أطلت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مئير، بوجهها، من شاشات التلفزيون الإسرائيلي، مساء يوم 6 تشرين الاول اكتوبر 1973، مؤكدة أن إسرائيل لم تفاجأ بالهجوم السوري - المصري، الذي كان بدأ في حوالى الثانية من ظهر اليوم نفسه. لكن وزير الدفاع الإسرائيلي، آنذاك، موشيه ديان أقر، غير مرة، بالمفاجأة. الأمر الذي أكدته، أيضاً، "لجنة اجرانات" الإسرائيلية، التي عينت للتحقيق في اسباب التقصير الإسرائيلي في مواجهة الهجوم السوري - المصري. وأشارت اللجنة الى أن القيادات الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، لم تقدر - حتى ساعات صباح يوم 6/10/1973 الباكر "أن حرباً شاملة ستبدأ". وبالتنصت على أجهزة لاسلكي المواقع الإسرائيلية الأمامية على الجبهة المصرية، لاحظت القيادة العسكرية المصرية ان تبليغات تلك المواقع الى قيادتها "تحمل عصبية، لا تصنعها إلا المفاجأة"، وسرعان ما أجمع المختصون الاميركيون والبريطانيون، والفرنسيون، فضلاً عن الإسرائيليين، على وقوع المفاجأة. اليوم، بعد ثلاثة عقود على اندلاع حرب اكتوبر، فإن رئيس وزراء إسرائيل الاسبق بنيامين نتانياهو، استهجن نجاح العرب في تحقيق المفاجأة، على نحو عجزت معه إسرائيل عن التقاط التحضيرات العربية البادية للعميان، التي سبقت اندلاع الحرب. غني عن القول إنها الحرب الأولى التي حقق فيها العرب المفاجأة على العدو الإسرائيلي، في ما سبق لهذا العدوان أن فاجأ العرب في الحروب الثلاث التي سبقت حرب اكتوبر 1948، 1956، 1967. واحتلت المفاجأة، هنا وهناك، موقعاً ذا جدوى في صنع النصر. المفاجأة؟ إنها جملة من الأعمال خارج دائرة توقع العدو، في الحجم والتوقيت والاتجاه. ما يربك العدو ويشل قدراته. على أن المفاجأة لا تتحق من تلقاء نفسها، بل ان الأمر يتطلب النجاح في تضليل العدو حول النيات، والتحضير للهجوم في تكتم، واخفاء العمليات الخطط: التحركات، المواقع، وخطوط المواصلات، فضلاً عن مباغتة العدو، في الزمان والمكان، والسلاح، والاساليب، ناهيك عن حسن توظيف عناصر الرؤية والجو. بمفاجأة تشرين الأول 1973، تمكنت القوات المسلحة السورية والمصرية من انتزاع زمام المبادرة من يد القوات الإسرائيلية، ما أحدث فجوات واسعة في خطوط دفاعها، وفرصاً سانحة للوصول الى اجنحتها ومؤخرتها. من بين كل مفردات المفاجأة، يحتل التمويه الموقع الاهم، على أنه ليس ميسوراً، اذ يتطلب درجة عالية من الاستعداد القتالي، والإلمام الواسع بأساليب العدو، وطرائق تفكيره، فضلاً عن استطلاع مستمر ودقيق. يلاحظ أن المفاجأة تتبادل التأثير مع الحركة، إذ تؤدي الحركة الى المفاجأة، كما تعطي الاخيرة للحركة قوة دفع ضرورية. وللمفاجأة مرتبتان، في المرتبة الاولى تقع المفاجأة التكتيكية، بينما تحتل المرتبة الاعلى المفاجأة الاستراتيجية، الاولى أضيق نطاقاً، أما الثانية فعلى مستوى عمليات الجيش كله. مفاجأة تشرين الأول بحسب المعلق العسكري الإسرائيلي الذائع الصيت زئيف شيف، فإن حرب تشرين الأول كانت الاولى التي خطط العرب لها، فكان استراتيجيوهم وراء المبادرة والمباغتة، ما اضاف هاتين المزيتين الى مزية حجم أو نوع الاسلحة التي قاتل بها العرب. لقد تأسست المفاجأة الاستراتيجية هنا، بعد تغيير السياسة السوفياتية، وطي صفحة الخلافات المصرية - السوفياتية، وضخامة حجم اسلحة الحرب وحداثتها، وأخيراً شن الهجوم العسكري المصري - السوري الشامل. بداية، لم يكن يوم ي المحدد لبدء القتال معروفاً لغير رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش، في كل من مصر وسورية، وفي الاول من تشرين الاول ابلغ قادة الجيوش بتفاصيل الخطة، التي نزلت يوم 3/10، الى قادة الفرق، وفي اليوم التالي الى قادة الالوية، ويوم 5/10 الى قادة الكتائب، مع ملاحظة ان كلاً منهم عرف ما يخص القوات التي تحت قيادته فحسب. بيد أن بعض جنود طلائع الهجوم عرفوا بأمر الهجوم، قبلها ب48 ساعة، وبعضهم الآخر عرف صباح يوم الهجوم فحسب. اللافت ان مهمات العمليات اعطيت لبعض المستويات، باعتبارها مجرد مشاريع تكتيكية مناورات! ضماناً لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية، جرى تحديد التوقيت الملائم لنا، غير الملائم للعدو، واختير يوم 6 تشرين الأول الذي يناسب "يوم كيبور" او عيد الغفران عند يهود إسرائيل، المنشغلين - أيضاً - بالتحضير للانتخابات البرلمانية، التي كانت ستجرى اواخر تشرين الأول من ذلك العام، وفي الموعد الذي اختير للهجوم تكون الليلة مُقمرة، وتيار القناة مواتياً للعبور السريع، ولا يكاد العدو يتوقع تحرك العرب حيث شهر رمضان وفيه يصوم المقاتلون العرب، بل يعتبرونه من الاشهر التي حُرم فيها القتال، أما عدونا نفسه فأبعد ما يكون عن الاستعداد للقتال. تحددت ساعة الصفر، لتكون الثانية من بعد ظهر السبت، الموافق 6/10/1973، قبل الغروب بثلاث ساعات ونصف الساعة، بما يفسح المجال لسلاحي الطيران السوري والمصري لتوجيه ضربتهما المركزة الاولى، فضلاً عن تحريك الجسور الى شاطئ قناة السويس الغربي. * التضليل: في كل حرب، ثمة خطة للخداع، لا تقل اهمية عن خطة العمليات، تبدآن معاً، وتسيران في موازاة بعضهما بعضاً، فكيف سارت خطة الخداع العربية في تلك الحرب؟ - عسكرياً: بدأت القيادتان العسكريتان - المصرية والسورية - باستدعاء الاحتياطي، قبل عشرة أيام من شن الحرب، وان عادتا لتسرح نسبة غير قليلة من الاحتياطي المستدعى، يوم 4/10، وفضلاً عن الخداع الذي تحقق هنا، فإن قرابة مئة الف مقاتل تم استدعاؤهم على الجبهة المصرية، وحوالى نصفهم على الجبهة السورية. وحدث ان اذاعت القيادة العسكرية المصرية نشرة، مفادها ان استدعاء الاحتياطي جاء لاختبار مدى فاعلية الاستدعاء، ويلاحظ أن تكرار استدعاء الاحتياطي، منذ ترأس السادات الجمهورية المصرية، خريف 1970، أعطى انطباعاً للكافة بأن الاستدعاء الاخير لا يختلف عما سبقه من الاستدعاءات، التي استخدمها السادات لمجرد امتصاص السخط الشعبي المصري. كما أن الاعلان عن مناورات قتالية، ما بين 1-7/10/1973، أظهر استدعاء الاحتياطي في صورته الطبيعية، أو الروتينية، ومعه انتقال القيادات الى مراكز القيادة الميدانية. وفي سباق الخداع، اخذت القوات المصرية والسورية تتحرك، في اتجاهات مختلفة ومتباينة، واتخذ من الجبهتين المصرية والسورية مع العدو ميدان عمليات، لتعويد العدو على الحشد والتحركات العسكرية. ولطالما تحركت القوات السورية والمصرية الى الجبهة، ليلاً، لينسحب القليل منها، نهاراً، قبل أن يعود المنسحبون الى مواقعهم في الجبهة، ليلاً، من جديد. بهذا تم الحشد المتدرج على طوال المواجهة، من دون اثارة مخاوف العدو الإسرائيلي. ولستر التحركات وأهدافها، فرض المصريون والسوريون صمتاً سلكياً ولاسلكياً على الجبهتين. في السياق نفسه تكرر، على مدى عام كامل، سحب الدبابات واعادتها الى مصاطبها، وكذلك المدفعية، بهدف تعويد جنود العدو على رؤية دبابات عدوهم ومدفعيتهم في وضع الاستعداد. وأسهم سد رملي عالٍ في اخفاء حشود الدبابات على جبهة القناة، أما معدّات العبور - أكبر شاهد على نية الهجوم على الجبهة المصرية - فتم نقلها، مرات عدة، من العمق المصري الى خط المواجهة لإيهام العدو بأنها لمجرد التدريب. على الجبهة السورية، امتنعت القوات السورية عن استخدام صواريخ سام 6، يوم 13/9/1973 وضحّت تلك القوات ب13 طائرة حربية سورية، لئلا تخسر سورية ومصر سرية المفاجأة بهذا النوع من الصواريخ، عند اندلاع القتال. الى ذلك بررت هذه المعركة الجوية الحشود العسكرية السورية، وحدّت من قلق القيادة الإسرائيلية من هذه الصور. لتعميق الاسترخاء الإسرائيلي، تم تحديد مواعيد مقابلات عدة لكبار قادة القوات المسلحة، يوم 6 تشرين الاول، وظل الجنود المصريون، الى ما قبل نصف ساعة من الهجوم، يسبحون في القناة، ويسيرون على طول خط القناة بملابسهم الداخلية، ومن دون سلاح، كما احضروا اطفالاً، للعب بالقرب من المواقع العسكرية، وقامت قطع من الاسطول الحربي المصري بزيارات مجاملة لعدد من الموانئ، فيما استمر عمال أو موظفو البناء في أعمال التحصينات على الجبهة المصرية، حتى لحظة وقوع الهجوم. كما مُنع الجنود المصريون والسوريون من ارتداء الخوذات الى ما بعد اندلاع القتال. - ديبلوماسياً: شكا السادات، قبل اسبوع واحد من الحرب، من تدهور البنية الاساسية، وتهالك المرافق، والحاجة الماسة الى اعادة بناء القوات المسلحة، وشدد على أنه لن يدفع بجنوده الى القتال، "قبل ان اضع الالكترون في ايديهم"! الامر الذي يتطلب وقتاً طويلاً، فيما توسع الديبلوماسيون المصريون والسوريون في الحديث عن السلام، داخل اروقة شتى المحافل الدولية. وركزت مصر على سلاح النفط، بما يؤكد استبعادها أمر القتال. وبُذلت جهود كبيرة لإقناع دول افريقية بقطع علاقاتها الديبلوماسة مع إسرائيل، وعدلت سورية عن رفضها قرار مجلس الامن الدولي، الرقم 242، في الوقت الذي ناقش مجلس الوزراء المصري، بالتفصيل، يوم 3/10، مشروع اندماج ليبيا مع مصر. ثم ما كان من وزير خارجية مصر، محمد حسن الزيات، إلاّ ان اجتمع، في واشنطن، في اليوم السابق على الحرب، بنظيره الاميركي، هنري كيسنجر، للبحث في مبادرة كيسنغر للسلام. - إعلامياً: ألحت وسائط الاعلام السورية والمصرية على ضرورة البحث عن حل سلمي، ولم تسلم الاعمال الفدائية الفلسطينية من انتقادات تلك الوسائط، كما اشاعت اخباراً مضللة عن عدم استعداد القوات المصرية والسورية. وعنها نقلت الصحف الاجنبية وقائع اكثر تفصيلاً في هذا الصدد في وقت طغت أخبار مفتعلة عن خلافات مستفحلة بين السوريين والخبراء السوفيات، ونجحت سورية في إلهاء إسرائيل بحادث شوناو، حيث اختطف فدائيان فلسطينيان في 28/9/1973، عدداً من المهاجرين اليهود السوفيات، في "معسكر شوناو" في النمسا، فوافق مستشارها آنذاك، برونو كرايسكي على اغلاق هذا المعسكر، حتى أن مصر بررت حشودها العسكرية آنذاك، بخشيتها من هجوم عسكري انتقامي، تشنه إسرائيل. على الجبهة المصرية أذيع أن وزير الحربية المصري سيجتمع بنظيره الروماني، يوم 8/10، وان الوزير المصري فتح الباب لقبول طلبات الضباط والجنود الراغبين في اداء العمرة، كما وقعت شركة بترول اميركية اتفاقاً مع الحكومة المصرية، يقضي بإنشاء خط انابيب ينتهي عند الادبية على خليج السويس، في نطاق دائرة العمليات العسكرية، ما اكد أن مصر تتوقع فترة هدنة طويلة. ونشر محمد حسنين هيكل - الذي كان لا يزال مقرباً من السادات - مقالاً في يومية "الاهرام" القاهرية، قبل خمسة عشر يوماً على اندلاع الحرب، أكد فيه أن إسرائيل ستعيد سيناء الى مصر، لأن الاولى غير حريصة على احتلال سيناء، ونشر على نطاق واسع، على مدى الايام العشرة السابقة على بدء الحرب، أن السادات على وشك التنازل عن رئاسة الوزراء الى سيد مرعي، في الوقت الذي شغلت محطات الاذاعة وقنوات التلفزيون السورية والمصرية، برامجها بمباريات كرة القدم على نحو غير مسبوق. * مفاجآت تكتيكية: فضلاً عن المفاجأة الاستراتيجية، فإن الجيشين المصري والسوري، نجحا في تحقيق جملة من المفاجآت التكتيكية، لعل في مقدمها، سرعة تركيب الجسور على القناة، وحمايتها، وتطور المقاتل العربي واستبساله، وحجم السلاح العربي ونوعه، وفتح ثغرات واسعة في السد الترابي على قناة السويس، والتفوق التكنولوجي الملحوظ في الطيران، والدفاعات الجوية، والبحرية العربية، واخيراً جاء الاستخدام غير المتوقع للساتر الترابي المصري. لماذا لم يخمنوا على رغم التقدم التكنولوجي لأجهزة الاستخبارات والاستطلاع الإسرائيلية، المعززة، بأعضاء سابقين في وكالة الامن القومي الاميركي، وبالامكانات الضخمة للقمر الاصطناعي الاميركي "ساموز"، فإن إسرائيل عجزت عن تفسير ما وصلها من مؤشرات، ذلك ان الانتصارات السهلة المتوالية التي سبق لإسرائيل أن حققتها، على مدى ربع قرن من حياتها، أدارت رأس هذه الدولة، حتى غدت مقتنعة، تماماً، بأن العرب يعانون فزعاً مزمناً، جعلهم عاجزين عن القتال، وأن لا سبيل أمامهم عدا الاستسلام. لذا كانت صدمة المفاجأة مدوية، حتى شببها الإسرائيليون، محقين، بالزلزال. * كاتب فلسطيني.