بالعالم الماورائي المبني وفق طريقة قاسية ومعقّدة على غرار التصوّر الكهنوتي لمملكة الموت، الغنّي بالألوان الداكنة. إلا أنّ كاتباً مناضلاً مثل فاكلاف هافل انصرف إلى مخاطبة زوجته أولغا عبر رسائل جميلة ونموذجية وكتب كذلك بعض الأعمال المسرحية وهي تشبه بعض الشبه أعمال جان جينيه التي كتبها في السجن من مثل "رقابة شديدة" وسواها. ومَن يرجع إلى نصوص بريموليفي عن معتقل اوشويتز يكتشف مقطوعات أدبية رائعة منبثقة من مكابدة أليمة عاشها ليفي ولم يستطع أن ينساها على رغم تحويلها إلى "خطاب" أدبي جميل. والضوء الذي يتحدّث عنه أو العزلة الجماعية والجرس والحارس الليلي لم تكن جميعها غريبة عن المناخ الذي رسمه الشاعر عباس بيضون في قصيدته الطويلة والجميلة "مدافن زجاجية". وكان كتبها بُعيد خروجه من السجن الاسرائيلي أو "المخيم" الذي أسر فيه الجيش الأسرائيلي مجموعة من اللبنانيين غداة احتياجه لبنانوبيروت. يكتب عبّاس بيضون بجمالية حادّة وتفصيل فوتوغرافي - تخييليّ غير مألوف عن "الضوء الكاربوني" و"قطعة الخبز والتفاحة والطلقة" و"الصحف التي ليست سوى أرواح أيام" وكذلك عن "الصمت الذي يخلقهم بالعشرات" وعن "البروجكتورات" وابراج المراقبة والصفّارات وأجراس الأنذار... إنها تجربة السجن الاسرائيلي كما خاضها شاعر لبناني طليعي وعبّر عنها في قصيدة تجمع بين النفس المأسوي والرثائي والوعي التفصيلي واللحظويّ المشرع على جحيع الألم. لم يكتب عباس بيضون قصيدة مناضلة حاذيات حذو مندلشتام وبوتو أدكا سوكانتا اندونيسيا وريتسوس حين كتبوا عن السجن كتجربة روحية أو ميتافيزيقية. إلا أنّ الأدب العربي الحديث يصخب بظاهرة "أدب السجن" وقد ازدهر في مصر والمغرب وسورية والعراق في فترة الستينات والسبعينات. وهذا الأدب يحتاج قراءة خاصّة حقاً نظراً إلى ما يمثل من ارتباط عميق بما شهد العالم العربي من ثورات وانقلابات وكذلك من تحوّلات سياسية طبيعية أو طارئة. وإن عبّر هذا الأدب عن مراحل وفترات ماضية فهو يظلّ مرجعاً رئيساً لقراءة المناخ السياسيّ الذي ساد اجزاء من "الوطن" العربي ونمت في ظله بعض الأنظمة. وكان من الطبيعي أن يروج هذا الأدب في مصر مثلاً خلال حكم عبدالناصر وحكم السادات لاحقاً وقد برزت أعمال روائية مهمّة أستوحت السجون السياسية وبدا بعضها كأنّه كتب داخلهاوفي طليعتها: "تلك الرائحة" للروائي صنع الله ابراهيم. غير أنّ روائيين آخرين دخلوا السجن وكتبوا عنه وبعضهم لم يكتب وهم فعلاً لا يحصون ومنهم: ابراهيم عبدالحليم، يحيى الطاهر عبدالله، لويس عوض، جمال الغيطاني، شريف حتاته، يوسف ادريس، عبدالحليم قاسم، نوال السعداوي وسواهم. أمّا الكتاب والشعراء العرب الذين دخلوا السجن وكتبوا عن تجربتهم داخله فكثر أيضاً ومنهم: عبداللطيف اللعبي، عبدالقادر الشاوي، شاكر خصباك وسواهم. وقد كتب البعض عن السجن من غير أن يدخله. وإن كان الشاعر محمود درويش دخل السجن الأسرائيلي في الستينات فهو كتب يضع قصائد لا تخلو من الحماسة التي افترضها نضاله ضدّ الاحتلال. وفي إحدى قصائده النضالية يستعيد تجربة السجن على طريقة الشعراء المتمرّدين قائلاً: "سدّوا عليّ النور في زنزانة فتوهّجت في القلب شمس مشاعل". ُترى أيّ أدب يستحق أن يُسمى أدب السجن أكثر من الآخر: الأدب الذي كتبه أدباء سجنوا حقاً وأمضوا أسابيع وأشهراً وسنوات وراء القضبان أم الأدب الذي كتبه أدباء لم يدخلوا السجن وكتبوا عنه انطلاقاً من المخيّلة والوثائق في آن واحد؟ ربّما استحق "الأدبان" هذان آن يُسمّيا "أدب السجن" على الرغم من اختلافهما بعضهما عن بعض. لكنّ القصائد واليوميات التي كتبت داخل السجن هي أشدّ واقعية ومرارة وألماً من القصائد أو النصوص التي تستوحي السجن عبر المخيّلة أو الوثائق. إنّها شهادات حيّة عاشها أصحابها يوماً تلو يوم وكتبوها بدمهم ودمعهم وأرقهم وسأمهم. وسواء كتبوها داخل السجن أم خارجه فهي تظلّ شهادات حقيقية جداً. ألم يقل ناظم حكمت أن أسوأ ما في السجن أن يحمله السجين في نفسه؟ رواية السجن ولكن ينبغي الاعتراف كما يقول برودسكي أن الفنّ الروائي يصعب أن يكتب داخل السجن. فهو يتطلّب الكثير من الروية والتأني ولاسيما عبر بناء الزمن الروائي والشخصيات والأحداث. قد يدوّن السجين ملاحظات وتفاصيل يعتمدها فيما بعد لبناء روايته. تماماً مثلما فعل دوستويفسكي في رائعته "ذكريات في منزل الموتى". أما القصائد والنصوص النثرية فهي تلبّي معاناة السجين - الكاتب أو الشاعر وتمنحه الفرصة كي يعبّر عن ألمه، عن صمته وعزلته، عن اختناقه وكي يسخر من نفسه، من السجن والسجّان، من العالم والأفكار الكبيرة. تمنحه الفرصة أيضاً كي يتأمل ويحب ويحلم ويتخيّل وينسى ويمضي الوقت الطويل جداً. لكنّ النثر يظلّ أجدى من الشعر ولا سيّما النثر اليومي أو ما يسمى مذكرات ويوميات. قد يخون الشعر صاحبه وقد يعجز عن استيعاب مثل هذا الجوّ القاسي والقاتم. أما النثر فقادر على محاكاة هذا الواقع في لغة تليق به، متقطعة وقاسية، سوداء وساخرة. "كم مرّ من الوقت"! عبارة اليمة جداً وحقيقية! حتى لو كان الوقت داخل السجن ضئيلاً فهو يغدو طويلاً، طويلاً ولا ينتهي. هذا ما عبّرت عنه شهادات السجناء اللبنانيين والنصوص والقصائد التي ضمّها كتاب "كتّاب في السجن". يصبح العالم مجرّد مربع صغير أو مستطيل صغير، من اسمنت وكوابيس، من برد وجوع، من شوق وهجس. عالم مجهول كالموت. حتى السجين يظل يجهله. عالم مغلق، بل جحيم مشرعة على نار الوحدة والسأم. عالم يندمج فيه الغياب بالحضور حتى ليغدوَا لاغياباً ولا حضوراً. ويكفي السجين الألم العميق الذي يخلقه مجرّد استرجاعه صورة العالم الخارجي أو مجرّد تذكّره أنّ خارج القضبان ثمة عالم آخر. وكم مؤلم أيضاً أن يفكر السجين في ذلك اليوم الذي يُفتح الباب أمامه. إنّه ألم الانتظار الذي لا زمن له. ليست شهادات السجناء - الكتاب أو السجناء - المناضلين سوى "بيانات حرية". بيانات حرية كتبوها بأظافرهم على الجدران أو بدمهم ودمعهم أو بأقلامهم على الأوراق البيضاء، على المحارم أو الأوراق النافلة وخبّأوها ليحفظوا بريقها من صدأ الأبواب المغلقة. ما أصعب حقاً أن يزجّ بالأدباء والمناضلين داخل عتمة السجون كما لو أنهم مجرمون أو سارقون أو... ليس كلّ هؤلاء حقاً جان جينه الكاتب الذي لم يشأ أن يكون قديساً بحسب ما قال جان بول سارتر بل شاء أن يدخل السجن كسارق مرتكباً معصية بحقّ العالم والحياة والقدر. 1- صدر الكتاب عن دار المسار، بيروت 2000 2- صدرت الطبعة الفرنسية منه عن دار "لابو إي فيدس" ومؤسسة "بن"، جنيفسويسرا. وسوف يصدر في لغات أخرى.