من مظاهر اختطاف جيل بأكمله رهينة 11 أيلول أنه في كل أيلول عندما تنعقد الهيئة العامة للأمم المتحدة سيقف رئيس الولاياتالمتحدة ويُذكر الحضور بما حصل في مثل هذه الأيام قبل كذا سنة "وعلى بعد كيلومترين من مكان اجتماعنا". حتى أيلول الخرافي أيلول الأسود، أيلول صبرا وشاتيلا، المتفاوت فلسطينياً وعربياً في التلميح الى رمزية رحيل عبد الناصر، المثقل من أوله الى آخره بأيام الذكرى، ايلول هذا أصبح رهينة يوم واحد. وعلى وقع خطابات كثيرة وكلام لا ينتهي يغادرنا أصدقاؤنا في ايلول ويبلغ آخرون جيل الثمانين بكل بوقار، ونحسد نحن اولئك الذين حظوا بنعمة أن يوصل أحدهم الآخر الى المثوى الأخير. ولكن لا شيء سيوقف سيل الكلام الذي لا ينتهي الى درجة ان نمتنع عن قول ما نخشى ان يضيع في لجة الكلام والاكاذيب. هكذا كان على جيلنا الرهينة ان يفرك أعينه غير مصدق اذا كان فعلاً يشهد تحول كوفي انان الى خطيب مفوه وشخصية كارزماتية، وتحول شيراك اليميني الفرنسي الى داعية حقوق وإستقلال. وكل ذلك بفضل جورج بوش واسامة بن لادن صاحب الفضل الاول على الأول. لقد جعل خطاب بوش الأخير صحيفة "الغارديان" تتوج انان: "هنا وقف قائد حقيقي وليس قائد مفترض، رجل دولة دولي وليس شخصية كوميدية تقرأ من نص جاهز. يفتقر كوفي انان الى قوة وسلطة الرئيس الاميركي، ولكن أظهر كيف تخرس الحقيقة مليون بندقية" 24 أيلول، 2003. إنه كوفي انان نفسه الذي تصرف ويتصرف كموظف في الخارجية الاميركية. وبالإضافة اليه وبمناسبة شحوب خطاب يوش تقترح الصحافة الدولية شيراك زعيماً عالمياً وذلك ليس فقط في الأناقة بل في السياسة. شيراك الذي تحول الى مضيف باهت لوفود التهاني لجورج بوش المنتصر في "ايفيان". الى هناك سافر بعض الزعماء العرب لإستقباله والاحتكاك بكتفيه. ما الذي جرى؟ ولماذا ظهر جورج بوش باهتاً في الاممالمتحدة أمام لمعان وكارزماتية كوفي انان؟ هل هو خطابه، لغته، بنية الخطاب؟ يتذكر ابناء جيل العملية السلمية في مثل هذه المناسبة قدرة زعيمهم التي لا تضاهى على إلقاء خطابات لا تتناسب مع التوقعات في المناسبات الدراماتيكية الكبرى، وما اكثرها في عملية السلام التي حولت الدراما الى روتين، لأن من كتب الخطابات يجلس في غرفة بعيدة خارج الدراما ولا يفطن إلا الى ضرورة تكرار الثوابت. وكان هذا شعور الصحافة تجاه خطاب بوش، خطاب الثوابت، المتمسك بموقف الولاياتالمتحدة من العراق والمتجاهل لشغف الاعلام ان يتطرق الى المسائل الكبرى مثل السيادة والانتخابات ودور الاممالمتحدة في العراق بعد الحرب. دفعتني هذه الملابسات في هذا الشهر غير الفضيل الى مراجعة خطابات بوش أمام هيئة الأممالمتحدة في السنوات الثلاث الأخيرة بحثاً عن الفرق، وكيف تدهورت خطاباته الى درجة بدا كوفي انان إزاءها "رجل دولة دولي" على حد تعبير "الغارديان" الذي لا ينسى. حتى "الواشنطن بوست" عبرت عن خيبتها في كلمة العدد 24 ايلول: "قبل سنة من اليوم وفي مثل هذا الشهر قدم بوش خطاباً قوياً للأمم المتحدة وتحداها ان تتصدى لدكتاتورية صدام حسين، تحدياً وحّد مجلس الأمن في طلب انصياع العراق لأوامر الاممالمتحدة في نزع السلاح. عند عودته يوم أمس قرأ السيد بوش خطاباً خالياً من مثل هذا الحماس والتصميم والرؤية...". يحق لنا ان نخالف الواشنطن بوست كما خالفناها ايام الحرب لنقول: بل انه التصميم نفسه والرؤية نفسها والحماس نفسه في الخطابات الثلاثة، وهذه هي المصيبة، انها ايديولوجيا. لا بد من مراجعة الخطابات الثلاثة الأخيرة إذاً، والحقيقة أنني لم أجد فرقاً لا في اللغة ولا في الايديولوجيا ولا في العاطفة، وذلك رغم الفرق الذي صنعه احتلال قضية تداول البشر وتداول الأطفال دولياً لأغراض تجارة الجنس مكانة مساوية لقضية العراق طولاً في نص الخطاب، وهو موضوع غير حماسي بالتأكيد. وفيما عدا ذلك لا فرق. في خطابه الأول وقف بوش أمام الاممالمتحدة بعد أيام من عملية 11 أيلول، وكان الجو مكهرباً حتى كادت هالة ضوء تحتل مكان قبعة التنس البلهاء حول رأسه وهو يوزع الأدوار ك "رجل دولة دولي" ويقدم الشكر للأمم المتحدة وللدول والشعوب العربية التي أدانت الارهاب ويتغنى بمقولة شيخ الأزهر نعم! نعم! قبل ثلاث سنوات فقط ان "الارهاب مرض". وفي خطابه الثاني يقرع طبول الحرب على العراق ومعه "الواشنطن بوست" طبعاً ولكن لا يفوته، حتى في حينه، ان يضع قضايا مثل حقوق الانسان وقضايا الأقليات في العراق قبل "أسلحة الدمار الشامل". هذه اصول الخطاب، خطاب ايلولي سبتمبري أيديولوجي في وضعه مفهوم الارهاب كمحور العلاقات الدولية، وينتقي الحقائق اللازم ذكرها لتكتمل صورة الحرب مميزاً بين الغث والسمين وبين واقعة تستحق ان تذكر واخرى لا تستحق ان تذكر ووقائع تضيع في السياق واخرى خارج أي سياق. لم يكن خطاب بوش الاخير انتقائياً في ما يجيب عنه وما لا يجيب أكثر مما كان في خطابيه السابقين. في حينه التقت انتقائيته مع آذان انتقائية ووسائل اعلام انتقائية، ام اليوم فتبرز فجوة بين ما تنتقيه الآذان والعيون وما ينتقيه الخطاب. وُجّهت الى خطاب بوش انتقادات اعلامية صريحة لأنه لم يتطرق هذه المرة الى عدم العثور على اسلحة دمار شامل، فهو لم يجب على السؤال عن اختفاء سبب الحرب. والحقيقة ان المشكلة بالنسبة الى الاعلام الذي أيّد الحرب هي نتائج الحرب وليس اسبابها. كما انتقد لأنه لم يواجه الأممالمتحدة بجدول أعمال واضح لما هو مطلوب منها في العراق، وأنه إكتفى بنداء للدول الديموقراطية أن تقوم بدورها إزاء "ديموقراطية وليدة" في العراق. اين جورج بوش من جورج مارشال اعادة اعمار المانيا؟ تساؤل كاذب هو الآخر. فالولاياتالمتحدة في حينه دعمت المانيا القادرة على التصنيع والتجارة لأنه قد نقصها لحظة ما بعد الحرب المال اللازم للشراء من اميركا لتقف على رجليها، لقد حرك برنامج مارشال في حينه اقتصاد اميركا بعد الحرب لأنه مكن المانيا من الشراء لغرض بناء البنى التحتية والانطلاق، لقد كانت تلك حاجة الاقتصاد بعد الحرب للخروج من الجمود. كانت تلك تطبيقات لكينز على الصعيد الدولي. ولكن هل يتحمل جورج بوش وحده مسؤولية اختفاء اسلحة الدمار الشامل؟ لقد شدد الرئيس الاميركي عليها في خطابه "الحربجي" في ايلول 2002 أقل بكثير مما شدد عليها الاعلام نفسه الذي قرع مع اميركا طبول الحرب. ولم يتطرق جورج بوش الى اسلحة الدمار الشامل في خطابه الحالي لأنه كذب، ولأنه منذ تلك الفترة يعرف الجميع أنها لم تكن سبب الحرب، ولكن الاعلام الذي اختار ان يصدق هو الاعلام نفسه الذي يدعي أنه ضُلِل والحقيقة أنه ضَلَل. ان كذب الاعلام وانتقائيته وبحثه عن الدراما هو سلاح دمار شامل أكثر ثبوتاً ووثوقاً من السلاح العراقي وسيرافق هذا الجيل من أيلول الى ايلول. لم يتطرق بوش الى الاسئلة الدولية حول اختفاء اسلحة الدمار الشامل كأنها "فص ملح وذاب" لنفس الأسباب التي دعت بلير الى تفضيل البقاء في بيت غير دافىء على حضور الهيئة العامة الأخيرة. كان كل من دعم الحرب يعرف الكذبة، وكانت لدى الجميع مصلحة في ترويجها. في بلاد بلير يعيش بعض الصحافة والصحافيين المبدئيين، كما يتنفس رأي عام أكثر مبدئية بالتأكيد في قضايا الديموقراطية من الديغوليين الفرنسيين ومن كوفي انان، والكذب عن سبق الاصرار والترصد ليس مقبولاً في بريطانيا لغرض جر أمة الى الحرب. إنها أمة تتمرد على الكذب حالياً وتربط الآن حتى مشاكلها الاقتصادية الاجتماعية بإهتمام بلير في العراق أكثر من اهتمامه ببلده. وهذا كذب من نوع كذب بلير نفسه. الفرق ان كذب بلير ضعيف حالياً وبالامكان محاربته بكذب آخر. لم يقم أحد بجر أمة الى الحرب. لقد كانت الغالبية الديموقراطية في بريطانيا ضد الحرب الى ان رفع العلم فوق الصواري، عندها اقشعر بدن وطنية الرأي العام فأصطف الى جانب الحرب بغالبيته تاركاً الحساب لنتائجها. وقد بدأ الحساب مبكراً في بريطانيا لوجود أصوات ثابتة ومبدئية غير مرتبطة تماماً بهشاشة الانتصار وبتطور حرب الاستنزاف. اما في الولاياتالمتحدة فإن الجرف الوطني شاملاً وازدانت شرفات ومداخل بيوت المواطنين بأعلام الأمة منذ أيلول إياه بشكل متواصل طيلة سنوات. ولكن رغم ذلك يبدو ويسلي كلارك، الذي كان تلميذاً نبيهاً في المدرسة، كالتلميذ المجتهد المفضل لدى الاستاذ الاعلام، مقابل غباء التلميذ جورج بوش. لم يوقظه، ولم يوقظ الحزب الديموقراطي ومعهم جوقة من صحافيي واشنطن المربوطين مع البيت الابيض بنفس ربطة العنق، سوى حرب الاستنزاف في العراق، الاستنزاف الاقتصادي ونزف الدم. هنالك رعب حقيقي حول نوع النموذج الذي يشكله العراق، فوضى ام ديموقراطية. نفس المجتمع بدولة منظمة قد يكون ديموقراطياً قد يتحول دون دولة يتحول الى غابة. وقد انتقى بوش في خطابه الشق الأول داعياً الفلسطينيين للاقتداء بالعراق. هكذا يبدو جورج بوش الآن متسولاً في الكونغرس من أجل 20 بليون دولار كان بإمكانه ان يمرر أكثر منها قبل أقل من عام. في تلك الأيام السحيقة ! تغير اسم "الفرنش فرايز" في كافيتريا الكونغرس الى "فريدوم فرايز" مقالي الحرية نكاية بفرنسا. واليوم يتغنى الاعلام بأناقة شيراك وذكاء كلارك، الذي يبدو مثل "حرية مكوية" مقاب بوش الذي يبدو مثل "حرية مقلية". هل تعلم عزيزي القارىء ان كلارك طلب أن ينضم الى الحزب الجمهوري مرشحاً عنه في انتخابات الكونغرس، ولكن كارل روف، سيد البيت الابيض الحقيقي، سيد صناديق الاقتراع، قد تآمر وتآمر الى ان احبط محاولته؟ سبحان مغير الاحوال. على كل حال، لا تكمن المشكلة في الخطاب. فهو لم يكن باهتاً. صورة بوش كانت باهتة في الأعين والآذان التي تسمعه كذلك. وضع بوش هو الباهت. أين تجد جملاً قاطعة وحماسية مثل ما ورد في خطابه الاخير: "أظهرت الأحداث في العامين الاخيرين أوضح تقسيم: بين هؤلاء الذين يبحثون عن النظام والباحثين عن الفوضى...". بغض النظر عن المقصود، فقد نحمله نحن معاني اخرى في هذا البلد. لن تجد مثله إلا في خطاب كتبه ديموقراطيون مؤدلجون اصوليون، اين تجد جملاً من النوع الذي ختم فيه خطابه: "كموقّع أصيل على ميثاق الاممالمتحدة فإن الولاياتالمتحدة ملتزمة تجاهها. ونحن نثبت هذا الالتزام بالعمل على تحقيق غايات الاممالمتحدة واعطاء معنى لمثلها. لقد جاءت مواثيق تأسيس الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة من نفس التقاليد...". كلام يبدو مقتبساً من كتب التنوير الاسكتلندي واقرب الى أجواء الهجوم على الباستيل من خطاب شيراك. * كاتب عربي.