حضارة اليوم تنتج من البضائع ما تحتاج وما لا تحتاج، حتى رأينا المصانع البريطانية تنتج «الشماغ» للعرب، والصين تنتج الثياب العربية وسجاد الصلاة، ومع ذلك فلا يخلو بلد من أسواق خاصة... هذه للخضراوات، وتلك للقماش، وثالثة للمعدات الكهربائية، ورابعة لقطع غيار السيارات والمكائن، وهناك الأسواق الشعبية ذات الجاذبية، ولكن توجد سوق خاصة في العراق لا أعرف لها مثيلاً في العالم، في مكانها وبضاعتها وروادها وزبائنها. أبدأ بالمكان، وهو مدينة بغداد «المنصور»، عمرها يقترب اليوم من 12 قرناً ويزيد، التي اختطها المنصور وجعلها على حافتي نهر دجلة في شكل دائري وهندسة جيدة، ، وقد عاصرت الصعود العباسي حتى صارت من المدن الأولى في العالم، اذ تغزل فيها بعض الشعراء لجمالها وروعتها مثل القاضي الجرجاني الذي تغزل في بغداد بأبيات شعرية جميلة، ولا أدري ماذا سيقول الجرجاني لو زار الآن معشوقته بغداد، ورأى الخراب الذي حل بها، وشاهد المفخخات وفرق الموت المنتشرة كالذباب والجيش الأميركي في شوارعها وثكناتها. السوق اسمها «مريدي»، تقع في مدينة «الصدر» من ضواحي بغداد الشرقية، القريبة من وسط العاصمة بغداد، لكنها ليست من بغداد ولا نجف بغداد، مدينة تشبه الى حد كبير «مدن الصفيح» التي تُشاد على أطراف العواصم والمدن الكبرى في العالم، بناها عبدالكريم قاسم للفلاحين المهاجرين من جنوب العراق بعد فشل «الإصلاح الزراعي»، هذه المدينة سميت «الثورة»، بيوت قليلة تزدحم فيها عوائل في كل بيت، وصارت مكاناً مناسباً للأحزاب اليسارية، وأولها «الحزب الشيوعي»، والأحزاب الطائفية، فلما عاد حزب «البعث» للحكم عام 1968 جعل من أولوياته السيطرة على مدينة «الثورة»، فغيّر اسمها الى مدينة «صدام» وراح يكسب الشباب، وخلال مدة قصيرة انتسب لحزب البعث 50 ألفاً، فلما تغير النظام عام 2003 تحولت مدينة صدام الى مدينة «الصدر»، وتحول سكانها نحو الأحزاب الطائفية، خصوصاً جماعة الصدر، وكانوا عماد جيش المهدي، ويعتقد العراقيون بأن النهب والسلب والاختطاف والقتل يخرج من مدينة الصدر. في هذه المدينة توجد سوق اسمها «مريدي» لكنها لا تشبه أي سوق في العالم، إذ إنها سوق تتعاطى «تزوير الوثائق» منذ عهد صدام، وتنتعش «المريدي» ويتضاعف دخلها، إذ يأتيها وزراء ونواب ومديرون كبار وصغار يدفعون المال في مقابل شهادات مزورة، وخبرات لا أساس لها، أعرف رجلاً حصل على شهادة بأنه أنهى خدمته في الجيش العراقي، علماً بأنه لم يدخل العراق منذ عشرات السنين، وكذلك بعد حصوله على الشهادة، أحد المزورين صرح بأنه وحده زوّر أكثر من أربعة آلاف شهادة. هذه السوق «المتخصصة» لا تزال تمارس نشاطها، على رغم أن الطائرات الأميركية أغارت وقصفت مدينة «الصدر»، وضربتها بالصواريخ، ودخلتها القوات الأميركية والعراقية، لكن لا أحد اقترب من سوق «المريدي»، فما السر في ذلك؟ وما سر هذه الحصانة؟ ألا تستحق «المريدي» دراسة أو رسالة دكتوراه – غير مزورة – عنها؟ ما الذي يحدث لو انتقلت هذه «الخبرة العظيمة» إلى مدينة مثل نيويورك أو القاهرة أو نيودلهي أو كراجي او حتى أفغانستان او الصومال؟ لماذا الاهتمام الكبير بجمع التبرعات للفقراء والمساكين وتجفيف المنابع وترك «المريدي» يفعل بها المزورون ما يريدون؟ لماذا يحارب العالم غسيل الأموال ولا يحارب سوق «المريدي»؟ وسؤال أخير: ماذا لو قام تجار «المريدي» بإعلان ولو بعض أسماء الوزراء والنواب ووكلاء الوزارات وبعض «الألوية» في الجيش المزورين الذين يقبضون رواتبهم بوضع بصمة الابهام على قوائم الرواتب؟ سيد نعمان علوش السامرائي - جدة