وعين الصاحب هذه بلدة تكاد ان تكون بلا سكان. اشهر ما فيها من ابنية احد المعسكرات المهجورة يحرسه خفير، وهي على بعد 25 كيلو متراً جنوبدمشق. الرسالة التي وصلت منها بتاريخ 5 تشرين الاول اكتوبر 2003 اي قبل افراحنا بأعياد تشرين الاول اكتوبر 1973، بيوم واحد تقول: "لقد ضربنا اولاد الابالسة بالقنبر الذي تساقط علينا من طائراتهم المغيرة فجراً وكانت الخسائر خفيراً كان يقوم بالحراسة". لم تذكر الرسالة كيف اخترقت الطائرات المغيرة الدفاعات الجوية براداراتها وصواريخها ومدفعيتها من دون انذار، ولم تذكر الرسالة لماذا لم تعمل نطاقات الدفاع فتتصدى للعدو الذي تجاسر على اختراق اجوائنا. على أي حال "قرأت الرسالة واصابني الغم والهم وابعدتها عن منامي وإن ظل ما تحمله من انباء في مخيلتي وتفكيري حتى الآن...". ذكرتني هذه الرسالة المشؤومة برسالة اخرى موجعة قرأتها في 7 حزيران يونيو 1981 صادرة من "التويثة جنوببغداد عن قيام الأبالسة بضرب المفاعل الذري "اوزيراك" الموجود هناك وتدميره عن آخره من دون اعتراض ولا مقاومة، ومعنى ذلك انهم وصلوا الى عمق العراق في الثمانينات من القرن الماضي كما وصلوا الى عمق سورية في اوائل القرن الحالي..! ويعلم الله أي عمق سيدنسونه باكراً أو بعد باكر. ويبدو أن التكرار لا يعلم "الشطار" إذ سبق للأبالسة ان قاموا في صباح 5 حزيران يونيو 1967 بتدمير كل القوات الجوية المصرية وهي على الارض من دون مقاومة وترتبت على ذلك هزيمة قاصمة ما زلنا نعاني منها حتى الآن بل ستعاني منها أجيال كثيرة مقبلة. صرح ارييل شارون عقب نجاح الغارة على عين الصاحب بأن "اسرائيل ستضرب اعداءها في أي مكان وبأي طريقة" وكان هدف الغارة الانتقام من عملية حيفا التي قامت بها الشهيدة هنادي جرادات وقتل فيها 20 اسرائيلياً وجرح 50، بذريعة أن سورية تساعد على ذلك. كان مناحيم بيغن صرّح عقب الغارة على التويثة قبل اثنين وعشرين عاماً "سنضرب اي مفاعل يحاول العراق بناءه مرة اخرى ولو قامت السعودية ببناء مفاعل سندمره"، لأنه كان يريد لاسرائيل احتكار السلاح النووي، وصرح موشي دايان عقب انتهاء معارك حزيران يونيو 1967 بأنه "ينتظر المندوب المصري ليوقع معه اتفاقية السلام" وجاءه الرد من رأس العش يرمي سماعة الهاتف حانقاً وأخذ يقاتل من جديد لسنوات مقبلة. اعتاد البيت الابيض ان يؤيد كل غارة تقوم بها اسرائيل، فتوجيهات العمليات دائماً تصدر بتوقيع الرئيس الاميركي وتحول الى تل ابيب للتنفيذ: التوجيهات القديمة تنفيذاً لتوجيهات رئاسية اميركية "تمنع الانتشار النووي الا للدول النووية القائمة" والغارة الجديدة "لعدم تنفيذ سورية الطلبات الاميركية وهي: وقف دعمها للارهاب، اغلاق مكاتب ومعسكرات تدريب الفصائل الفلسطينية في سورية، وقف دعمها لحزب الله اللبناني، سحب قواتها من لبنان واخيراً وقف تطويرها اسلحة الدمار الشامل، تبع الغارة تصريح بوش بالتأييد واقرار الكونغرس قانون محاسبة سورية بموافقة البيت الابيض وفرض العقوبات على دمشق. هذا تأكيد على دور اسرائيل لتنفيذ الرغبات الاميركية بالوكالة، وتأكيد بأننا لا نتعلم من دروس التاريخ ونصرّ على تكرار اخطائنا، الى متى؟ الله اعلم، وتأكيد على أن قوة اسرائيل ترجع الى عوامل كثيرة معروفة أهمها ضعفنا وتهاوننا وعدم تفعيل مواردنا المتاحة. لوحظ في غارة عين الصاحب انها تمت لغرض غير مهم وأنها احدثت خسائر قليلة، وأن اجهزة الاعلام الاسرائيلية اذاعت اثناء الغارة ولتوجيه الانظار بعيداً عنها أن قواتها البرية تتوغل داخل الاراضي السورية الامر الذي لم يحدث في الواقع، يعني الرسالة انذار: يا سورية نفذي ما يطلب منك وإلا فالعقاب سيتكرر وسيتصاعد. نقطة تحول خطيرة في قواعد اللعبة ولكن يبدو أن الاخوة في دمشق لا يدركون ذلك فكان رد فعلهم تقليدياً تبعاً للخطوات المعروفة، الاعلان المتأني عن العدوان، رفع الامر الى مجلس الامن، الفيتو الاميركي على أعناق الاعضاء، محاولة الحصول على اي قرار بالإدانة، تنديد من العواصم العربية، اجتماع في الجامعة، بعض الاناشيد من الاذاعات هنا وهناك!. استراتيجية لم تعد صالحة لمقاومة استراتيجية العدو والتصدي لها، لأن سورية تصرفت تحت تأثير نجاح العدو في ردعها، اسرائيل ترى ان القوانين التي تنظم الحروب بين الدول تفقد قوة إلزامها إذا تعارضت مع تحقيق اغراضها أو إذا حالت دون التصدي لأخطار تهددها فالضرورات تبيح المحظورات كما أنها تأخذ بنظرية حق المحافظة على الوجود Self Preservation أي اتخاذ الاجراءات الوقائية ضد دولة اخرى لوقف عدوان متوقع رغم أن هذا الاجراء يعتبر تدخلاً أكثر منه دفاعاً عن النفس ويعتبر عدواناً بكل المعاني لا بد من الرد عليه بالقوة. الولاياتالمتحدة تتمنى العقيدة نفسها تحت إسم الحرب الوقائية. أن يصرح المسؤولون السوريون بأن اسرائيل تريد جرهم الى حرب وأنهم لن يرقصوا على طبولها اصبحت استراتيجية خاطئة فهي لم تمنع العدوان في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لماذا لا نكون مستعدين لجر اسرائيل الى الحرب لتحرير ارضنا؟ لماذا لا نركز على أن نكون الفاعلين لا المفعول فينا؟ نفقات الدفاع ضخمة ومبيعات السلاح كبيرة ولا ينقصها إلا الارادة السياسية لنفعلها، وإلا لماذا توجد الجيوش ومتى نتصدى للعدوان خصوصاً وأن الضربات اصبحت توجه في عمق سورية الى اغراض قريبة من العاصمة؟ العدو ما زال محتفظاً بالجولان اكثر من 36 عاماً ويغير من طبيعتها جغرافياً وديموغرافياً بما يعني عدم نيته في ردها الى اصحابها. حرب الاستنزاف التي تشنها سورية بالوكالة في مسرح هامشي بالنسبة لها، استنفدت أغراضها وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، هكذا يقول التاريخ ولكن يبدو أننا لم نعد نسمع. الاستراتيجية القائمة تساعد على العدوان ولا تؤدي الى استرجاع الحقوق.. استراتيجية اللاحرب واللاسلام استراتيجية فاشلة عاجزة أمام عدو لا يتردد في العدوان وعدم احترام الشرعية الدولية إذ ليس هناك اخطر من موقف توجد فيه دولة قوية معتدية جاراً لدولة سالمة او مستسلمة لأن "أمن أي دولة يتوقف على عزمها على استخدام القوة أكثر مما يتوقف على رغبتها في التفاوض". والنص بالانكليزية كما قال الرئيس رونالد ريغان: The security of any nation lies more in its will to use power than in the willingness to negotiate. إذاً، اتفقنا على ضرورة تغيير الاستراتيجية الحالية نظراً الى تغير قواعد اللعبة فإن من بين اكثر القادرين على هذا التغيير هو الفريق مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري، إذ ظل يشغل منصبه هذا لمدة 33 عاماً بنى فيها قواته المسلحة ونظمها ودربها لمواجهة ألاعيب عدو يغير جلده وتكتيكاته في فترات متعاقبة والشعوب العربية كلها في انتظار التغيير قبل فوات الاوان. لأن خطوط ايقاف النيران الباردة تتحول بمضي الوقت الى حدود دائمة. وما حدث في الاسكندرونة ليس ببعيد. * كاتب، وزير الدفاع المصري سابقاً.