يختارني الإيقاع يختارُني الإيقاعُ، يَشْرَقُ بي أنا رَجْعُ الكمان، ولستُ عازِفَهُ أنا في حضرة الذكرى صدى الأشياء تنطقُ بي فأنطقُ... كُلَّما أصغيتُ للحجرِ استمعتُ الى هديلِ يَمامةٍ بيضاءَ تشهَق بي: أخي! أنا أُخْتُكَ الصُّغْرى، فأَذرف باسمها دَمْعَ الكلامِ وكُلَّما أَبْصَرْتُ جذْعَ الزّنْزَلخْتِ على الطريق الى الغمامِ، سمعتُُ قلبِ الأُمِّ يخفقُ بي: أنا امرأة مُطلَّقةٌ، فألعن باسمها زيزَ الظلامِ وكُلَّما شاهدتُ مرآةً على قمرٍ رأيتُ الحبّ شيطاناً يُحَمْلِقُ بي: أنا ما زلْتُ موجوداً ولكن لن تعود كما تركتُك لن تعود، ولن أعودَ فيكملُ الإيقاعُ دَوْرَتَهُ ويشرَقُ بي... لي حكمة المحكوم بالإعدام ليَ حكمةُ المحكوم بالإعدامِ: لا أشياءَ أملكُها لتملكني، كتبتُ وصيَّتي بدمي: "ثِقُوا بالماء يا سُكّان أُغنيتي!" ونِمْتُ مُضرّجاً ومتوَّجاً بغدي... حلِمْتُ بأنّ قلب الأرض أكبرُ من خريطتها، وأوضحُ من مراياها ومِشْنَقتي. وهِمْتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني الى أعلى كأنني هُدْهُدٌ، والريحُ أجنحتي. وعند الفجر، أَيقظني نداءُ الحارس الليليِّ من حُلْمي ومن لغتي: ستحيا ميتةً أخرى، فعدِّلْ في وصيّتك الأخيرة، قد تأجَّل موعدُ الإعدام ثانيةً سألت: الى متى؟ قال: أنتظر لتموت أكثر قلتُ: لا أشياء أملكها لتملكني كتبتُ وصيّتي بدمي: "ثِقُوا بالماء يا سُكّان أغنيتي!" وأنا، وإن كنت الأخير وأنا، وإن كُنْتُ الأخيرَ، وجدْتُ ما يكفي من الكلماتِ... كلُّ قصيدةٍ رسمٌ سأرسم للسنونو الآن خارطةَ الربيعِ وللمُشاة على الرصيف الزيزفون وللنساء اللازوردْ... وأنا، سيحمِلُني الطريقُ وسوف أحملُهُ على كتفي الى أن يستعيدَ الشيءُ صورتَهُ، كما هي، واسمَه الأصليّ في ما بعد/ كلُّ قصيدة أُمٌّ تفتش للسحابة عن أخيها قرب بئر الماء: "يا ولدي! سأعطيك البديلَ فإنني حُبْلى..."/ وكُلُّ قصيدة حُلمٌ: "حَلِمْتُ بأنّ لي حلماً" سيحملني وأحملُهُ الى أن أكتب السطر الأخيرَ على رخام القبرِ: "نِمْتُ... لكي أطير" ... وسوف أحمل للمسيح حذاءَهُ الشتويَّ كي يمشي، ككُلِّ الناس، من أعلى الجبال... الى البحيرة في بيت أمي في بيت أُمِّي صورتي ترنو إليّ ولا تكفُّ عن السؤالِ: أأنت، يا ضيفي، أنا؟ هل كنتَ في العشرين من عُمري، بلا نظَّارةٍ طبيةٍ، وبلا حقائب؟ كان ثُقبٌ في جدار السور يكفي كي تعلِّمك النجومُ هواية التحديق في الأبديِّ... ]ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي[ ويا ضيفي... أأنتَ أنا كما كنا؟ فمَن منا تنصَّل من ملامحِهِ؟ أتذكُرُ حافرَ الفَرَس الحرونِ على جبينكَ أم مسحت الجُرحَ بالمكياج كي تبدو وسيمَ الشكل في الكاميرا؟ أأنت أنا؟ أتذكُرُ قلبَكَ المثقوبَ بالناي القديم وريشة العنقاء؟ أم غيّرتَ قلبك عندما غيّرتَ دَربَكَ؟ قلت: يا هذا، أنا هو أنت لكني قفزتُ عن الجدار لكي أرى ماذا سيحدث لو رآني الغيبُ أقطِفُ من حدائقِهِ المُعلَّقة البنفسجَ باحترامً... ربّما ألقى السلام، وقال لي: عُدْ سالماً... وقفزت عن هذا الجدار لكي أرى ما لا يُرى وأقيسَ عُمْقَ الهاويةْ لا ينظرون وراءهم لا ينظرون وراءهم ليودِّعوا منفى، فإنَّ أمامهم منفى، لقد ألِفوا الطريق الدائريَّ، فلا أمام ولا وراء، ولا شمال ولا جنوب. "يهاجرون" من السياج الى الحديقة. يتركون وصيةً في كل مترٍ من فناء البيت: "لا تتذكروا من بعدنا إلا الحياة"... "يسافرون" من الصباح السندسي الى غبارٍ في الظهيرة، حاملين نُعوشَهُم ملأى بأشياء الغياب: بطاقة شخصية، ورسالةٍ لحبيبةٍ مجهولةِ العنوانِ: "لا تتذكري من بعدنا إلا الحياة" و"يرحلون" من البيوت الى الشوارع، راسمين إشارة النصر الجريحة، قائلين لمن يراهُمْ: "لم نَزَلْ نحيا، فلا تتذكّرونا"! يخرجون من الحكاية للتنفُّس والتشمُّس. يحلُمون بفكرةِ الطيرانِ أعلى... ثم أعلى. يصعدون ويهبطون. ويذهبون ويرجعون. ويقفزون من السيراميك القديم الى النجوم. ويرجعون الى الحكاية... لا نهاية للبدايةِ. يهربون من النعاس الى ملاك النوم، أبيضَ، أحمرَ العينين من أثر التأمُّل في الدم المسفوك: "لا تتذكروا من بعدنا إلا الحياة"... هو هادئٌ، وأنا كذلك هوَ هادئٌ، وأنا كذلك يحتسي شاياً بليمونٍ، وأشربُ قهوةً، هذا هو الشيءُ المغايرُ بيننا. هوَ يرتدي، مثلي، قميصاً واسعاً ومُخططاً وأنا أطالعُ، مثلَهُ، صُحُفَ المساءْ. هو لا يراني حين أنظرُ خلسةً، أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً، هو هادئٌ، وأنا كذلك. يسألُ الجرسون شيئاً، أسألُ الجرسونَ شيئاً... قطةٌ سوداءُ تعبُرُ بيننا، فأجسّ فروةَ ليلها ويجسُّ فروةَ ليلها... أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ وأكثرُ زرقةً. هو لا يقول لي: السماءُ اليوم صافيةٌ. هو المرئيُّ والرائي أنا المرئيُّ والرائي. أحرِّكُ رِجْليَ اليُسرى يحرك رجلَهُ اليُمنى. أدندنُ لحن أغنيةٍ، يدندن لحن أغنية مشابهةٍ. أفكِّرُ: هل هو المرآة أبصر فيه نفسي؟ ثم أنظر نحو عينيه، ولكن لا أراهُ... فأتركُ المقهى على عجلٍ. أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ، أو رُبما هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ هو خائفٌ، وأنا كذلك! الظلّ الظلُّ، لا ذَكرٌ ولا أنثى رماديٌّ، ولو أشعلْتُ فيه النارَ... يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ كنت أمشي. كان يمشي كنت أجلسُ. كان يجلسُ كنت أركضُ. كان يركضُ قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ... استدَرْتُ الى الطريق الجانبيةِ فاستدار الى الطريق الجانبية. قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي فرأيتُهُ يمشي أمامي في غروب مدينةٍ أخرى... فقلت: أعود مُتّكئاً على عكازتين فعاد متكئاً على عكازتين فقلت: أحمله على كتفيَّ، فاستعصى... فقلتُ: إذنْ، سأتبعُهُ لأخدعهُ سأتبعُ ببغاء الشكل سخريةً أقلِّد ما يُقلِّدني لكي يقع الشبيهُ على الشبيه فلا أراهُ، ولا يراني. * هذه القصائد مختارة من ديوان محمود درويش الجديد "لا تعتذر عما فعلت" الذي يصدر اليوم عن دار رياض الريس في مناسبة معرض بيروت للكتاب.