هل جئت تحرق البيت كما فعلتَ في المرة السابقة؟ قالت زوجته بصوت مرتعش، وتراجعت إلى دكّة المطبخ لتتماسك في وقفتها، أو لتمسك شيئاً ما تدافع به عن نفسها. ظلّ خليل على وقفته، يخفض عينيه إلى الأرض، خجلاً من الرعب الذي يسببه حضوره للمرأة التي يحبها، لكنه اقتنع أخيراً أنْ لا نصيبَ له معها، قال: "لم أحضر لأفعل شيئاً يؤذيك". فكرتْ أن تصرخ، تستغيث بالجيران، إلاّ أنها خافت من اثارة أعصابه، فأجلتْ الفكرة إلى أن يصبح الخطر واضحاً، سألت، وهي تختلس النظر إلى ملابسه، ملابس البناء التي تحمل على الدوام غبار الأسمنت وفُتات الجص العالقة: "إذن، لماذا جئت؟" من جديد ردّد أمامها: لن أفعل أي شي يزعجك. بدا أمام نفسه مرتبكاً، عاجزاً عن تفسير وضعه، أو تقديم العذر لهذه الزيارة التي أثارت الرعب في البيت. كل مرة تقول الكلام نفسه، لكنك لا تأتي إلاّ لتجلب لي المشاكل، ردّتْ عليه حين استعادت شجاعتها، لتواجه هدوءه الذي يرعبها أكثر من أي شيء آخر، ثم أضافت: ألا تعرف إننا منفصلان، ولا يحق لك زيارة البيت؟ يعرف، ولن تقبل نفسه ترميم علاقتهما التي هدّمتها المشاكل والأخطاء، جاء ليقول لها كلمتين ثم يرحل من دون رجعة، بَيدَ أن خوفها أربكه، شتّت الكلمات فوق لسانه، فهو بحاجة إلى لحظة سلام، يقول خلالها ما جاء يقوله، ثم يذهب. أمس قال له والده: "يجب أن تصالح العالم من حولك، حينها تهدأ نفسك وتعيش بسلام، وإلاّ ستقضي بقية حياتك في القلق والوحدة". راح يفكر بكلام والده إلى وقت متأخر من الليل، وفي الصباح قرر التضحية بالكثير، من أجل تحقيق الصفاء بينه وبين بقية البشر. طاف على الأشخاص الذين دفعته لحظات التهور والغضب إلى شتمهم، أو المشاجرة معهم، واعتذر من الأقرباء لينهي حالات من العداء والجفاء كادت تضعه وحيداً منبوذاً على مبعدة كبيرة من الشر، بعدها شعر بارتياح كبير، بأنه تخلّص من ثقل مزعج في معدته، وتخيّل والده يبتسم له بحنان، والناس ينظرون إليه بود عميق. قال لها: "جئت أطلب الصلح، أعتذر لك ولا شيء آخر في رأسي". نظرت إليه شزراً، إذ جعلها هذا الكلام تتوجس الشر أكثر من الأول، فسارع إلى القول، عندما لاحظ جحوظ عينيها من فكرة المصالحة، سارع إلى التوضيح: لا، لا، أعني أصالحكِ ثم أذهب. تلفظ العبارة الأخيرة في عزم صادق، مع ذلك راحت تراقبه من المسافة ذاتها، تحاول سبر نواياه الحقيقية، متيقظة من حالته الوديعة، التي قد تنقلب في أية لحظة إلى هياج وعدوان. منذ السابعة عشرة تعلم خليل كيف يمسك حجر الباطون بيد ثابتة، ويحدّد استقامة الجدران بنظرة خبيرة، وقد منحته قامته الممتلئة، المعتدلة الطول، هيئة الأسطة، وهيبة الرجال الأشداء، إلاّ أن براعته المبكرة في البناء هي التي حطمت آمال أبيه، في أن يغدو ابنه الوحيد موظفاً كبيراً، أو مدير مدرسة مثل بقية أقربائه، أما الناس الذين يعايشهم، البناؤون والعمال ومتعهدو البناء، فانهم يعترفون بمهارته، على رغم كرههم لنوبات الغضب التي تنتابه، لأنه يهتاج لأتفه الأسباب، تغطي عينيه غشاوة كثيفة فيسب ويلعن أي شخص، أو يضربه بمقبض الفأس، أو يأخذ بخناقه ولن يخلّصه من بين يديه إلاّ كومة من الرجال. كان يحسّ العطب في داخله لكنه لا يفهم معناه، ولا يعرف إن كان الآخرون مثله ويخفون عطبهم، أم أنهم أصحاء متمكنون من أنفسهم؟ كيف حال الولد؟ سأل بعد تردد. ماذا تريد منه؟ إنه نائم في سريره. أردتُ أن أسأل عنه لا غير. إنه بخير. أجابت بنفس اللهجة المتحدية. هزّ رأسه متفهماً، وقال في دخيلته: "ليبقَ نائماً، فلم يحدث بيني وبينه ما يستوجب الصلح" ثم خرج. في غرفة ضيّقة، داخل فندق قديم، دثّر ظهره بغطاء ثقيل وجلس على مقعد كبير مضعضع، وراح يقرأ قصص الحبّ والمغامرات في كتب ومجلات قديمة واظب على شرائها والاحتفاظ بها منذ صباه. كانت دواخله مفعمة بالارتياح من يومه، من تصفية خلافاته، لذلك كان يتوقف عن القراءة ليفكّر، مستمتعاً، برضاه عن علاقته الجديدة بالناس، وبالحياة، ثم يعود إلى القراءة. غير أن عينيه زاغتا بعيداً عن السطور، بعيداً عن الورق، حين تذكّر وقفة زوجته المتحدية وعنادها، ليسأل: "لماذا أبعدت الطفل عني؟ إذا حصلتْ على الطلاق في المحكمة، هل تحرمني من رؤيته إلى الأبد؟ من يدري! ستفعل أي شيء لتنتقم، الجيران يشهدون لمصلحتها، الأقرباء أيضاً، كل المدينة تشهد. كنت لطيفاً، مسالماً، مع ذلك عاملتني كما يعاملون المصابين بالجذام... خليل! ماذا فعلت بنفسك يا خليل؟ لماذا أصبحت مثل خلطة اسمنت بالتراب، تتفتت بضربة فأس واحدة؟ تثور وتغضب وتشتم هذا وتدفع ذاك، فماذا جنيت من حروبك يا خليل؟ ستبقى وحدك بين الجدران الرطبة، والنوافذ المخلّعة، وحدك، أنتَ وأعصابك الهائجة، كان يجب أن تقبل الناس، تعيش بينهم كما يعيشون، فيكون لك بيت وزوجة، وطفل تراه في أي وقت تشاء! لكن لماذا أقبل الناس؟ ماذا أفعل يا ربي، لماذا أسكت على رذالاتهم، على جشعهم؟ صاحب الفندق يرفض تغيير هذه الأغطية البالية، الحقيرة، وحين اعتذرتُ له عن الشتائم التي خرجت من لساني، وقف ينظر إليّ بكبرياء. متعهد البناء...الآخرون أيضاً، محتالون، جشعون، ماذا أفعل للغضب الذي يمزّق أعصابي حين أواجه سلوكهم! ستبقى وحدك يا خليل، كل يوم نفس المعارك، نفس الهياج! هل السبب الناس، أم أعصابي الثائرة دائماً! ما عليك إلاّ أن تسكت، تحمّلهم واسكتْ. صالحتَ الجميع ويمكنك العيش معهم في سلام، من دون مشاكل وبلا أعداء! لكن، ماذا تفعل يا خليل، عندما يقف الكلب في طريقك ويقول: ما أغلظ ذنَبكَ؟"