سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مدينة الصدر قدمت نصف مليون قتيل في حروب صدام ... ونصف مليون متطوع ل"جيش المهدي". "دولة مقتدى الصدر" تريد قائداً لا عالماً دينياً وتدير شؤونها بفتاوى دينية وأعراف عشائرية
"نريد قائداً لا عالماً... نريد انساناً يعرف كيف يدافع عن حقوقه ويحفظ كرامته ويكرس حقه في الحياة ويقف على قدم المساواة مع غيره". هذا ما تسمعه منذ اللحظة الاولى لوصولك الى مدينة الصدر، مدينة المليون نسمة، ذات الغالبية الشيعية المطلقة، والتي تعيش هذه الايام عملية مخاض صعبة، وتتفاعل داخلها الاحداث فتبدو فيها الامور كجبل جليد ثلثاه تحت الماء وثلث بارز ظاهر لا يوحي بما تنطوي عليه ذاته من اسرار وأوضاع. وهي تعي تماماً ما واجهها من مستجدات وتطورات، وفي الوقت نفسه تفهم طبيعة اللعبة تماماً، وتبحث عن دور يضعها على قدم المساواة مع غيرها. كبرت المدينة وتغير اسمها من "ثورة" الى "صدام" الى "صدر"، وكبر معها الشعور بالظلم والاحساس بالاضطهاد والشعور بالتمرد. يقول الشيخ عبد الحسين نور المياحي، وهو رجل دين، "تولد الاحساس لدينا بالغبن والظلم، نتيجة ادراكنا حقيقة ان هناك من ينظر الينا نظرة غطرسة وكبرياء. نظرة سادة الى عبيد. هم النبلاء ونحن الخدم، ولكن لماذا هذه النظرة؟". ويجيب المدرس عبد السادة كامل: "لأننا فقراء ولأننا بسطاء عفويون ودودون، يلصقون كل شيء سيئ بنا، في حين الواقع يختلف، والحقيقة شيء آخر تماماً". لكن المدينة حظيت بسمعة سيئة اذ أُلصقت ببعض القادمين منها تهم سرقة دوائر الدولة وممتلكاتها والسطو عليها بعد سقوط نظام صدام حسين. ويرد الشيخ عبد الأمير مزهر الكناني، الأمين العام لمدينة الصدر قائلاً ل"الحياة" ان "ما يقال كثير. لكن الذي يمثل الحقيقة وينطبق على الواقع قليل، ولا يصدر إلا من ذوي ضمائر حية. لكم ان تتجولوا في مدينة الصدر، ان تعيشوا فيها. فإذا حصل وان اكتشفتم شيئاً مما قلتموه وتساءلتم عنه، سنغير اسمها من الصدر الى شيء آخر. اذ ستكون في مثل هذه الحال غير جديرة بحمل اسم الصدر". مدينة الصدر مترامية الاطراف، تتوسد كتف قناة الجيش، الترعة التي تأخذ ماءها من دجلة شمالاً وتصب في نهر ديالى جنوباً. الترعة حفرها الزعيم عبدالكريم قاسم 1958-1963 الذي بنى مدينة لاسكان سكان الصرائف خلف السدة والذين كانوا يعانون الامرّين جراء ظروف سكن بائسة وسيئة. والواقع انه لم يدر في خلد قاسم يومها، ما سيؤول اليه امر هذه المدينة التي بدأت باسم "الثورة" ثم سرعان ما تحولت الى مركز ثقل شعبي، يتعاطف كلياً مع عبدالكريم قاسم، الى ان اضحت واحداً من معاقله الحقيقية على رغم كل محاولات الشيوعيين الذين وجدوا ان "القاسمية" تزاحمهم على التفرد بمنطقة يفترض ان الولاء فيها محسوم لهم، باعتبارهم فقراء، لا يملكون غير جهدهم الذي يبيعونه بأرخص الاثمان. لم تكن "الثورة" سهلة بحيث توالي تماماً اياً من الذين يتصارعون من اجل الاستحواذ عليها والانفراد بولائها، قبل ان تجد فيه ما يعينها على انهاء ما يقض مضجعها، لذلك كان حبها لقاسم مرتبطاً بحقيقة انه كان قريباً من سكانها يتحسس مشاعرهم ويعيش مشاكلهم وبعض طباعهم. وعلى رغم سقوطه، ظلوا اوفياء له، ولم يعطوا غيره ولاءهم، بحسب ما يقول السيد مكي عبدالله الياسري، وهو بائع في المدينة. ويتابع ان المدينة لم تعط ولاءها الحقيقي إلا للصدر الاول، السيد محمد باقر الصدر، الذي اعدم من قبل نظام صدام حسين، ثم الصدر الثاني، محمد صادق الصدر الذي اغتاله صدام حسين ايضاً، ثم الصدر الثالث، السيد مقتدى. وفي نظره ان لهذا الولاء اسباباً ودوافع كثيرة، يلخصها الشيخ عبد الأمير الكناني بأن المدينة "تنورت بفكر الصدريين الذين انقذوا سكانها من الظلمات عندما ايقظوا في دواخلهم مشاعر العزة والكرامة وادخلوا الايمان بالله سبحانه وتعالى، وأوجدوا الصلة الحقيقية للايمان بالله واتباع سيرة اهل البيت". ومنذ اللحظة الاولى لدخول مدينة الصدر، يشعر المرء بنوع من التعاطف مع اناس ترتسم على وجوههم الطيبة والبراءة، يتحركون في كل الاتجاهات بحثاً عن لقمة العيش. ويضعون دائماً وأبداً، "عرق الجبين" الوسيلة الأفضل للحصول على لقمة العيش الشريفة، "لذلك هم يعملون في كل شيء ويقبلون على كل شيء إلا الحرام". بحسب السيد محمد حسين الميالي الذي يضيف: "قالوا عنا كل شيء. اتهمونا بسرقة دوائر الدولة وسلبها ونهبها، واتهمونا بسرقة السيارات، ويلصقون بنا تهماً ما أنزل الله بها من سلطان. كل شيء سيئ يحاولون الصاقه بنا ونحن براء منه". مدينة مستطيلة، تتكون من 75 قطاعاً يتألف كل منها من 900 دار، أي نحو 60 ألف دار، صممت لتكون مساحة الواحدة منها 340 متراً، بيد أنها بنيت في نهاية المطاف على مساحة 140 متراً، لتتحول هذه الدور مع مرور الوقت الى محاجر، تحشر بها عائلات المدينة أنفسها حشراً. اذ ان متوسط عدد أفراد العائلة الواحدة في المدينة يراوح بين ثمانية وعشرة أشخاص، الى جانب تزايد عدد العائلات بفعل زواج الأبناء. وتخترق المدينة ثلاثة شوارع رئيسة هي: الكوادر والفلاح والداخل، وتتفرع منها شوارع فرعية مستقيمة، اذ ان المدينة أنشئت وفق مقاسات هندسية مرتبة. وشهرة مدينة الصدر لا تتوقف عند أهميتها البشرية والسياسية، بل لوجود أشهر سوق عراقية فيها، هي "سوق مريدي" التي تمتد أكثر من ثلاثة كيلومترات. كثيرون يحذرون من مغبة الذهاب الى سوق مريدي. وبعضهم ينصحك اذا تملكك الاصرار على خوض "المغامرة" ألا تصحب معك أي شيء يثير شهية اللصوص. وحتى سائق التاكسي، سيحذرك من النزول في السوق. كل شيء معروض في السوق، بدءاً من مدافع مضادة للطائرات وهاون وقاذفات صواريخ، الى جانب مخازن تجارية ضخمة جداً تحتوي على أنواع السلع الكهربائية والملابس والبطانيات. والجميع على "باب الله"، كما يصف ذلك صباح جبر سلمان وهو صاحب محل مفروشات في سوق مريدي. أنواع مختلفة من البضائع الحديثة والقديمة معروضة بأسعار متهاودة. والكل مشغول في البحث عن فرصة يشغل نفسه بها. ولكن بعيداً من "الحرام" كما يقول الشاب محمد جبار يوسف: "لا نريد الحرام، ولن نرتكب ذلك أبداً". وزارت "الحياة" أمانة المدينة للاطلاع على التقسيمات الإدارية والمسميات الجديدة التي تختص بها مدينة الصدر عن سواها من مدن العراق. في بناء موقت، يوضح الشيخ عبد الأمير الكناني الأمين العام للمدينة أن منصب "أمين عام" يعني منصب "قائمقام" وبذلك فهو قائمقام المدينة. والأمين العام هو ذروة سلسلة من الدرجات الوظيفية. يقول الكناني: "جربنا هذا النوع من الإدارة، وكانت النتيجة كما ترى. أمناً وأماناً. هناك لجان أمنية، ومجلس عشائري، والأمناء، ومجلس بلدي ولجنة القضاء الشرعي، وجيش المهدي وقوات بدر. وكل هذه المؤسسات ترتبط بمكتب السيد الشهيد محمد صادق الصدر". كل من تلقاه في مدينة الصدر يؤكد ان لا سرقات ولا نهب ولا سلب، وان المدينة تعيش في أمن. ويعلق السيد وداعة عبدالمهدي المحنة وهو "عطار"، ان المدينة تقوم على قاعدتين متساندتين: الدين والعشائر. وإذا لم يكن الفرد متديناً ولم يكن الدين له رادعاً، فلا بد من أن ينتمي لإحدى العشائر في المدينة، "ولذلك اتفقت جميع عشائر المدينة على هدر دم السارق وبائع المخدرات ومستعملها والمتاجر بها". ليس في المدينة شارع يخلو من صور "الصدريين"، حتى أبواب البيوت والجوامع والدوائر. ويقول الشيخ محمد جواد السلطاني إمام جامع المهدي: "نحتاج الآن الى قائد، أكثر من حاجتنا الى علماء. نريد من يقودنا ويوجهنا لا من يعلمنا كيف نصلي وكيف نصوم، فهذه امور على أهميتها وضروريتها يمكن القيام بها بسهولة ويسر". ويقاطعه السيد عبد المهدي الشوكي قائلاً: "ما المانع من الجمع بين الاثنين، القيادة والعلم؟ ألم نشهد عبر تاريخنا المعاصر والقديم أشياء من هذا القبيل. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والأئمة الأطهار والكثير من العلماء الأفاضل جمعوا القيادة والدين؟ استطاع الصدريون ان يجمعوا القيادة فكانوا بذلك القيادة التي نبحث عنها". وماذا عن جيش المهدي؟ "هو جيش شبحي". هكذا وصفه السيد اياد عبدالمطلب الذي أضاف: "تحس بوجوده، وتتعامل مع نتائج وجوده ولكن من دون أن تراه بصيغة الوجود الثقيل الضاغط. البعض يقدر جيش المهدي في مدينة الصدر بأكثر من نصف مليون، والبعض يقول بأقل من ذلك، وانه لا يتجاوز 200 ألف مقاتل. بيد أن أوساطاً محايدة أشارت الى عدم توافر ارقام نهائية، وان المعلن الآن يشير الى أن هناك في مدينة الصدر أكثر من 12 لواء". العلاقة مع الأميركيين سجل العلاقة بين مدينة الصدر وقوات التحالف لا يوحي بوجود علاقة حميمة، فكثيرة هي الحوادث بينهما التي وجدت طريقها الى التأزم والسخونة. والأميركيون في تقاريرهم يعزون ذلك الى عدم تمكنهم من ايجاد خطاب ملائم للتعامل مع المدينة وأهاليها، والتفاهم مع مكتب السيد الشهيد الصدر والسيد مقتدى الصدر، الذي لا يقبل بأقل من الانسحاب الكامل وتسليم السلطة للعراقيين ليديروا انفسهم بأنفسهم. في جولة "الحياة"، لاحظت مرور بعض الدوريات الأميركية في شوارع مدينة الصدر. ويؤكد أحدهم ان الاميركيين ينزلون من عرباتهم ويتسوقون ويأكلون من المطاعم ويتجولون من دون أن يحدث ما يعكر صفو راحتهم. لكن البعض علق على ذلك بأنه "الصبر على مضض" بحسب ما ذكره الشيخ الكناني. ويضيف طالب عناد البهادلي، وهو أمين قطاع 32 مقابل سوق مريدي: "لكل حادث حديث. نحن لسنا جبناء، ولسنا نرضى الحياة على الذل، لكننا الآن نملك قيادة وهذه القيادة تملك صنع القرار المناسب في الوقت المناسب". واللافت ان كل شيء في مدينة الصدر سالم من النهب والسلب، فمستشفياتها الأربعة لم تتعرض لأي حادثة من حوادث السلب، وكذلك جميع الدوائر البلدية والخدمية والماء والكهرباء ودوائر الأحوال المدنية. الدوائر الوحيدة التي تعرضت للنهب هي دوائر الاستخبارات والأمن والأمن الخاص والشرطة وقوات حزب البعث. ويتفاخر أهالي المدينة، بأن ما فيها من مؤسسات مهمة لم يلحق به الدمار ولا الخراب، "فلو كان أهل مدينة الصدر هم الذين يقفون خلف عمليات النهب والسلب في بغداد، فلم لم تنهب المؤسسات في المدينة؟". مدينة الشهداء والمفقودين وتعتبر مدينة الصدر، الأولى في عدد الشهداء الذين قدمتهم في المعارك الثلاث التي خاضها صدام حسين ضد ايران وضد التحالف. ويقدر أهالي المدينة عدد شهدائها في هذه المعارك بأكثر من نصف مليون، اضافة الى ما لحقها من اعدامات طوال 35 عاماً. وما يسترعي الانتباه في المدينة التي أضحت ضجرة بثوبها الضيق جداً، هو التكدس البشري في بيوت هي أقرب الى جحور، فإذا كان متوسط عدد سكان العائلة المتعارف عليه عالمياً هو خمسة أشخاص، فإنه في مدينة صدام يرتفع الى نحو ضعفين وهو ما يفسر كثرة البيوت التي يتكدس فيها أفراد عائلة قد يصل عددهم الى أكثر من 35 شخصاً. وخلق هذا شعوراً عبر عنه السيد مفتن علوان العرداوي، بأنه "شعور الحقد والكراهية لقصور بنيت أو تبنى في بغداد على شواطئ دجلة أو في المنصور أو العامرية أو الحارثية أو غيرها". ويتساءل الشيخ صباح منفي، وهو رجل دين، عن معنى المساواة والعدالة والديموقراطية والحرية والاشتراكية في ظل هذه الأجواء المدمرة والمؤذية؟ ويواصل: "دعك من دورنا التي رأيتها. واذهب لمدارس أبنائنا فماذا تجد". مدارس صبغت بأصباغ باهتة، يقول عنها السكان انها غير جيدة ومغشوشة وبمواصفات أقل بكثير من المواصفات التي عملت بها مدارس بغداد الأخرى. ويقول البعض، ان المقاولين الذين نفذوا مقاولة اعمار المدارس سرقوا المراوح القديمة، اليابانية الصنع والغالية الثمن، ووضعوا محلها مراوح صينية رخيصة. ويختصر الأمين فاضل عبدالكاظم ثاني الوضع بالقول: "نحن مظلومون في كل شيء وكل من يأتي الى السلطة يستخدمنا للمزايدة فقط، من هنا فلا سبيل أمامنا إلا أن نأخذ حقنا بأيدينا، اذ كبرنا على التضليل والنفاق والكذب، ولم نعد نصدق أحداً إلا قيادتنا الصدرية". ولكن كيف تفهمون الظلم؟ يقول الشيخ عبدالأمير الكناني: "الظلم، هو سلب حريتنا، ومصادرة حقوقنا. الظلم أن يسكنوننا بيوتاً هي أقرب الى أن تكون جحوراً لا مساكن بشرية. الظلم انعدام وجود فرص العمل وتحولنا الى وقود لحروب ثلاث التهمت منا زهرات أبنائنا وفلذات أكبادنا. الظلم الحصار الثقافي علينا، وفرض التجهيل والتسطيح علينا ومنع أبنائنا من مواصلة دراساتهم العالية. الظلم بمحاربتنا في ديننا وفي منع شعائرنا وحرماننا من ممارستها. الظلم في الخدمات البلدية، في الكهرباء. أن تقول إنك من مدينة "صدام" فكأنك تقول انك من اسرائيل. لم يكن لديهم احترام لنا، بل لم يحترموا حتى الاسم الذي فرضوه على مدينتنا".