قليلاً ما نجد في العالم العربي دراسات تعنى بالشأن السينمائي وفنونه وأهله وتقنياته. من هنا اهمية الكتب - على قلتها - التي تغوص في عالم السينما وتبحث في خفاياه عن بعض الجوانب المضيئة، ملقية الضوء على أبرز اعمال كبار طرقوا هذا الباب وزودونا بمئات الأعمال التي تركت بصمتها في تاريخ الفن السابع والفن العربي عموماً. "كمال الشيخ نصف قرن... من الإبداع" الصادر عن المهرجان القومي للسينما المصرية للناقد كمال رمزي هو واحد من تلك الكتب التي تأخذ القارئ في رحلة سينمائية بحتة، يزور خلالها ابرز المحطات الفنية لأحد اعلام الفن السابع في مصر، ويتعرف عبرها الى عدد من الأفلام التي كتب لها ان تعيش وتبقى بفضل موهبة صاحبها وعطائه "مئات الأفلام، في تاريخنا السينمائي، لم يكتب عنها حرف واحد. ماتت وهي تولد. تمت صناعتها وعرضها ووفاتها... ربما كان بعضها مظلوماً، وفي الكثير من الأحيان تجد من ينفض الغبار المتراكم فوقها، وينصفها، ويعيد تقديمها، مبرزاً مواطن القوة والجمال فيها، ولكن... غالباً ما تفتقر الأفلام التي تجاهلها الجميع الى مقومات البقاء وبالتالي تحولت الى مجرد رقم وعنوان وبيانات في هذا الدليل السينمائي او تلك الموسوعة، اضافة الى تخليص سريع لقصصها". ولأن الأمر على هذه الشاكلة حرص مؤلف الكتاب على الولوج في صلب اعمال كمال الشيخ كي يعاد اكتشافها مع كل جيل، فكان ان قسّم كتابه الى ستة فصول استهلها بمدخل لسينما كمال الشيخ عرض فيه بعض النماذج لأسلوبه في العمل الذي يتميز برأيه بالاعتماد على الانفعالات الداخلية لأبطاله، انفعالات يعبّرون عنها بطريقة هادئة، فضلاً عن تكثيف الجو العام، بالتوزيع الدرامي الفاعل للإضاءة التي يكاد يتصارع فيها النور مع الظلام، والاستخدام المقتصد للموسيقى التصويرية من دون ان ينسى الاستعانة في كثير من الأحيان بالصمت". وهكذا بعد وصف اسلوب كمال الشيخ من خلال بعض اعماله ك"الليلة الأخيرة" او "المنزل رقم 13" و"مؤامرة" و"حياة او موت" و"حب ودموع" و"أرض السلام"، انتقل كمال رمزي الى باب آخر هو "كمال الشيخ بين النقاد"، ثم "كمال الشيخ... يتكلم" وصولاً الى "فيلموغرافيا كمال الشيخ وتعليقات النقاد" و"كمال الشيخ" وأخيراً "رحلة عمر". المايسترو وإذا استعرضنا مسيرة هذا الفنان نفهم اللقب الذي أطلقه عليه كمال رمزي في سياق الكتاب، عنينا لقب "المايسترو". إذ ان كمال الشيخ المولود في شباط فبراير عام 1919 قدّم للسينما ما يقارب الأربعين فيلماً وفاز بجائزة الإخراج مرات عدة، كما شاركت افلامه في الكثير من المهرجانات الدولية وأقيمت لها الكثير من الأسابيع، داخل مصر وخارجها، احدثها عام 2002 في تورينو في ايطاليا. وتمتاز افلام الشيخ "بتناغم اللغة السينمائية بدءاً من السيناريو المكتوب بمواصفات تتواءم مع ميوله، وحتى اللمسات الأخيرة للفيلم، مروراً بالديكور والتصوير والمونتاج والموسيقى المصاحبة والمؤثرات الصوتية، فضلاً عن الأداء التمثيلي بالطبع". ولا نستغرب حينما نسمع المؤرخ السينمائي جورج سادول يعبّر عن إعجابه بكمال الشيخ لجهة توجيه الممثلين والكاميرا ودقته في عملية المونتاج، واصفاً أسلوبه بأنه لا يلجأ الى الابتذال او الجنس. فالحقيقة ان كمال الشيخ تعامل مع مهنته "بجدية تبلغ حد القداسة" نسمعه يقول: "منذ البدايات، السينما هي حلمي، وكلما شاهدت فيلماً ازداد اصراري على ان تكون هي مستقبلي. قضيت فترة في كلية الحقوق، بناء على رغبة الأسرة، لكن سرعان ما تركتها والتحقت باستديو مصر، وتعلمت في هذا المكان الأقرب الى المعهد أو الورشة الكثير من الدروس والقيم، ظلت ملازمة لي، طوال حياتي". وبالفعل رافقت هذه القيم كمال الشيخ في مجمل مسيرته الفنية بمراحلها المرة والحلوة، الأمر الذي جعل النقاد يجتمعون على ميزة مهمة في اعماله ألا وهي الاحترام "على رغم اختلاف مناهجهم وتباين طرق الكتابة". وهكذا جاء الاحترام "من قلب أفلامه، فلا تجد فيلماً واحداً تم اخراجه على عجل... كمال الشيخ في عمله اقرب للمايسترو، يفجّر الطاقات الإبداعية عند فريقه السينمائي، فيأتي فيلمه متناغم العناصر، وهي المسألة التي ادركتها، بوعي وتقدير، الكتابات النقدية سواء المتثبتة في الكتاب ام التي لم تذكر". ولا يمكن دخول عالم كمال الشيخ السينمائي من دون المرور بأهمية الأدب في السينما التي قدمها. "إذ فتح الأدب، امام سينما كمال الشيخ، آفاقاً جديدة. فروايات. "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ و"الرجل الذي فقد ظله" لفتحي غانم، و"غروب وشروق" لجمال حماد، و"شيء في صدري" لإحسان عبدالقدوس... منحت افلام كمال الشيخ نفحة واقعية من دفء الحياة، فأصبحت اكثر رسوخاً على الأرض وأعمق. وبدوره اخرجها كمال الشيخ بطريقته الدقيقة المرهفة، التي تهتم بقوة اللغة السينمائية وبلاغتها على نحو زاد من شعبية هذه الروايات". دفء الحياة وإذ لعبت الرواية دوراً اساسياً في مشوار كمال الشيخ الغني، فهو بدوره كان له الأثر الأكبر في فن كبار نجوم السينما في مصر. ويتجلى الطابع الشخصي لكمال الشيخ، في طريقة إدارته للمثل، ليس من الناحية الخارجية، وحسب بل من اسلوب الانفعال الداخلي ووسيلة التعبير عن هذا الانفعال. ولا يلبث كمال رمزي ان يسلّم بأن الكتابة من اهم ادوار فنانينا، وأعلاها شأناً، لا بد من إرجاعها الى نحو ما، الى كمال الشيخ مستشهداً بالفنانة مديحة يسري على سبيل المثال حينما يقول: "إذا كان اداء مديحة يسري يتسم بدرجة من المغالاة، شأن معظم نجمات جيلها، فإن اداءها في فيلم "أرض الأحلام" جاء واقعياً. وكذلك يورد ما قاله الناقد سمير فريد في تحليله ل"الخائنة" حينما اشار الى ان كمال الشيخ قدّم للفنانة نادية لطفي اروع ادوارها على الإطلاق. وكما نرى، يولي رمزي في كتابه "كمال الشيخ نصف قرن... من الإبداع" اهمية خاصة ل"فيلموغرافيا" كمال الشيخ وتعليقات النقاد عليها ايماناً منه بمساهمة افلام كمال الشيخ في بلورة التيارات النقدية وإنضاجها، الأمر الذي جعله يخصص ما يزيد على ثلثي الكتاب لهذه الغاية. فكانت آراء عدد كبير من النقاد، شهادة بمكانة سينما واحد تحول عبر اول فيلم حققه الى مصاف المخرجين الأوائل في السينما العربية. "كمال الشيخ نصف قرن... من الإبداع" صورة مختصرة لما حققه خلال نصف قرن في عالم السينما العربية من عشرات الأفلام الروائية الطويلة التي تمثل قيمة رفيعة في السينما المصرية في تاريخها الذي لا يتجاوز ثلاثة أرباع القرن إلا بسنوات قليلة.