انا رجع الكمان ولست عازفه ..هكذا يبادرك محمود درويش في مطلع ديوانه " لا تعتذر عما فعلت " . ويضيف درويش موضحا : " انا في حضرة الذكرى صدى الأشياء تنطق بي فأنطق " وهذا الكلام الجميل العميق اذا اخذناه على علاته لجانبنا الصواب .فهذا ان كان صحيحاً وبليغاً بمعنى ان الشاعر وشعره صنيعة تجربته الانسانية، الا اننا يجب الا نفترض على ضوئه ان درويش في هذا الديوان يطلق العنان لجواد الشعر ليذهب به كل مذهب، ويرتع في كل اتجاه، او ان هذا التجلي الجديد لدرويش هو شعر السجية والفطرة دون احكام وفارس ولجام فعلى العكس تماماً، يطالعنا درويش في هذا شاعراً اشد تقشفاً واقتصاداً واختزالاً وتكثيفاً، وتلقائية محكومة ومنضبطة دون ان تفقد عفويتها، او من تبديه الصنعة حين تبلغ القمة مل عفوية ما هي بالعفوية . لقد عاد درويش في هذا الديوان " تكوين تلقائته " على حد قوله في قصيدة قديمة ليخرج علينا في هذا العمل ببساطة اكبر، وغنائية وتدفقاً اقل لصالح تكثيف وتلخيص اكثر .وهو في الديوان لا يغني بل يتأمل في هذا العمل ببساطة اكبر، وغنائية وتدفقا اقل لصالح تكثيف وتلخيص اكثر . وهو في الديوان لا يغني بل يتأمل، يتأمل حياته الطويلة العريضة المليئة بالنضال والانكسار والاصرار والغناء، ممزوجة بنضالات وانكسارات وطنه وامته، واخوانه الشعراء كالسياب وامل دنقل، والمدن العربية في روحه بيروت ودمشق الشام والقاهرة ويضغط كل هذا ويكثفه في تعليقات موجزة على الحياة " حياته والوجود الانساني ككل " نزع الى تلخيصها باكبر قدر من البساطة والعمق : في بيت امي صورتي ترنو اليّ ولا تكف عن السؤال : اانت، يا ضيفي ، أنا؟ " في بيت امي - ص23 " ٭٭٭٭ واصدقاؤك في الطفولة والفضوليون " هل هذا هو " اختلف الشهود لعله وكأنه ... " لا تعتذر عما فعلت - ص " 26 ٭٭٭ : لاجئاًاقول لست مواطناً او شيئاً واحداًواريد واحداً، لا غير هادئاًشيئاً ثوباً بسيطاً " في مثل هذا اليوم - ص " 28 - 27 ٭٭٭ كل الحب موتاً مزمناًليس ليست الارض اغتراباً فلربما جاءت مناسبة فتنسى لسعة العسل القديم، كأن تحب وأنت لا تدري، فتاة لا تحبك أو تحبك، دون ان تدري لماذا لا تحبك او تحبك .. " انزل هنا والآن - ص " 29 ٭٭٭ وهي السبية واحتراقاًلبلادنا، حرية الموت اشتياقاً وبلادنا في ليلها الدموي جوهرة تشع على البعيد على البعيد تضيء خارجها وأما نحن، داخلها، فنزداد، اختناقا ٭٭٭ وقد اصطفيت من الديوان قصيدتين تتجلى فيهما اصفى تجل حساسية محمود درويش التي تظهر في هذا الديوان بدرجة متفاوتة من التبلور والصفاء، والقصيدتان هما : السروة انكسرت، والظل يغلب عليهما السرد لا الانشاد واللغة التقريرية التي تبدو بريئة من المجاز، بينما كل قصيدة منهما تلخيص مجازي وتكثيف رمزي لحياة طويلة عريضة، او لوطن حزين التاريخ، وقد استفاد درويش في هاتين القصيدتين اكثر من غيرهما بتطورات قصيدة النثر دون تخل عن الايقاع العروضي، او سقوط في النثرية والثرثرة، وساعده على ذلك اصراره الواضح في الغالبية العظمى من قصائد الديوان الا يتجاوز طول القصيدة الواحدة 25 سطراً ولا يقل عن 20 سطراً متفادياً القيد الصارم الذي حكم به على نفسه في ديوانه " ورد افل " بان يكون طول جميع قصائده عشرة اسطر فجاء هذه المرة ب " وسط ذهبي " لا يقتل التدفق ولكنه يلجمه لمصلحة التكثيف والتقطير، بما يخدم نزعته الجديدة لتلخيص الحياة، والقصيدتان اللتان اخترتهما، تعكسان هذه النزعة وتشتركان في كونهما رؤى شعرية جديدة وبكر تستند الى صورة مركزية معالجة ببساطة بحيث تبدو واقعة من يوميات الحياة، دون ان يفوتنا ان كنا من ذوي الالباب - مغزاها الرمزي : السروة انكسرت كمئذنة، ونامت في الطريق على تقشف ظلها، خضراء داكنة كما هي .لم تصب احداً بسوء مرت العربات مسرعة على اغصانها صب الغبار على الزجاج .. وقالت امرأة لجارتها : ترى شاهدت عاصفة؟ فقالت : لا، ولا جرافة والسروة انكسرت وفي قصيدة " الظل " يبلغ محمود درويش ذروة لغته الجديدة ونزعته الجديدة لتقطير تاريخ باسره في كلمات قليلة ذات صبغة تقريرية خادعة، لانها حبلى بمحتوى رمزي عميق وبريء من شفافية الرمز الفجة : الظل لا ذكر ولا انثى رمادي، ولو اشعلت فيه النار يتبعني، ويكبر ثم يصغر كنت امشي ..كان يمشي كنت اجلس ..كان يجلس كنت اركض ..كان يركض قلت : اخدعه، واخلع معطفي الكحلي قلدني، والقى عنه معطفه الرمادي استدرت الى الطريق الجانبية فاستدار الى الطريق الجانبية قلت : اخدعه واخرج من غروب مدينتي فرأيته يمشي امامي في غروب مدينة اخرى فقلت : اعود متكئاً على عكازتين فعاد متكئاً على عكازتين " الظل - ص " 84 - 83 الخلاصة ان درويش في هذا الديوان حاول ورداً اقل فجاء بورد اكثر ..وهو لا يعتذر عما فعل، وهل تعتذر الورود عن حسنها؟ رحم الله محمود درويش الذي خسرته الامة الاسلامية العربية فقد كان محارباً عن دولة فلسطين والذي كان يتمنى ان يصلي في المسجد الاقصى ..وطرد العدو الصهيوني من بلاده وكان عملاقاً في كل المحافل الدولية في جميع الاقطار العربية والاجنبية .