تواصل "الحياة" نشر حلقات أربع من كتاب جديد لنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، يصدر قريباً في عنوان "النظام العربي المعاصر: قراءة الواقع واستشفاف المستقبل"، وهو يتناول الوعي القومي العربي في بواكيره الأولى وتطوراته، ويناقش مدى تقدير القوميين لوضع الاقليات ولموقع الدين الاسلامي من العروبة، ويتناول النظام العربي الراهن كما يتجسد في جامعة الدول العربية، انطلاقتها ومسارها المتعثر، ويتابع وضع النظام العربي في مرحلة الحرب الباردة وآفاق المشروع القومي العربي في ايامنا الحاضرة. وعلى صعيد الصراع مع اسرائيل يمهد عبدالحليم خدام بشرح المشروع الصهيوني وموقف العرب منه ليفصّل الحديث في الصراع العربي الاسرائيلي، كما ظهر ويظهر في حرب اكتوبر 1973 وفي تحرير جنوب لبنان والانتفاضة الفلسطينية المستمرة. في حلقة اليوم الثالثة رواية، يمكن القول انها رسمية سورية، لحرب اكتوبر، أول نصر لجيوش عربية على الجيش الاسرائيلي. كانت الزيارة الأولى التي قام بها الرئيس حافظ الأسد خارج سورية الى القاهرة في أواخر تشرين الثاني 1979، وقد رافقته في هذه الزيارة باعتباري وزيراً للخارجية. وكان اللقاء مع الرئيس أنور السادات حاراً الا ان هذه الحرارة كانت متدنية لدى أعوانه، الذين كانت عقدة الخلاف مع حزب البعث العربي الاشتراكي لا تزال مغروسة في أعماقهم دون ان يأخذوا في الاعتبار ضرورة تجاوز إشكاليات الماضي لأن استمرار العدوان الاسرائىلي سيزداد شراسة، وتزداد الأمة العربية ضعفاً. وكان الاتفاق تاماً في هذه الزيارة على تأكيد الشراكة وتجاوز الماضي والتطلع الى المستقبل. تبين ان تحليل الوضع واحد لدى الرئيسين المصري والسوري وقناعتهما واحدة في ان مسؤولية مصر وسورية تتطلب التعاضد والتكامل واستحضرا تاريخ تكاملهما وتعاضدهما خلال التاريخ عندما هزمت وحدة القطرين الصليبيين والتتار. وتم في هذا اللقاء الاتفاق على ما يلي: 1- تعيين الفريق محمد فوزي قائداً للقوات المسلحة في مصر وسورية مع صلاحيات واسعة لضمان الاعداد الجيد من حيث التدريب والتنظيم لقوات البلدين ووضع الخطط العسكرية لحرب التحرير. 2- انضمام سورية الى ميثاق طرابلس الذي كان يضم كلاً من مصر وليبيا والسودان. 3- العمل على زج الطاقات العربية في الحرب المقبلة: العسكرية والاقتصادية والسياسية عبر زيارات للرئيسين لو لموفدين سوريين ومصريين والاستعانة بالجامعة العربية ولا سيما مجلس الدفاع العربي. 4- تكثيف الاتصالات مع الاتحاد السوفياتي من أجل توفير العتاد العسكري الذي تتطلبه الحرب واتفق الرئيسان على قيام الرئيس حافظ الأسد بزيارة موسكو وبحث هذا الموضوع مع القيادة السوفياتية... 5- تحديد هدف حرب التحرير بإزالة آثار العدوان وتحرير سيناء والجولان. بعد هذه الزيارة ركزت كل من مصر وسورية جهودهما نحو العمل لتوفير متطلبات المعركة وفق الأسس التي أشرت اليها، وكانت الخطوات الأولى تتمثل باعادة سورية لعلاقاتها التي كانت مقطوعة مع المملكة العربية السعودية والمغرب وتونس والأردن والبدء بتطبيع العلاقات مع العراق. لقد شكلت السنوات الثلاث الأولى من عقد السبعينات مرحلة انتعاش عربي وتوقفت خلالها المشاحنات العربية وتطلع الجميع الى تحقيق نصر على اسرائيل. عكس مجيء القوات المغربية الى سورية دلالة عميقة عبّر عنها السوريون بمشاعرهم وحرارة استقبالهم لهذه القوات، كما فعلوا مع القوات العراقية والسعودية... وكما كان مشهد القوات العربية الاخرى من عدد من الأقطار العربية على جبهة القناة مشهداً باعثاً على التفاؤل. تمير القادة العرب آنذاك بوعي عميق لخطورة المشروع الصهيوني واندفاع أكثر في البحث عن وضع يعيد لمصر وسورية والفلسطينيين أرضهم وحقوقهم، كما كانوا أكثر إدراكاً للحاجة الى تحقيق تضامن عربي. كانت حرب تشرين حرباً عربية قاعدتها الأمامية في مصر وسورية ودعامتها العرب في مختلف اقطارهم، فإلى جانب ارسال القوات المسلحة والامداد بالعتاد والمساعدات الاقتصادية قررت الحكومات العربية النفطية وقف امداد النفط للولايات المتحدة الاميركية تجسيداً للبعد العربي للمشاركة في الحرب التي بدأت حرب تحرير وتحولت مع الأسف الى اتجاهات اخرى تتعارض مع الاهداف التي قامت من أجلها. كان على سورية في اطار الاعداد وتوفير احتياجات القوات المسلحة وفق الاتفاق مع القيادة المصرية ان تتبادل الاتصالات مع السوفيات وان تسعى الى طمأنة القيادة السوفياتية وكسب دعمها الى جانب العرب في تصميمهم على استعادة أراضيهم، على ان يكون الدعم في حجم القضية، وان تبنى العلاقات بين سورية والسوفيات في ضوء ما يتطلبه هذا الدعم. ولهذا قام الرئيس حافظ الأسد بزيارة الى الاتحاد السوفياتي في مطلع شباط فبراير 1971 وكان الاستقبال حاراً من القيادة السوفياتية التي كانت ترغب في معرفة سياسة سورية في مرحلة ما بعد السادس عشر من تشرين الثاني 1970. والواقع ان الرئيس حافظ الأسد حرص على زرع الطمأنينة لدى القيادة السوفياتية وعلى التأكيد ان التغيير لا يستهدف جوهر الاهداف السورية القائمة على مقاومة الهيمنة الغربية وتحقيق الوحدة العربية وتحرير الاراضي المحتلة، وإنما يستهدف خلق الظروف المناسبة لتحقيق ذلك. وقد نجح الرئيس الأسد في كسب ثقة وتعاطف القيادة السوفياتية بعد ان لاحظت ان السياسة الجديدة لسورية باتت أكثر واقعية وأقل إحراجاً للسوفيات، الذين كانوا يرغبون في رؤية عمل أكثر في مقاومة النفوذ الأميركي وشعارات أقل. وحرصت القيادة السوفياتية آنذاك على التأكد من أمرين: 1- هل يريد الشعب السوري الحرب؟ وهل هو جاهز لتحمل نتائجها؟ وكان الرد السوري حاسماً بأن قضية التحرير قضية رئيسة لكل مواطن، ومن الاستحالة تجاوزها لأنها ترتبط بالمصير والكرامة والحقوق من جهة ولأن مطامع الصهيونية لن تقف عند حدود معينة بسبب سعي اسرائيل الى توسع جديد من جهة ثانية. 2- هل سورية مطمئنة الى موقف مصر؟ وهل الرئيس المصري أنور السادات جاد بشن الحرب الى جانب سورية؟ وكان الجواب قاطعاً بأن مصر منخرطة في الحرب ولا تستطيع الخروج منها. لقد أوضح الرئيس حافظ الأسد للقيادة السوفياتية ان خيار الحرب هو الأكثر احتمالاً بعد اخفاق جهود الوسيط الدولي يارنغ، الذي قبلت مصر جهوده، وإخفاق المبادرة الاميركية مبادرة روجرز التي قبلتها مصر، موضحاً ما يلي: 1- ان القوات الاسرائىلية تبعد عن دمشق عاصمة سورية أقل من سبعين كيلومتراً، وهذا الامر يشكل قلقاً ليس للسوريين فحسب وإنما للعرب جميعاً بسبب ما لدمشق في تاريخهم من مكانة وما يعني ان تكون قوات اسرائىل قريبة من العاصمة السورية مثل هذه المسافة. 2- ان القوات الاسرائىلية تحتل سيناء، وتغلق قناة السويس، وتضع يدها على نفط مصر، ومن المستحيل ان يبقى هذا الوضع هكذا ولا تتحرك مصر لتحرير ارضها بالحرب بعد ان أخفقت مساعيها السياسية. لقد وعد السوفيات آنذاك بتقديم الدعم العسكري والعون الاقتصادي لكل من سورية ومصر، وانتهت الزيارة بتحقيق آفاق جديدة في العلاقات بيننا وبين الاتحاد السوفياتي. واستمرت اللقاءات بين كل من مصر وسورية مع الاتحاد السوفياتي، وتم تنشيط توريد المساعدات العسكرية الى البلدين، ولكن القاء الأهم كان في الاول من ايار مايو 1973 بعد ان اتفقت سورية ومصر على تحديد موعد بدء العمليات العسكرية، وكانت الضرورة تقضي بابلاغ القيادة السوفياتية قرار البلدين، وطلب الدعم السياسي منها من جهة وتوفير الاحتياجات العسكرية التي يتطلبها تطور العمليات القتالية من جهة ثانية. وتم ترتيب الزيارة في الاول من ايار 1973 التي قام بها الرئيس حافظ الأسد بصورة سرية وقد رافقته خلالها. بعد أن تحدث الرئيس الأسد عن الاحتلال والقلق من تحوله الى أمر واقع، وبعد أن أنهت سورية ومصر استعداداتهما، أعلن أن الدولتين العربيتين قررتا شن حرب التحرير في موعد قريب، قبل نهاية أيار الحالي. صُعقت القيادة السوفياتية، وبدا الارتباك واضحاً على وجوه بريجنيف وبودغورني وكوسيغين وغروميكو وغريشكو وزير الدفاع. واشتركوا جميعهم في الحديث والتساؤل: "كيف اتخذتم هذا القرار؟ وهل أنتم مستعدون له؟ وهل حسبتم الاحتمالات كلها؟ وهل أنتم مطمئنون الى أن ضربة أخرى قاسية لن تصيب العرب؟". أجاب الرئيس حافظ الأسد: "ليس أمامنا خيار آخر، لقد قمنا بكل ما نستطيع القيام به، وجئت اليكم باسم سورية ومصر لأطلعكم من جهة ومن أجل توفير ما يمكن ان نحتاجه من عتاد وسلاح خلال العمليات القتالية من جهة أخرى". قال بريجنيف: "هذا قراركم وأنتم تتحملون مسؤوليته، ولكن هل قدرتم الوضع الدولي؟ إن قراركم سيخرب اللقاء الذي سيتم بيني وبين نيكسون في شهر حزيران القادم، وذلك سيكون خسارة لكم ولنا ولسياسة الانفراج الدولي". استمر النقاش بضع ساعات، وفي اجتماعات كهذه يدرك المرء كيف تكون الشعوب الصغيرة قادرة على وضع الدول الكبرى في حالات من الحرج والتأزم. لقد رأى السوفيات في تلك الساعات القليلة انهيار استراتيجيتهم في تحقيق الانفراج الدولي من زاوية لم تكن داخلة في حساباتهم، وهذا الانهيار سيعيد العالم الى تصعيد حالة التوتر بين القوتين العظميين بعد أن سارتا خطوات نحو الانفراج في ظل رئاسة نيكسون للولايات المتحدة الأميركية. كان الموقف محرجاً للقيادة السوفياتية ولنا، فإطلاق الحرب دون موافقتهم مشكلة كبيرة بالنسبة الى الجانب العربي، والتراجع عنها مشكلة أكبر لأن ذلك يعني صعوبة الخروج عن دائرة الاتحاد السوفياتي في كل القرارات المصيرية المتعلقة بالمنطقة وبالتالي وضع المنطقة تحت تصرف العلاقات الأميركية - السوفياتية، وهذا أمر لم يكن وارداً أن نوافق عليه في يوم من الأيام. لقد تصرف الرئيس حافظ الأسد آنذاك بمسؤولية كبيرة، فأصر على أن الحرب مسألة محسومة وليست قابلة للنقاش، ولكن يمكن النقاش مع مصر لتأجيلها حيث تكون في شهر آب اغسطس أو أيلول سبتمبر مع الإلحاح على زيادة وتيرة شحن العتاد والسلاح الى البلدين وفق الاتفاقات القائمة. عندها انفرجت أسارير القيادة السوفياتية، وتغير جو المناقشات وأبدى بريجنيف ارتياحه لهذا الموقف المسؤول الذي حال دون انهيار سياسة الانفراج، ورحب بالاقتراح السوري ووعد بتقديم العون المطلوب. وهكذا حقق الجانب العربي الدعم السوفياتي للحرب من جهة، وحقق السوفيات التأجيل لتوفير مناخ أكثر هدوءاً للقاء بريجنيف بالرئيس الأميركي نيكسون من جهة أخرى. ... بعد ان تم الاتفاق على موعد بدء العمليات القتالية بين رئيسي سورية ومصر، بدأ العد التنازلي بإعداد القوات وتحضيرها، والتحضير الداخلي والخارجي في كل من القطرين، وكان لا بد من إعلام بعض الدول العربية والاتحاد السوفياتي بتاريخ بدء العمليات القتالية. في الخامس من تشرين الأول اكتوبر عام 1973 استقبل الرئيس حافظ الأسد السفير السوفياتي في دمشق السيد نور الدين محيي الدينوف وأبلغه أن سورية ومصر ستقومان في وقت قريب جداً بعمل عسكري يستهدف تحرير الأرض التي احتلت في حزيران 1967، هذا العمل الذي كان يجب ان تقوما به في أيار الماضي، والذي تم تأجيله بناءً على طلب القادة السوفيات. ولذلك، فإني أود أن تبلغ قيادة الاتحاد السوفياتي بالموقف، ونرجو أن يتم ما يلي: - أن يبادر الاتحاد السوفياتي فوراً الى الإسراع بشحن الأسلحة المتفق عليها في ما بيننا مع ذخائرها، وأن يدرس وسائل إمدادنا في حالة إغلاق المرافئ السورية. - أما الأمر الثاني الذي نطلبه فهو الدعم والتغطية السياسية عندما نصل الى مرحلة معينة من القتال بتحقيق خطتنا العسكرية وذلك بوصولنا الى استعادة الجولان وبوصول مصر الى استعادة القسم الأهم من سيناء، وهو ممرات سيناء فنرجو أن يبادر الاتحاد السوفياتي الى دعوة مجلس الأمن لاتخاذ القرارات المناسبة التي تدعم موقفنا. وفي صباح السادس من تشرين الأول استدعى الرئيس حافظ الأسد السفير العراقي في دمشق وحمّله رسالة الى الرئيس أحمد حسن البكر حول قرارنا ببدء القتال والطلب الى الحكومة العراقية اتخاذ الاجراءات التي من شأنها دفع القوات العراقية لأخذ مكانها في ساحة المعركة. كما وجه الرئيسان السوري والمصري رسائل الى القيادة السوفياتية ورؤساء الدول في معظم أنحاء العالم يشرحان فيها العدوان الاسرائيلي المتمادي على العرب والموقف الراهن للدفاع عن النفس وتحرير الأرض. وفي الأيام الأولى من بدء القتال سارت الأمور وفق الخطة العسكرية والسياسية المتفق عليها بين قيادتي البلدين، ولكن بعد ذلك حدث ما يلي: 1 - لم يتم تنسيق العمليات وتبادل المعلومات خلال العمليات القتالية وفق الخطة المتفق عليها، والعمل الوحيد الذي نُفذ بقرار مشترك هو ساعة الصفر وبدء العمليات العسكرية. 2 - كانت الخطة العسكرية الموضوعة من القيادة العسكرية الموحدة، والموقعة من رئيسي البلدين، تقضي بأن تتقدم القوات المصرية وتجتاز القناة ولا تقف إلا بعد الاستيلاء على الممرات، وأن تتقدم القوات السورية لتحرير كامل الجولان، وإذا برزت تطورات أخرى يستمر القتال مهما كانت النتائج حتى بلوغ الأهداف بتحرير الأراضي المحتلة. تمكنت القوات المصرية من اجتياز القناة وتوقفت مكشوفة أمام طيران العدو ومدفعيته، بينما كان يجدر بها أن تتابع التقدم وتقديم وسائل الدفاع الجوي الى الأمام لتتابع تقدم القوات، ذلك أن من شأن هذا التقدم أن يوفر الأمن للقوات المصرية بالإضافة الى كونه جزءاً من تنفيذ الخطة العسكرية المتفق عليها. 3 - تقدمت القوات السورية في الهضبة المحتلة وحققت قسماً كبيراً من المهام الموكولة اليها، ولكن بعد توقف القوات المصرية وإدراك الاسرائيليين أن المصريين لن يتابعوا تقدمهم، ركز الاسرائيليون جهودهم على الجبهة السورية ولا سيما الجهد الجوي، حيث تجاوزت طلعات الطيران ألف طلعة في اليوم، وحقق الاسرائيليون تقدماً في هذه الجبهة في الوقت الذي كانوا يعملون لخرق الجبهة المصرية واجتياز القناة ومحاصرة بعض القوات المصرية. 4 - إسراع الولاياتالمتحدة بتقديم الدعم العسكري لإسرائيل من موجوداتها في أوروبا والضغط السياسي من أجل تجنيب اسرائيل هزيمة كانت محققة. 5 - فوجئت سورية بالاتفاق الأميركي - السوفياتي لوقف اطلاق النار في الثاني والعشرين من تشرين الأول. 6 - بات واضحاً ان اضطراباً ساد مرحلة القتال رافقه غياب التنسيق المفترض على الساحتين العسكرية والسياسية. في اليوم الأول لبدء القتال أرسل الرئيس المصري برقية الى الرئيس السوري يسأله فيها عما إذا كانت سورية طلبت من الاتحاد السوفياتي العمل على وقف القتال. فأجابه الرئيس الأسد في اليوم التالي بعدم صحة ذلك وأننا مستمرون في تنفيذ الخطة المتفق عليها. وكان المفروض بالرئيس السادات أن يدرك عدم صحة ذلك، فلماذا نطلب وقف اطلاق النار والحرب لا تزال في ساعاتها الأولى؟ وفي اليوم الأول أطلق الرئيس المصري مبادرة سلمية كانت من وجهة نظره جزءاً من الحملة السياسية لإحراج اسرائيل أمام الرأي العام الدولي، ولكن سلبيتها ان سورية فوجئت بها من جهة، ومن جهة ثانية فقد توقعنا أن يكون لها تأثير سلبي على معنويات المقاتلين الذين كان من المقدر ان يتساءلوا: ما دام السلم قادماً، فلماذا التضحية حتى الموت؟ 7 - رغم الاتفاق على الاستمرار في القتال، إلا أن الخرق الاسرائيلي للجبهة المصرية واجتياز قناة السويس الى الضفة الغربية أحدثا اضطراباً في موقف مصر السياسي والعسكري. وارتبك الرئيس المصري فهو لم يتولّ قيادة العمليات القتالية، كما أنه لم يترك الفرصة والحرية لقيادته العسكرية للتعامل مع وقائع القتال، وأخذ يوجه النداءات الى الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة من أجل التدخل لوقف الحرب. وفي صباح العشرين من تشرين الأول وجه الرئيس أنور السادات البرقية التالية الى الرئيس حافظ الأسد: "يتطور الموقف بصورة خطيرة على جبهتنا. اتضح لي في العشرة أيام الأخيرة أنني أحارب أميركا ولست أستطيع أن أتحمل المسؤولية التاريخية لتدمير قوتي مرة واحدة لذلك أخطرت روسيا بقبول وقف القتال على الخطوط الحالية بالشروط التالية: أولاً: ضمان روسيا وأميركا لانسحاب اسرائيل كما عرضته روسيا. ثانياً: بدء مؤتمر السلام في الأممالمتحدة وعقد تسوية شاملة كما عرضت روسيا. ان قلبي ليقطر دماً وأنا أخبرك بهذا. ولأن مسؤوليتي تحتم عليّ اتخاذ هذا القرار فسوف أواجه أمتنا في الوقت المناسب لكي يحاسبني الشعب". وقد رد الرئيس حافظ الأسد بالبرقية التالية: "تلقيت برقيتكم وكانت مؤثرة جداً. أخي الرئيس، حاولت بعد وصول برقيتكم ان أمعن النظر مرة أخرى في الموقف العسكري على الجبهة الغربية وعلى ضفتي القناة، ووصلت الى استنتاج وهو أن الوضع لا يدعو الى التشاؤم، وأنه بالإمكان أن يستمر الصراع مع القوات المعادية سواء منها تلك التي اجتازت القناة الى الضفة الغربية أو تلك الموجودة أمام قواتنا على الضفة الشرقية أملاً في استمرار الأعمال القتالية وتطويرها حتى تدمير القوات المعادية التي عبرت القناة. اخي الرئيس، قد يكون من الضروري رفع معنويات اخواننا العسكريين، ومجرد خرق العدو للجبهة لا يعني ان النصر اصبح حليفهم فلقد خرقت الجبهة الشمالية منذ ايام ولكن الصمود مستمر والقتال عنيف في الخطوط والمواقع المختلفة، الأمر الذي يوفر لنا مزيداً من التفاؤل يوماً بعد يوم، فقد اوقفنا الخرق عند مواقع معينة، وأنا واثق من اننا سنستعيد منطقة الخرق خلال الأيام المقبلة. وفي تقديري ان المهم بالنسبة إلينا ان تصمد جيوشنا بمعنويات عالية. اخي الرئيس، لا يخامرني شك في انك تثق بي وبأني اتكلم بروح المسؤولية فقط ولا سيما اننا نجتاز اكثر اللحظات دقة وحراجة. ومن هنا كان علي ان ارسل لكم رأيي بعد ان فكرت جيداً في الأمر وبعد ان اعدت تدقيق الموقف العربي العام وعلى الجبهة الغربية بشكل خاص". لقد شكل الموقف المصري تطوراً سياسياً وعسكرياً هاماً في المواجهة العسكرية والسياسية. وجاء هذا التطور بعد ان اخذت القوات العربية مواقعها في جبهات القتال، وبغض النظر عن حجم هذه المشاركة العسكرية إلا انها اعطت الحرب ابعادها التضامنية العربية بصورة جيدة. كان المغرب قد ارسل بعض قواته الى سورية قبل الحرب ببضعة اشهر، ثم شاركت السعودية والكويت والجزائر بقوات على جبهتي القتال، اضافة الى إرسال العراق بعض طائراته الى مصر وبعض قواته الى سورية، التي تحركت في اليوم الثاني من بدء القتال ولكن إرهاقها بالسفر مسافات بعيدة لم يوفر لها ما كان يمكن ان تتوخاه من المشاركة. ولا شك ان استمرار القتال كان سيضع الحكومات العربية المشاركة امام مسؤوليات تعادل مسؤولية المشاركة في الحرب، كما انها كانت ستدفع بقواتها ومواردها لإمداد الحرب التي اصبحت شريكة مباشرة فيها. وإلى جانب المشاركة العسكرية العربية كانت هناك مشاركة اخرى كشفت حجم قدرة العرب في التأثير في الساحة الدولية، كما كشفت الطاقات الهائلة التي تزخر بها الأمة العربية. ففي الثامن عشر من تشرين الأول اتخذ وزراء النفط العرب القرار التاريخي التالي: "بما ان الهدف المباشر للمعركة هو تحرير الأراضي العربية واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبما ان اميركا هي المصدر الرئيس الأول لقوة اسرائيل، وبما ان الدول الصناعية الكبرى تسهم باستمرار الوضع، وبما ان الوضع الاقتصادي لكثير من دول النفط العربية لا يبرر زيادة انتاجها، قرر المجتمعون ان يتناقص الإنتاج فوراً بنسبة شهرية مكررة لا تقل عن خمسة بالمئة على اساس انتاج ايلول ويستمر التخفيض حتى تفرض المجموعة الدولية على اسرائيل التخلي عن اراضينا المحتلة او ان يصل الإنتاج المخفض في كل دولة على حدة الى الحد الذي لا يسمح معها اقتصادها بمزيد من التخفيض من دون الإخلال بواجباتها المحلية والعربية. إن الدول التي تساند العرب او تتخذ اجراءات فعالة عملية ضد اسرائيل يستمر تزويدها بالنفط كسابق عهدها. ويوصي المؤتمر ان تنال اميركا اكبر تخفيض حسب استيرادها من كل دولة على حدة، وأن يؤدي ذلك الى خفض امدادات النفط الى اميركا من كل دولة على حدة منفذة لهذا القرار". شكل ذلك القرار في تقديري جزءاً اساسياً جداً من الحرب الشاملة التي اطلقتها حرب تشرين ومن المشاركة الشاملة للحكومات العربية التي وضعت نفسها وجهاً لوجه امام الولاياتالمتحدة الأميركية. لقد ارتبك الاقتصاد العالمي، وبدأت هزة اقتصادية في العالم الغربي، كما اخذت ضائقة النفط تضغط في الولاياتالمتحدة والدول الأخرى. وكانت اهمية هذا القرار انه كان موجهاً ضد الولاياتالمتحدة ليصيب هدفاً رئيساً من اهدافها الاستراتيجية، وهو النفط، ذلك انها كانت على استعداد لمواجهة الاتحاد السوفياتي او اي قوة اخرى إذا تعرض النفط لخطر الوقف. إذاً، كان تشرين الأول عام 1973 شهراً استثنائياً في التاريخ العربي المعاصر، بمقدار ما كشف عن القدرات الهائلة الكامنة في الأمة العربية، كما كشف العجز في استثمار هذه القدرات وفي توظيفها لمصلحة الأمة. ومن الأمانة الاعتراف بأن سبب العجز الرئيسي التفرد في القرار والفردية في السياسة. فقد كان قرار الحرب قراراً عربياً، فإذا بقرار وقفها يصبح قراراً فردياً اتخذه الرئيس المصري وأصبح امراً واقعاً بالنسبة الى العرب وفي مقدمتهم سورية. صحيح ان التوجه نحو السلم هو توجه عربي، ولكن الانفراد بالحل توصلاً الى تسوية منفردة كان العرب بعيدين منه. لقد اثار هذا الوضع تساؤلاً لدى الحكومات ولدى الرأي العام العربي: هل نحن شركاء او حلفاء او ماذا؟ وإذا كنا شركاء، فلماذا علينا تحمل اعباء المشاركة ولا يكون لنا نصيب في القرار؟ ابتدأ الخطأ منذ الاتفاق الأول بين سورية ومصر، فقد كانت سورية تريد التعاون مع مصر من اجل بناء جسر بين الدولتين الرئيسيتين في المواجهة لتحرير الأرض واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وهي مدركة ان التوجه نحو العمل العسكري من شأنه ان يخلق ظروفاً جديدة في الوطن العربي تساعد على بناء نظام عربي جديد فينطلق العرب انطلاقة جديدة مبنية على وحدة الانتماء ووحدة المصير. بينما كان هدف الرئيس المصري استخدام القوة لتحريك القضية. وعلى رغم الثغرات الكبيرة المرئية آنذاك في الموقف المصري، فإن عامل التوجه نحو حرب التحرير طغى على جميع تلك الثغرات المرئية. كانت اولى هذه الثغرات اخراج الخبراء السوفييات من مصر في وقت كانت تُعد فيه مصر نفسها للحرب وهي غير قادرة على إكمال هذا الإعداد في ظل توتر العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. وكان واضحاً ان السادات يريد تحريك القضية وأن نظيره السوري كان يريد استخدام القوة للتحرير. وبين التحرير والتحريك مسافات شاسعة يجب ألا نفاجأ بعدها بأي موقف تتخذه القيادة المصرية آنذاك. والخطأ الثاني الذي تم ارتكابه هو الانفراد في وقف القتال والانفراد في الفصل بين القوات ثم في التسوية، وهذا الانفراد ابعد العرب عامة وسورية خاصة عن موقع الشريك. كانت فرصة ليس لمصر وحدها، بل للعرب جميعاً، ان تتحول شراكة الأيام القليلة خلال الحرب الى شراكة جديدة بين الحكومات العربية، وكانت هذه الشراكة ستثبت جدواها في السعي الى السلم كما هي مفيدة في السعي الى الحرب. انخرط بعض العرب بالمشاركة في الحرب والمجهود الحربي العام سواء بإرسال قوات او بوقف النفط فتركهم الانفراد يواجهون الضغوط الأميركية. ولكن العجز عن فهم اهمية التكامل والتكافل جعل البعض يقيم حاجزاً حتى تبقى الدول العربية في دائرة المساعدة وتخرج من دائرة الشراكة. وكان لإسرائيل ولأصدقائها مصلحة كبيرة في ان تكون العلاقات العربية قائمة على اساس شكل من التعاون العابر فحسب. * يصدر كتاب عبد الحليم خدام "النظام العربي المعاصر: قراءة الواقع واستشفاف المستقبل"، الأسبوع المقبل عن دار "المركز الثقافي العربي" بيروت - الرباط.