استيقظ عمي الكبير من نومه قبل طلوع الفجر، وراح يستعد للوليمة المنتظرة. قلنا: يبدو أنه لم ينم طوال الليل، أو أنه نام وهو يحلم بالوليمة. منذ أسابيع وعمي الكبير يهلوس في ساعات صحوه وفي ساعات نومه. أصبح اسم رامسفيلد مثل تعويذة على لسانه. ابن عمي، طلحة، طلب من أبيه غير مرة أن يطوي صفحة هذا الموضوع ولا يعود إليه. قال له: رامسفيلد لا يفكر بك ولا يمكن أن يستجيب لدعوتك. عمي الكبير قال وهو مستفز من كلام ابنه: وانت شو بيعرفك يا ولد؟ وراح يروي لنا كيف أن المرحوم والده، شيخ الحي لسنوات طويلة، وجه دعوة لجلوب باشا الانكليزي، القائد العسكري المعروف، فلبى الدعوة شاكراً، وجاء إلى الحي في ثلة من عسكره، فانبهر أهل الحي بمنظر الجنود المصطفين حول القائد، أو الذين انتشروا فوق أسطحة المنازل، لحراسته. قال عمي: يومها أكل جلوب باشا منسفاً مجللاً باللحم. وقال: صدقوني أنه أكل المنسف بيده مثلنا نحن العربان، لم يستخدم ملعقة، وزاد على ذلك بأن شرب المرق من طنجرة صغيرة حتى ابتلت ذقنه وشارباه. قال ابن عمي ساخراً: تظاهر بأنه مثلكم لكي يضحك على ذقونكم. زجره عمي وقال: طيب اسكت، اسكت! ثم أضاف: أنا متأكد أن رامسفيلد سيلبي الدعوة، وسيأتي لأكل المنسف في هذا الحي. بدا عمي الكبير واثقاً من كلامه كما لو أن رامسفيلد، وزير دفاع أقوى دولة في العالم، بات في جيب قمبازه، أو رهن إشارته كما يقال في كتب الأدب. غير أن ابن عمي، طلحة، ظل متشككاً في كلام أبيه. همس في أذني وقال: الوالد خالص كازه! طلبت منه في الحال ألا يردد مثل هذا الكلام لئلا تقع فتنة في الحي. مرت أيام، وبدا واضحاً أن رامسفيلد سيلبي دعوة عمي الكبير، وقد تداول الناس أثناء ذلك، إشاعات كثيرة. مثلاً: قيل إن عمي الكبير ذهب إلى فتاح مشهور في إحدى القرى. الفتاح ابتدأ حياته سرسرياً كثير النزوات، ثم هداه الله وفتح عليه. قال الفتاح لعمي الكبير: أبشر يا عبدالرزاق، سيأتيك الضيف المدعو رامسفال على جناح الريح. عمي الكبير غضّ النظر عن التلفظ الخاطئ باسم الوزير، وغفره للفتاح لأنه رجل درويش، لكنه خرج من عنده موقناً أن جهوده لم تضع سدى، فقد قام بوساطات عدة كي يستجيب رامسفيلد للدعوة المتوخاة. اتصل عمي على ذمة الرواة بسفارات عدة من دون خشية من شبهة الاتصال بالسفارات، وفي ذهنه أمر واحد لا يتعداه: دعوة رامسفيلد لتناول طعام الغداء! ويضيف الرواة أن بعض السفراء استغربوا الدعوة واعتبروا عمي مخبولاً، غير أن سفراء آخرين وجدوا في الدعوة منتهى الحكمة ورجاحة العقل، فبذلوا جهوداً مشكورة في هذا الشأن. وقيل إن عمي الكبير لم يكتف بجهود السفراء، فقد لقنه والده المرحوم أن الله سبحانه وتعالى يضع سره في أضعف خلقه، لذلك توجه إلى الفتاح الذي كان سرسرياً وهداه الله، وتوجه في وقت لاحق إلى مختار في قرية مجاورة معروف بالمتاجرة بالحشيش، وبتزوير الوثائق المتعلقة بملكية بعض الأراضي، لبيعها لشركات إسرائيلية متخصصة في سرقة أراضي الفلسطينيين. تلفظ عمي باسم الوزير مرات عدة أمام المختار، الذي قال: آه، رامفيلد! هذا الإسم مش غريب عليّ. تغاضى عمي الكبير، كما قيل في ما بعد، عن هذا الخطأ غير المقصود، وواصل الإصغاء لكلام المختار وهو يؤكد له أنه سيطلب تدخل صديقه مدير الشركة الإسرائيلية في هذا الأمر. قال: إطمئن، مدير الشركة رجل مهم وإيده طايلة! سأل وهو شارد الذهن: ضيفك هذا من وين؟ قال عمي وفي كلامه رنة استياء: أميركاني! رامسفيلد! وزير الدفاع! ما سمعت فيه؟ قال المختار مستدركاً: أيوه رامفيلد! بقول لك هذا الإسم مارّ عليّ. قال بعد لحظة صمت: خلص، إركن عليّ. عمي الكبير لم يكتف بذلك، ظل يجري اتصالات مع جهات عدة حتى استجاب رامسفيلد للدعوة. انتشر خبر مجيء رامسفيلد إلى حينا، في كل أرجاء الحي وفي الأحياء المجاورة. أسقط في يد ابن عمي، فوجئ تماماً، إذ كيف يقبل رامسفيلد دعوة من أحد وجهاء حي مغمور في رقعة صغيرة من هذا الكوكب الفسيح! قال ابن عمي إن عليه مراجعة أفكاره ومواقفه التي تعب من أجل بنائها طوبة فوق طوبة كما يقال، وها هي ذي الآن مهددة بالانهيار داخل رأسه، لمجرد أن رامسفيلد قبل دعوة أبيه! لو كان الذي لبى الدعوة هو وليم بيرنز أو ميتشيل صاحب الريبورت أو القنصل الأميركي في القدس، لقلنا إن الأمر متوقع ومعقول، أما أن يلبي الدعوة رامسفيلد وزير الدفاع القوي الجبار، فهذا أمر بحاجة إلى إعادة نظر في كل المسلَّمات. عمي الكبير ضرب ضربته وجاءت صائبة بإحكام. عمي لا يفلسف الأمور مثل ابنه طلحة، علمه أبوه المرحوم حكمة ظلت قابعة في رأسه لا يطاولها النسيان، قال له: صاحب السبع حتى لو أكلك. وحينما ذاع صيت رامسفيلد، وراح عمي يتابع غزواته المظفرة التي تتحدث عنها الإذاعات، فقد اتخذ قراره بتوطيد علاقته مع رامسفيلد للاستقواء به ولطلب العون منه في الملمات. عمي لا يفكر في قضايا السياسة العامة هذه الأيام، لا يفكر بمجابهة مع إسرائيل مثلاً، ثم إن رامسفيلد ليس خصماً لإسرائيل حتى يستعين به عمي عليها. منذ أن توالت علينا الهزائم وطال فوق رؤوسنا أمد الاحتلال، تراجع عمي إلى مواقعه الأولى، وجيهاً من وجهاء الحي، يناصب الوجهاء الآخرين العداء، ويخوض معهم صراعات عائلية لا تسرّ الخاطر ولا ترفع الرأس، يهجم عمي مع أبناء عائلته على هذا الجار أو ذاك، ويتعرض عمي في الوقت نفسه لغزوات مشابهة. مرة، اشتبك في شجار دموي مع الجيران، جرح في ذراعه من طعنة سكين، وهزم هو وأبناء العائلة شر هزيمة. لذلك، خطر بباله أن يتحالف مع شخص ذي بأس وجبروت، فلم يظهر له أحد أقوى من رامسفيلد. أخذ عمي يستعد لاستقبال الضيف الخطير. اختار ساحة واسعة في وسط الحي، وأمر ببناء المضارب فيها، وخصص مكاناً في طرفها لهبوط الطائرات. ثم أرسل في طلب خبيرة الغناء الشعبي في الحي، ليست خبيرة بالمعنى الحرفي للكلمة جاءت على عجل، بقوامها الفارع وبجمال عينيها الذي ما زال يسبي قلوب الرجال، على رغم أنها تجاوزت عهد الصبا منذ سنوات، لكنها ما زالت قادرة على ترطيب ليالي الأعراس بصوتها الرنان. قال لها عمي وهو يرمقها بحنان: قيل إنه أقام معها علاقة سرية دامت أعواماً عدة اليوم يومك يا مليحة. قالت مليحة مدللة على خبرة لا يستهان بها: فكرت في الأمر قبل أن تدعوني، بس إلي شرط واحد. قال عمي: أشرطي يا مليحة. قالت: نحذف آخر حرف في اسمه! استغرب عمي كلامها، وكادت تنشب أزمة ذات طابع لغوي. قالت مليحة بإصرار: إسمه غريب، كأنه لم يُخلق للغناء. ضحك أحد مدرسي اللغة في حيّنا وقال: فعلاً، لدى هذه المرأة الفاضلة إحساس سليم. لأن التلفظ باسمه يضايقك كما لو أنك تبتلع مسماراً! وكما قيل: لكل امرئ من اسمه نصيب! غضب عمي وزجر المدرس من دون اعتبار لوزنه العلمي: اسكت انت يا ابو لحية! بديش تقلبوا الموضوع سياسة! سياسة ما بدي! انصاع عمي لشرط مليحة بعد طول جدال. وانصاع طلحة، ابن عمي، لمبادرة أبيه التي كادت تزلزل أفكاره ومعتقداته، غير أنه عاد لتوظيفها في مجال دعم هذه الأفكار. قال: هذا هو العالم الجديد الذي يتخلق بين أيدينا وأمام أنظارنا، حيث لا يترفع أكبر مسؤول عن زيارة أبسط الناس، لسبب بسيط: تدعيم أواصر الثقة بين الحاكم والمحكوم. وأضاف: أصبح عالمنا قرية صغيرة مثل قولك الله واحد! لم أعلق على كلام ابن عمي، ولم أستغربه منه، ولم يتوقف عن ابتداع التبريرات لنفسه، إلا حينما دخل علينا عمي الكبير، ورأى دزينة من القمصان الفاخرة مركونة في أحد أركان المضافة. قال ابن عمي: هذه القمصان، سأقدمها هدية لرامسفيلد! تساءل عمي: مين قال لك إن رامسفيلد ناقصه قمصان؟ قال ابن عمي من دون تردد: دائماً يظهر رامسفيلد على شاشة التلفاز بقمصان مجعلكة، سأقدم له هذه القمصان الثمينة. ولم ينقذ هدية ابن عمي من مصيرها المظلم إلا وصفه لها بأنها ثمينة. أمام هذه اللفظة ذات الرنين الخاص، استكان عمي ووافق على تقديم الهدية لضيفه العزيز. تشجع ابن عمي واقترح على أبيه أن يحضر لضيفه طعاماً عصرياً: وجبة ستيك مثلاً أو وجبة دجاج مسحّب! استاء عمي من كلام ابنه، ردد ساخراً: ستيك أو دجاج مسحب! فيه حدا بيرفض المناسف عشان يوكل جاج مسحب يا طلحة! سكت طلحة مغلوباً على أمره، وراح عمي يستعد لاستقبال الضيف. وصل الضيف في الموعد المحدد. حطّت ثلاث طائرات هليكوبتر في طرف الساحة الكبيرة. نزل رامسفيلد من إحدى الطائرات، تلفت حواليه مرات، عدل نظاراته الطبية بإصبعه فوق عينيه، وابتسم ابتسامة عريضة واثقة، واندلع غناء النسوة: ركبْ رامسفيلِ وسافرْ ع حَلَبْ قَدّموا له البقلاوة في صحون ذَهَبْ. تقدم رامسفيلد نحو المضارب ومن حوله حاشية كبيرة، برز له عمي ومن حوله حشد من رجال الحي. صاح عمي مرحباً: يا هلا، يا هلا، يا هلا! وواصلت النسوة الغناء: ركب رامسفيلِ وسافر ع طوباس قدموا له البقلاوة في صحون نحاس. تعانق رامسفيلد مع عمي الكبير كأنهما صديقان منذ سنوات. قاده عمي من يده وأجلسه فوق فرشتين من الصوف، جلس رامسفيلد وظل يرسل ابتسامته التي تبدو كأنها الرد غير المباشر على من يسأل: يا فرعون مين فرعنك؟ ابتسامة متعالية متأنقة سابحة في ملكوتها النخبوي الخاص، ولم تنقطع تلك الابتسامة إلا حينما شرب رامسفيلد جرعة من فنجان القهوة المرة، عقد جبينه وبدا متذمراً كما لو أن شوكة انغرزت في حلقه، ولم تنفرج أساريره إلا بعد أن عاجله عمي الكبير بكأس ماء، شربه رامسفيلد وعاد يبتسم كالمعتاد، وعمي الكبير يحمد الله بصوت مبتهل لأن ابتسامة ضيفه عادت تتلألأ على محياه. جاءت المناسف يحملها أبناء العشيرة ويضعونها أمام الضيف وحاشيته. قال عمي بلهجة فيها الكثير من التوقير والاحترام: يا حيا الله ضيفنا رامسفيلد وربعه! تفضل يا ضيف! تفضلوا يا الربع. لم ينهض أحد لتناول الطعام، أرسل رامسفيلد ابتسامته المتلألئة نحو اللحوم المكومة فوق تلال الرز، وظل قابعاً في مكانه لا يغادره. ارتبك عمي الكبير وهمس في أذني: صدق طلحة! لو أنني طاوعته وقدمت له وجبة دجاج مسحب! غير أن رامسفيلد قطع على عمي ظنونه، تلفظ ببضع كلمات، ثم قال المترجم لعمي: تفضل أنت، تناول من كل منسف لقمة! عرف عمي ما هو المقصود من هذا الكلام. ثار في داخله بركان غضب لم يسمح له بالانفجار. قال لأحد الأولاد: أحضر الكلب يا ولد، بسرعة، مثل الطير. أحضر الولد الكلب، رمى له عمي كمية من اللحم والرز، اغترفها من الصينية الكبيرة الجاثمة أمام رامسفيلد. انطلق الكلب يلتهم الطعام بشراهة، ورامسفيلد يبتسم كما لو أنه يشاهد مسرحية هزلية. تحشرجت أنفاس الكلب، وتسلطت عليه موجة من سعال حاد، جحظت عيناه، تلوى مرات أمام الجمع، ثم ارتمى على الأرض ومات. ارتعب عمي الكبير واعتقد أنه وقع في ورطة لم يتوقعها. نهض رامسفيلد غاضباً، مع ذلك، لم تغب ابتسامته تماماً هجم عدد من مرافقيه الأشداء على عمي، وقيدوه بقيود أحضروها معهم استعداداً لمفاجأة كهذه كما يبدو، تفرق الناس خائفين مذعورين، واتجه رامسفيلد إلى الطائرة. اقتيد عمي الكبير إلى سجن غوانتانامو، إحدى محطات التلفزة ذكرت أنه محجوز في فيللا فخمة في إحدى ضواحي نيويورك! وُجهت له تهمة الانتساب إلى خلية إرهابية. قامت هيئة دولية محايدة بفحص الكلب الذي تناول الطعام، فوجدت أنه مات من عظم التصق بحلقه. جرت تدخلات للإفراج عن عمي، قامت بها محافل دولية عدة. الجامعة العربية تدخلت مع أنها ليست محفلاً دولياً! تدخل المختار الذي يزوّر الوثائق، وحلف أيماناً مغلظة بأن عمي بريء من التهمة المنسوبة إليه. أطلق الفتاح الذي كان سرسرياً ثم تاب، نبوءة، قال أمام حشد من أهل الحي أثناء زيارة للحي: حينما يصبح القمر بدراً في السماء، سيعود عبدالرزاق. وبالفعل، لم تخب النبوءة، أو هذا ما اعتقده بعض الناس وهم مبهورون بعلم الفتاح. مرت ثلاثة أشهر، وأصبح القمر بدراً أثناء ذلك ثلاث مرات، ثم مرت تسعة أيام أخرى، وإذا بعمي الكبير يعود من سجن غوانتانامو. روى لنا ما جرى معه من طقطق لسلام عليكم، وهو ما زال حتى يومنا هذا يعيد رواية كل شيء مثل اسطوانة عالقة، ويستقبل في الوقت نفسه المهنئين في بيته، ومن لم يعرف بالأمر حتى الآن، فها أنذا أخبره بذلك، والله على ما أقول شهيد. ذ