في المطعم، غداة اعلان نتائج مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يسأل الصديق شريف الشوباشي رئيس المهرجان أمام رهط من زملائه الصحافيين العرب، في كل هدوء ودهشة: "في الحقيقة يهمني أن أعرف لماذا الصحافيون العرب، من دون خلق الله جميعاً، هم الأكثر انتقاداً للمهرجان ولنتائج مسابقته؟ لماذا يقسو علينا هؤلاء الزملاء دائماً بأقلامهم، بينما يمطرنا الصحافيون الأجانب بالشكر والمديح؟"، وإذ ينتظر الشوباشي من محدثيه جواباً، يقول: "أطرح هذا السؤال وأنا نفسي، كما يعلمون، صحافي عربي وعادة ما أقسو في أحكامي". وبسرعة يأتي الجواب من هؤلاء المحدثين، وبالهدوء نفسه: "صديقنا العزيز، ان الواحد منا لا يقسو ولا ينتقد إلا لحرصه على المهرجان، ولحرصه على السينما العربية. هذه الأمور تهمنا ونحن نعتبر انفسنا معنيين بها. أما زميلنا الأجنبي، فإنه يدعى الى القاهرة فيقصدها وهو غالباً يعتبر الأمور كلها "كيتش في كيتش". انه هنا ليس على شاطئ النيل ويتفرج على الأهرامات وخان الخليلي محاطاً بكرم غير متوقع. فما الذي يهمه بعد ذلك من أمر السينما العربية أو غيرها؟ هل تراه سيتفوه بغير آيات الشكر والعرفان؟". وما يقال عن الصحافيين الأجانب، يمكن أن يقال هذا العام حتى عن لجنة التحكيم. وبدءاً عن رئيسها وهو الممثل الفرنسي جان - كلود بريالي. فما الذي يمكن لهذا الممثل المخضرم المتأنق - على طريقته - والمعجب بكل ما يراه بما في ذلك الغبار والتلوث وثياب الفقراء الممزقة، ما الذي يمكن أن يراه من فارق بين فيلمين سوريين جيدين ومجتهدين مع ميل الى العمق في طرح القضايا، وبين فيلم فلسطيني سطحي لا يعرف أحد أي قوة قادرة عرضته في المهرجان القاهري، ثم فرضته على المسابقة ثم أربحته جائزتين مهمتين؟ الفيلم هو "موسم الزيتون" وفاز بجائزة "أفضل فيلم عربي" كما بجائزة "الأسد الفضي" من دون الأفلام العربية الأخرى. ومن الواضح ان فوزه وعرضه إنما كانا ضمن الرغبة في استدراج التصفيق لفلسطين، وليس للفيلم. وكيف كان يمكن لبريالي ورفاقه في لجنة التحكيم أن يفهموا أن هذا الفيلم، في عرضه في مهرجان القاهرة / المسابقة الرسمية خالف كل القواعد والنظم المعمول بها؟ فإذا كانت هذه تؤكد أن الفيلم المشارك يجب أن يكون من انتاج ما بعد "تموز/ يوليو 2002" ولم يسبق عرضه أو مشاركته في مسابقة أي مهرجان آخر، من أخفى يا ترى عن إدارة المهرجان ان الفيلم نفسه سبق عرضه في مهرجان الفيلم العربي في باريس حزيران/ يونيو - 2002 وفي المسابقة الرسمية هناك؟ ناهيك أنه أثار من السخرية يومها ما أثار وأجمع النقاد والمتفرجون على أنه يعيد السينما الفلسطينية عشرات السنين الى الوراء متغافلاً عن انجازات رائعة حققتها السينما الفلسطينية على أيدي ميشال خليفي وإيليا سليمان ومي مصري ورشيد مشهراوي وهاني أبي أسعد وليانة بدر وغيرهم؟ لقد كان عرض الفيلم فضيحة حقيقية تنم إما عن جهل وإما عن سوء نية. أما فوزه فكان فضيحة أكبر لا سيما انه فُضِّل على أفلام متقدمة تقنياً وسينمائياً مثل المصري "حب البنات"، وأخرى متقدمة سينمائياً وتعبيرياً وفكرياً مثل السوريين "رؤى حالمة" لواحة الراهب، و"ما يطلبه المستمعون" لعبداللطيف عبدالحميد. وسؤالنا هو: إذا كان أعضاء لجنة التحكيم الأجانب لا يبالون بالسينما العربية ولا يهمهم تقدمها أو عدم تقدمها... ماذا من شأن الأعضاء العرب؟ هل أمام الرغبة في أي تصفيق ديماغوجي لفلسطين ينهي به المهرجان أعماله، تمحى كل الاعتبارات الأخرى يا ترى؟ طبعاً لن نصل هنا الى حد الموافقة مع زميل سوري قال تعليقاً على التجاهل التام للفيلمين السوريين في "جبنة" النتائج، بين المزاح والجاد: "يبدو أن قانون محاسبة سورية بدأ تطبيقه في مهرجان القاهرة"، ولن نتفق مع أولئك الذين قالوا، مثلاً ان "حب البنات" "عوقب" جزئياً، لمجرد أن عضواً في لجنة التحكيم هو محمد سلماوي، خالف بدوره الأعراف، معلناً قبل يوم الاختتام بأيام أنه، هو، يفضل "حب البنات"، لن نصل الى هذه الحدود، لكننا فقط نبدي دهشتنا لكل تلك النيات الطيبة التي لا شك وقفت وراء الفوز المزدوج لفيلم فلسطيني ساذج لا يريد في نهاية الأمر ان يقول شيئاً، لكنه رُبّح بقدرة قادر. وهنا نتذكر اننا في الماضي، قبل ولادة السينما الفلسطينية الحقيقية، كنا نتندر قائلين ان الوفد الفلسطيني في أي مهرجان سينمائي عربي أو تقدمي، هو الوحيد الذي يقصد المهرجان غير قلق، لأنه يعرف ان فلسطين سوف تنال، مهما كان الأمر، جائزة ما. ويبدو الآن ان هذا الكلام ينطبق على الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة... بينما يبدو أن الفاعلين في هذا المهرجان وفي منح الجوائز لأفلام مسابقته، لم يتنبهوا الى أن السينما الفلسطينية بلغت سن الرشد منذ زمن بعيد ولم تعد في حاجة الى هذا الاحسان الوطني المفتعل. وفي عودة منا هنا الى الزميل الشوباشي، الذي لا بد من أن نقول ان احكاماً خاطئة من هنا، ومخادعة من بعض مختاري الأفلام مرت من دون علمه، من هناك، وبعض سوء التنظيم لا سيما في مجال التعاطي مع الصحافيين العرب ممن عُيِّنوا لمعاونة هؤلاء، فإذا ببعضهم لا يعرف أي صحافي عربي ولا أي صحيفة عربية، إن كل هذا لن يقلل من شأن الجهود التي بذلها لانجاح دورة كان يمكن أن تنجح أكثر بكثير، لو كانت فيها لجنة تحكيم أكثر جدية واهتماماً بالسينما العربية، يترأسها سينمائي حقيقي، لا ممثل فرنسي من درجة ثانية بريالي، وكان يمكن ان تنجح أكثر لو أنها لم تستبعد ضمنياً أو علنياً، بعض جديد السينما الأميركية معتقدة ان في إمكان كثرة من الأفلام الفرنسية ان تحمل مهرجاناً شعبياً كاملاً على كاهلها، غير دارية ان السينما الفرنسية وحدها لا يمكنها من دون السينما الأميركية، أن تُنجح حتى مهرجاناً في بلدة فرنسية. في عودة الى الشوباشي إذاً، نقول، ان كل هذه الأمور هل تراها حقاً تهم الصحافي الفرنسي أمام منظر النيل الرائع وسهرات الطعام الوافر ومباهج خان الخليلي ومطاعم السفن العائمة ورقص البطن والحفاوة المصرية الاسطورية في هذه المناسبة؟ الصحافيون العرب يحضرون مهرجان القاهرة منذ سنوات عدة. وهم منذ سنوات عدة يصرّون على أن يعبروا عن انتقادهم في صدق ومودة. وحتى لو كان ما يفعلونه يغيظ، فإننا نعتقد انه أسهم الى حد كبير في تقويم العديد من أخطاء الماضي.. وهو أمر لم يكف عن ترداده الراحل سعد الدين وهبة يوم كان رئيساً للمهرجان، ثم تبناه الفنان حسين فهمي حينما خلف وهبة، وساد منذ البداية صراع حاد بينه وبين الصحافيين العرب، لكنه سرعان ما أدرك ان المسألة ليست شخصية ولا علاقة لها بسوء النية فبدأ يستفيد. واليوم، إذ يترأس المهرجان صحافي معروف يريد أن ينجح حقاً في مهمته، ويريد أن يكون حقاً للقاهرة مهرجان كبير ولائق، يتواصل عاماً بعد عام، يدهشنا أن هذا الصحافي الكبير والصديق، يطرح ذلك السؤال، من دون أن يسأل في الوقت نفسه، عمن يحاول حقاً تخريب المهرجان، أحياناً بافتعال سوء تنظيم فيه، وأحياناً بمخالفة أبسط القواعد والأعراف المعمول بها، من دون تراجع أو نقد ذاتي، وأخيراً بالاعتماد على ردود فعل ممالئة يبديها ضيوف أجانب، من المؤكد انهم غير معنيين بكل ما يحصل، للقول اننا "نجحنا وحققنا" دورة ممتازة.