تجمد فور أن رآني أستوقفه ماداً إليه يدي. أخيراً، قال «ألا تزال، تبتسم، يا يوسف؟». عانقني خطفاً. ابتعد. قال «زمن». وهوى بنظرته إلى حافة الرصيف. بدأت أتأمّله. وجدتني لدهشتي لا أحمل شيئاً في داخلي تجاه ما بدر منه في تلك الأيام. رفع رأسه. كانت تمر فتاة. تابعها. عاد يتأمّلني. قلت «كانت رحلتي شاقة». قال «متى حضرت؟». قلت «قبل أيام». كان مضى على وصولي أشهر. أخذنا نتمشّى، ببطء، ولا هدف، بينما لا أنفك أختلس النظر إليه، من لحظة إلى أخرى، في خضم الضجيج المتصاعد لميدان الفلكي. لمحته في الأثناء يبتسم بمرارة أكثر من مرة. فجأة، قال «ظروفي صعبة». أعقب ضاحكاً «بدأتُ أرتاد موائد الرحمن في رمضان، تصور؟». قلت «القاهرة مدينة كبيرة». قال «نعم». ثمة شيء آخر حزين في صوته. كنا نقترب في توافق لا إرادي من مقهى الحريّة. جلسنا هناك على مائدة إلى الداخل. قلت «القاهرة زادت زحاماً». لم يعلق. طلبت من الجرسون زجاجتي ستيلا. شاهدت وجهاً قديماً يجلس على الجانب الآخر من المقهى الكبير. قال «إنه عاطف». وأردف «دعه». قلت «يبدو حزيناً». تجاهل ملاحظتي. عطس. قال «الحمدلله». تابعت احتساء الزجاجة. ضغط بأصابع يديه على حافة المنضدة. بدتْ أظافره مقلّمة. سألني بحياء، بدا غريباً نوعا ماً، شيئاً من المال. قال «ربما مئة». أخرجت المحفظة. أكاد ألمس فضوله. خطر لي أنني لا أكاد ألاحق اندفاعاته منذ أن التقيته. أعطيته ألفاً. لاحتْ على عينيه غلالة دمع. أشحتُ. غمغم. عدت بنظرتي إليه. قال «لعلك تذكر تلك الأيام؟». لم ينتظر إجابتي. غرق بالضحك فجأة. وجدتني أضحك معه. أخذ يتشمم الورقات العشر. وضعها داخل محفظة مهترئة. بصوت رُدت إليه أسباب الحياة قليلاً، سألني «كيف سارت بك الحياة في كندا». أردت قول شيء. قاطعني «لم يعد من الرفاق هنا الكثير». أقبل الجرسون وليم. فكرت عند أول الجلسة أن وليم غدا قليل الابتسام. وإن ظلّ محتفظاً إلى حد بعيد بهيئته القديمة. وضع وليم على المنضدة زجاجتين خضراوين أخريين. انصرف صوب زبون كان يجلس وحيداً على مائدة قريبة. لاحظت أن وليم لم يتعرّف عليَّ بعد. قال كمن أدرك ما كنت أفكر فيه «هذا وليم، يا يوسف». قلت «وجوه المقهى نفسها». أومأ برأسه. وهو يمسك ببقايا الزجاجة الأولى. نظرت إلى الكاشير الغارق قبالة مدخل المقهى داخل ما بدا إطراقاً أليفاً. وقد بدا شعره القليل على أطراف رأسه أبيض. قال بعد دقائق أخرى من الصمت «الحياة غريبة». وشرع يعبّ الشراب. كنت أفتقد إلى ضجيج المقهى. كانت الأرضية الأسمنتية ذات الطلاء القاتم مهملة. المراوح لا تزال تئن في الأعلى. حلّ شاب نحيل في مكان ماسح الأحذية العجوز عند جانب المدخل. جاء وليم أكثر من مرة وذهب. عاد هو من الحمّام للمرة الثالثة. ذهبت إلى هناك مرة. كانت الزجاجات تتراكم. قال ناظراً إلى المائدة «هل لديكم مثل هذه الزجاجات في كندا؟». ابتسمت. ولم أعلم ما وراء سؤاله على وجه الدقة. ضحك بصوت عال. وجدتني أقول «الزجاج هناك قبائل وأفخاذ وبطون». قال بشيء من الحسرة «لا بد أنها بلاد جميلة». تلوت شيئاً من شعر درويش «طعم العسل في بلاد الآخرين مر». قال «كيف حال الرفاق هناك؟». قلت «نادراً ما أسمع منهم». قال «لم نعد نسمع منهم هنا الكثير». وقال «لا بد أنهم غارقون في الملذات هناك». قلت «للناس أعذار». قال إنه غير مقتنع أن ما عايشه معهم «هنا في القاهرة» أمر لا يستحق عناء السؤال عنه كل هذا الوقت. قال «كنّا رفاقاً». أضاف «تقريباً». ثم نظر إليَّ بعينين بدتا مفرّغتين من كل شيء. سألته إن كان يرغب في العودة إلى الوطن. هزّ رأسه بالنفيّ. لم أشأ أن أسأله «لماذا». قال بعد دقائق أخرى من الصمت «لا يوجد ما يستحق الذهاب. أمي وماتت». بدأت الظلمة تهبط تدريجياً على ميدان الفلكيّ في الخارج. أقبل الجرسون وليم. قال يخاطبه بأريحيّة أدهشتني «لعلك تذكر هذا الأستاذ، يا وليم». وقال يوضح لوليم الغارق في فنجان التذكر «هذا يوسف، يا وليم». أخيراً، بدا كما لو أن وليم لم يسمعه حين قال إنه «للأسف» على وشك الانتهاء من الوردية ويريد أن «يحاسب». أخرجت محفظتي. لاحت صورة زوجتي والولدين. ترددت أن أريهم له. شكرني وليم قائلاً بنبرة بدت حميمة «لا تغب عن المقهى هكذا، يا أستاذ يوسف». جاء جرسون آخر. لم أره من قبل. سألته إن كان يرغب في المزيد. قال «نعم». سألت الجرسون، قائلاً «زجاجة واحدة فقط، من فضلك». قال فور انصراف الجرسون الجديد إنه توقف عن الشراب لكنه يعود «اليوم». أقبل الجرسون مراراً وذهب. كنت أقول للجرسون في كل مرة «زجاجة واحدة فقط». بدأ نطقه يثقل. قال «أيام، يا رفيق يوسف». وذهب إلى الحمّام. لم أعد أحسب عدد مرات ذهابه إلى هناك. نظرت إلى الكرسي الذي يشغله بحياد. عاد من الحمّام بشيء من دندنة تلك الأيام. كنت لا أزال أتحدث إلى ماسح الأحذية. قال مقاطعاً إنه يريد «التلميع». نظرت إلى حذائه. كما لو أنه قطع ألف ميل على أرض غبراء. غرق كلانا مجدداً في الصمت. عاد الماسح بالحذاءين. قلت «لا بد لي أن أذهب». انحنى يضع قدميه داخل الحذاء. حاسبت الجرسون. نهضنا مغادرين. سألته عن عنوانه بينما يترنح خارج المقهى. قال إنه يفضّل أخذ أجرة التاكسي والسير على قدميه. لم أعلق. أوقفت عربة أجرة. نقدت السائق مقدماً أجره. قال يخاطب السائق «انتظر». أخرج رأسه من النافذة، والعربة بدأت بالفعل في التحرك، وقال «أنا آسف».