بعد انتهاء أي حرب تدور في العادة معركتان، أحداهما بين القيادة السياسية والعسكرية، والأخرى بين العسكريين أنفسهم، وهي ما يعبر عنها "بمعارك الجنرالات" وتحتدم خصوصاً في وقت الهزائم أو الانتصارات الناقصة، لأنه من المعروف أن النصر له أكثر من أب بينما الهزيمة لا أب لها. وإذا اطلع المرء، على سبيل المثال، على ما كتبه القادة الاسرائيليون بعد حرب 1973 لوجد أن "معركة الجنرالات" ارتفعت حدتها الى درجة ان الجنرال بارليف يثور غضباً من تسمية خط الدفاع شرق القناة باسمه، لأنه يعتبر أن إقامته على طريقة الدفاع الثابت خطأ جسيم يتنافى مع الحروب الحديثة المتحركة، اذ أن خط "ماجينو" الفرنسي تهاوى أمام خفة حركة وحدات "البانزر" الألمانية التي اخترقته وطوقته وانطلقت الى سواحل الأطلسي في الغرب الى دنكرت لتحول بين قوات الحلفاء المنسحبة وبين ميناء انسحابها الوحيد الى بريطانيا. وبعد مضي ربع قرن على حرب رمضان يلمس المرء احتدام الجدل على تقويمها. فالبعض يعتبرها انتصاراً كاملاً حاسماً، والبعض الآخر يعتبرها هزيمة كاملة للقوات العربية، وهذا تقويم غير دقيق للأمور، لأن الحرب عمل سياسي وأداة للسياسة تبدأ بقرار وتحدد أغراضها بقرارات سياسية وتدار - ولا نقصد تُمارس - بطريقة سياسية وتنتهي بقرار سياسي ليجد صاحب القرار نفسه أمام واقع سياسي عليه أن يتعامل معه بأسلوبه الخاص تبعاً للوسائل والامكانات المتيسرة. لذلك فإن قرار الحرب لا يمكن تقويمه إلا في إطار الظروف التي أتخذ فيها شأنه في ذلك شأن أي قرار، لأن القرار وليد ظروفه، ويتعامل مع واقع مجسد. وقرار الحرب ينظر دائماً الي شكل السلام الذي يلي أشعالها، لأن الغرض من الحرب هو تحقيق سلام أفضل، فالدول لا تحارب حباً في الحرب والقتل لكنها تسعى الى الاستقرار الأفضل من وجهة نظرها. ومن أهم أسباب التناقضات الحادة في آراء المهتمين بأمور الحرب والسلام في المنطقة بخصوص نتائج حرب رمضان، هي تجاهلهم انها كانت حرباً محدودة وليست حرباً مطلقة، حرب تحريك وليست حرب تحرير شاملة باستخدام الأداة العسكرية، على رغم أن عبارات "التحرير والتحريك" تثير حساسية البعض. وللدلالة على أنها كانت حرباً محدودة فإن الرئيس انور السادات ذكر في كتابه "البحث عن الذات" أنه كان يقول دائماً لعبدالناصر "لو أخذنا حتى 10 سنتيمترات من سيناء ولم ننسحب منها فسيتغير الموقف تماماً شرقاً وغرباً، ولذلك وضعت توجيهي للقوات المسلحة في شباط فبراير 1973 أن الذي يكسب ال 24 ساعة الأولى سوف يكسب الحرب كلها". ولذلك كان الاسم الذي اطلقه السادات على الحرب وهو "الشرارة" أصدق وأدق التسميات. وأكد هذا المعنى الرئيس حسني مبارك حينما ذكر في كلمته في الندوة التي أقيمت أخيراً في القاهرة لمناسبة ذكرى مرور 25 عاماً على الحرب "اننا حصلنا على الأرض بالقتال والتفاوض والتحكيم". وهذا ما تم فعلاً في الواقع. والحرب المحدودة ليست عيباً حتى يثير حساسيات البعض وينزلقون الى التبرؤ منها فيزيدوا من غموض الحال، بينما لو رجعوا الى أحد كبار رجال الاستراتيجية في هذا القرن وهو بازل ليدل هارت لوجدوه يقول "قد ترى الحكومة ان لدى العدو التفوق وفي هذه الحالة عليها ان تتبع استراتيجية محدودة طالما يتعذر عليها القضاء على قوات العدو وتدميرها، وعلى الحكومة ان تناضل بين الانتظار حتى تتعادل موازين القوى وإما خوض حرب محدودة للاستيلاء على مساحة من الارض كوسيلة مساومة عند المفاوضات، واذا صممت الحكومة على اتباع هذه الاستراتيجية فعلى القائد العسكري الالتزام بها وإلا أساء الى السياسية العليا". وحتمت علاقات القوى داخل النظام العالمي الذي كان سائداً آنذاك أن تكون الحروب الاقليمية محدودة لأن الدول المركزية هي التي تتحكم في نقل السلاح والتكنولوجيا، فهي التي تمنح وتمنع. وعن طريق هذا التحكم أصبح تحقيق الأمن الكامل مستحيلاً وأصبح البديل الآخر هو الأمن المتبادل لأن السياسة هي فن الممكن. والحرب المحدودة حرب سياسية تماماً فهي لا تهدف الي التدمير الشامل بقدر ما تهدف الي تحقيق نتائج سياسية بايجاد صلة بين القوة المستخدمة والأغراض السياسية المستهدفة التي لا بد وأن تتصف بالاعتدال وتترجم في اتفاقات تعبر بدقة عن قوة الموقعين عليها وتجسد بأمانة حال القوات الفعلية في مسارح العمليات الفعلية وتحتاج الحرب المحدودة في ادارتها الى مهارة خاصة في القيادة السياسية لدفع الأمور دائماً اذا هددت بالتوقف. وكان الرئيس السادات بلا شك أكثر إدراكاً من كثير من المحيطين به من مدنيين أو عسكريين بطبيعة مثل هذه الحروب. فقبل ايقاف النيران من دون انتظار موافقة سورية في ظل خلل توازن القوى الموجود الذي جعله يدعو القوتين الكبريين بأكثر من وسيلة للتدخل، ثم قبل فك الاشتباك الأول، وعندما وجد أن تحريك الأمور يحتاج الى طاقة أكثر قبل فك الاشتباك الثاني، وهكذا الى ان وقع اتفاقية السلام العام 1979، بما فيها من ايجابيات وسلبيات، وبما ترتب عليها من نتائج للوصول الى حالة سلم أفضل لأن الانتصار الشامل في مثل هذه الحروب المحدودة أصبح مستحيلاً، ولا يعني الحصول على كل شيء أو لا شيء، ولكنه يعني جزءاً من المكاسب وجزءاً من الهزائم. هذا يعطي بعض الشيء ليستلم من الآخر بعض الشيء. ولذلك يجب استغلال الوقفات بين المعارك لإجراء مفاوضات حتى لا ينهار الموقف أو يصبح أكثر تعقيداً، وهذا يستدعي فتح القنوات للاتصال بين الاعداء والاصدقاء، كالقناة الخلفية التي أنشأناها عام 1967 بين المخابرات العامة المصرية والمخابرات المركزية الاميركية. وبمعنى آخر تدور إدارة الازمة عن طريق "كلام كلام - قتال قتال" فالقتال اعطى مردوده وبدأ الكلام عن طريق المساومة، وبقدر ما في جيبك من نقود يكون البيع والشراء. علماً بأن الحرب المحدودة لا تحل كل المشاكل القائمة ولكنها عبارة عن آلية تقود الى السلام لتحقيق الاغراض الناقصة. فهي اختيار وسط بين الالتحام إذا بقي الوضع ميئوساً منه، وبين الاستسلام الذي قد يؤدي اليه استقرار الامور على اوضاع سيئة. ولكن علينا ألا تكون الحرب محدودة اكثر من اللازم وهذا يستدعي تجنب الحذر الكامل الذي يتنافى مع القيادة الخلاقة التي تقتنص الفرصة لأنها لن تعود. وهذا ينقلنا الى تحديد الغرض من الحرب، وقد حدث على ذلك خلاف كبير إذ حددت القيادة السياسية في توجيهاتها التي صدرت قبل الحرب بأيام قليلة وصاغها بعض من ذوي الاختصاص - وكلاهما اجراء خاطئ - بأن الغرض هو تحطيم نظرية الأمن الاسرائيلي، وهو تعبير ينقصه الوضوح والدقة، كما ان التوجيه لم يذكر سورية واشتراكها على الجبهة الشمالية وكيف يتم التعاون معها وترك القائد السياسي - وهذا صحيح تماما - ترجمة الغرض الى قيادته العسكرية لتنفيذه بالامكانات الكبيرة المتوافرة وتحديد الغرض OBJECT والاهداف OBJECTVE على الارض وهنا حدث الخلاف الذي يلقي بظلاله على الامر كله. وأغلب الكبار ذكروا ان الغرض كان العبور على طول مواجهة القناة وانشاء رؤوس جسور بعمق 10 - 12 كيلومتراً والتمسك بالخط الدفاعي الذي تم بناؤه. والقلة اكدت ان الغرض كان الوصول الي خط المضايق الشهير على بعد 50 كليومتراً بعد وقفة تعبوية بعد العبور أو من دونها. وما ذكره الرئيس السادات في كتابه "البحث عن الذات" وتصريحاته تجعله ينضم الى المجموعة الاولى وهو أكد ذلك في برقيته الشهيرة الى البيت الابيض يوم 7 تشرين الاول اكتوبر "بأنه بعد العبور ليس في نيته توسيع المواجهة او تعميقها" لذلك حينما دخل هنري كيسنجر الى غرفة الخرائط في البيت الابيض ووجد المجتمعين يضربون اخماساً في اسداس عن الخطوة التالية للجيش المصري المنتصر اكد لهم ان المصريين سيقفون حيث هم الآن. والخلاف في القمة بين الكبار على مثل هذه الامور امر يثير الدهشة من جانب ويثير التساؤل من جانب آخر عن الكيفية التي تم بها التخطيط الذي وافق عليه الجميع على رغم اختلاف الغرض من الهجوم في اذهانهم؟ وهل استخدام القوات للعبور على امتداد المواجهة الى عمق 12 كليومتراً يتم بالطريقة نفسها للعبور على امتداد المواجهة وبعمق يصل الى 50 كيلومتر؟ والسبب في هذا التساؤل يرجع الى ان احداً من الكبار لم يذكر في مذكراته شيئاً عن تطوير الهجوم بعد العبور حتى ولو بتصورات عامة عن ذلك لأن تطوير الهجوم الذي تم بعد ذلك كان فجائياً لا يدخل في اطار التخطيط الموضوع مما كان موضع اعتراض ونفذ من الجميع ولكن لهذا قصة اخرى. وحينما اتفقت كل من سورية ومصر على قرار الحرب وعلى ساعة ويوم الهجوم، كان هذا في حد ذاته عملاً عظيماً في ظل الظروف السائدة ويعتبر البعض خطأً أن ذلك كان يعني الحرب على جبهتين متماسكتين. هذا صحيح من الناحية الشكلية ولكنه لا يعني ان الحرب اديرت تحت قيادة موحدة أو مشتركة بعد بدايتها، بل تصرفت كل جبهة على حده تبعاً لظروفها، بل ظهر ان الفرقاء كانوا يلعبون على بعضهم وليس مع بعضهم. وذكر الرئيس السادات في كتابه المذكور أن "السفير السوفياتي في القاهرة جاءه يوم بداية الحرب واخبره ان الرئيس الاسد استدعى سفيرهم في دمشق يوم 4 وأبلغه ان الحرب ستبدأ يوم 6 وطلب ان تقوم موسكو بالعمل على وقف النيران بعد 48 ساعة من بدءها". ولم يبلغ الرئيس الاسد الرئيس السادات بنياته. كما ان رئيس هيئة اركان الحرب المصري كتب في كتابه عن الحرب ان القيادة المصرية جهّزت خطتين احداهما للعبور والتوقف بعمق 10 - 12 كليو متر، والاخرى - ارضاء للرئيس الاسد ولكن من دون تنفيذ - وذلك بالعبور ثم الوصول الى خط المضايق كمرحلة اولى! كان من الواجب إنشاء قيادة موحدة لإدارة وتوجيه العمليات بتنسيق كامل بين الجبهتين عن طريق قيادة سورية واخرى مصرية، لأن مجرد تسمية القائد العام المصري قائداً للقيادة المشتركة من دون التفرغ الكامل لقيادة الجبهتين لا يحل المشكلة لذلك حينما ركزت اسرائيل هجومها على الجبهة الشمالية توقفت القوات المصرية في الجبهة الجنوبية في وقفتها التعبوية المشهورة اكثر من 7 ايام ما جعل القيادة الاسرائيلية تعمل لمواجهة عدوها في الشمال وكأنها تتحرك على جبهة واحدة وساعد ذلك العدو على إحداث اضرار بالغة بالسوريين. وحينما انتهى العدو من الجبهة الشمالية سحب قواته من هناك ليحشدها في الجنوب من دون تحرك السوريين فأحدثوا ثغرة الدفرسوار الخطيرة التي وصلوا بها الى الموقف الاستراتيجي الحاسم خلف الجبهة المصرية. بل تم ايقاف اطلاق النيران من دون تنسيق بين الجيشين، اذ قبلته مصر اولاً ثم قبلته سورية ثانياً. وهناك كلام كثير جدا يمكن ان يقال، نختار منه قضية مهمة، اذ قيل، على سبيل المثال، ان القيادات السياسية لم تستثمر الانتصارات العسكرية استثماراً جيداً خصوصاً اثناء تعاملها مع كيسنجر ولكن علينا عند تقويم هذا القول ان نحدد الموقف الاستراتيجي لمسارح العمليات عندما دخل كيسنجر المنطقة يوم 6/11. ففي الجبهة السورية تخطت القوات الاسرائيلية خطوط وقف النيران التي فرضت العام 1967، وأصبحت دمشق في مدى مدفعيتها، ولكن من جانب آخر كان هناك عشرات الاسرى في يد السوريين، وكان الموقف في الجبهة الجنوبية غريباً بحق، إذ كانت هناك 3 فرق مدرعة اسرائيلية غرب القناة قاطعة طريق القاهرة - الاسكندرية تتمتع بتفوق جوي كبير لكن في الوقت نفسه، كانت القوات المصرية لا زالت متمسكة بمواقعها في الشرق مع وجود الجيش الثالث تحت الحصار تحاول ان تحشد قواتها للقيام بهجوم مضاد ضد العدو في الغرب، ولكن بقوات تحتاج الى استعراض كبير بالافراد والمعدات وقوات جوية لا تحقق الغطاء الكافي لتحركاتها مع وجود عشرات الاسرى في يد القاهرة، وكانت التحركات الاميركية بدأت تقلق اسرائيل مثل محاولة رفضها حظر البترول ومحاولة استغلال الموقف لصالحها بعد تدهور العلاقات المصرية - السوفياتية وتجنب تجديد المواجهات بين اسرائيل والعرب. وكانت اللوحة الاستراتيجية في المنطقة اكثر غرابة من الموقف العسكري الغريب: الاتحاد السوفياتي مازال في المنطقة، قناة السويس مغلقة، باب المندب مقفول، حظر البترول قائم، الدول العربية متماسكة، واخيراً بداية تحول الرأي العام ضد اسرائيل ما جعل موشى دايان يكتب معلقاً "نحن في مصيدة سياسية وليس في مصيدة عسكرية". وفي يوم 22/10/1973 وفي ظل تلك الاوضاع المتشابكة قبلت مصر قرار مجلس الأمن 338 وارسل السادات برقية الى الاسد يخطره فيها بذلك "وقلبي ينزف دماً وانا اخبرك بهذا، ولسوف اواجه شعبنا وامتنا في الوقت المناسب لكي يحاسبني الشعب" وارسل له الاسد بدوره رسالة بأنه "لا يرى سبباً للتشاؤم ففي استطاعتنا متابعة النضال ضد قوات العدو سواء عبرت القناة أم ظلت تقاتل على الضفة الشرقية مع ادراكي الكامل بأننا نواجه الآن أصعب فترة في تاريخنا والله معك". وعلى رغم ذلك وافق على ايقاف النيران يوم 23/10/1973. وليس معنى ما ذكرناه ان حرب تشرين الاول اكتوبر لم تكن عملاً عظيماً بحق، فاتخاذ قرار الحرب في كل من سورية ومصر في ظل خلل كبير في توازن القوى وفي ظل ظروف عالمية غير مواتية، كان عملاً كبيراً، وتحقيق المفاجأة الاستراتيجية على هذا المستوى عمل مدهش ووضع الخطط وتنفيذها بواسطة حجم كبير من القوات شيء يثير الاعجاب. وعلى رغم ذلك وبعد 25 عاماً من تلك الحرب مازالت الجولان والضفة الغربية والقدس، في يد العدو، ومازالت سيناء مقيدة بقيود كثيرة تحد من سيادة مصر الكاملة عليها بسبب التشابك بين الحدود السياسية والآمنة. وكما سبق ان قلنا فإن نتيجة الحرب لا تقوّم باللون الابيض أو باللون الاسود ولكن باللون الرمادي بها جزء من الهزيمة وجزء من الانتصار. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.