منذ مدة طويلة، ترك الشاعر الفلسطيني المقيم في رام الله، طقوس التفجّع والولولة والخطابة، ليدخل في طقوس الشعر العميقة المؤلمة... طقوس الصرخة الجوانية التي هي غصّة ومرارة، والتي هي أشد انفجاراً لأنها انفجار في الذات، فالألم الصامت أعظم شأناً من الألم الصائت. تجد فلسطين رابضة بكل مهابتها ومذابحها وطيورها المشرّدة وأطفالها الدامين الناضجين في المهد وهم الرجال قبل أوانهم والنساء الصابرات على البليّة... تجد على أصابعه يربض شعب الجبارين، لكن، أيضاً، يتغلغل في داخله وخلايا دمه. الأرض يحملها حقاً، بمقدار ما تحمله بل أكثر. ابتعد غسان زقطان في قصائده الأخيرة الصادرة له حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام 2003 بعنوان "سيرة بالفحم"، ابتعد عن الضفاف المكشوفة والمضيئة للوضوح والغناء اللذين طالما كتبهما جيل القصيدة الفلسطينية الأول والمؤسس من أمثال توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي، وتمثّل أنشودة "أناديكم... أشدّ على أياديكم... وأبوس الأرض تحت نعالكم. وأقول أفديكم" لتوفيق زيّاد النموذج الأبهى لها، كما تمثّل قصيدة "سجّل أنا عربي" وقصيدة "بين ريتا وعيوني بندقية" لمحمود درويش نموذجاً أبهى آخر، يضاف إليه قصيدة "مرفوعة الهامة أمشي..." لسميح القاسم، و"يا عنب الخليل" للمناصرة... نقول ابتعد غسان زقطان عن هذه الضفاف المكشوفة والمضيئة للوضوح والغناء الفلسطيني، ليدخل، أو يكاد يدخل في غابة الرموز المظلمة... وربما حصل، أو بالضرورة قد حصل فاصلٌ ما بينه وبين شعبه الذي يصعب عليه أن يصغي لفداحة الأنين والرموز المبثوثة وسط غابة كثيفة من الاختزال والتَوْرِية ومراوغة الحال والمقال وحِيَل الكتابة الإبداعية التي يصعب على المهمومين والمحاصرين والمسفوح دمهم على كل طريق وجدار، أن ينتبهوا لها. أحسب أن أنين غسان زقطان الموجع وصراخه الجواني، لن يصلا إلا بعد فسحة طويلة من الزمان الى آذان الناس. لنَقُلْ إنه اليوم شاعر غير شعبي كما هو محمود درويش وسميح القاسم. وهي إشكالية أو دراما للشاعر المكتوي جسدياً وفي كل لحظة، بالنار العدوّة، والمفتوح الأذنين والقلب والمسام على صرخات أطفال الحجارة، ونساء المدن والقرى والضفاف، وتفجرات الرجال في الميادين، وانفجار أجسادهم المدوّي بدبابات العدو وتجمعاته... حقاً إنه إشكال ينبغي علينا أن نبدأ به قبل الكلام على قصائد "سيرة بالفحم". ومن البداية، في قصيدة "الرحلة" تبتدئ كابوسية الفعل الحياتي والفعل الشعري في سيرة غسان زقطان. هي سيرة بالفحم، بل سيرة سوداوية... حيث يتكئ فيها الشاعر على أيامه، ويتأمل خزائن الموتى وطيورهم المحنطة المملوءة بالنسيان. والأمر كله كما يقول "يشبه النوم في غرف الميتين"... فالنوم في غرف الميتين، لا يمكن صاحبه أن يكون نوماً إيقاعياً أو موزوناً، بل هو نوم أشلاء ونثر مخاوف... لذا فإن غسان زقطان يكسر في القصيدة الوزن وينثر كوابيسه نثراً كعظام في المقابر. أهي قصيدة نثر ما يكتبه هنا وفي قصائد أخرى في الديوان؟ بين لا ونعم. هي ذاكرة مطعونة، والإنشاء المنبثق عنها، مطعون بدوره... متلعثم. يقول، قالباً ترتيب الجملة: "ممتلئة بأخطائهم الطرق التي أذرعها هذه الصبيحة.../ من أنت لتتذكر وترى/ العابر متمهّلاً في أحجيات الآخرين وعجائبهم". ثم لا يدعك مستسلماً للرومانسية، بل يقذف بك في أتون الجحيم دفعة واحدة: "ضيوفي عشرة عميان/ يتوكأون على الليل/ بيضاً من العمى/ يحيطون بنومتي/ بينما كلب أسود يتنفس فيهم". وفي قصيدة "رفقة الملكة" يوالي الشاعر التذكر بين السرد والتوقيع، ويبقّع الذاكرة ببقع دكناء، ثمة ما يسميه، "التوجس من ضحكة الضبع في انحدار الطريق" و"الطائر المسترد من النوم أعمى ومستوحش"... فإن في اللجوء الى مفردات العمى والوحشة والضباع والكلاب السود، ما يجعل النفس خاوية كالخرابة، والتذكُّر طائراً يطير بلا ظل "وهو أعمى ومستوحش" - من جديد - كما في آخر شوط القصيدة. لا يلجأ غسان زقطان في قصائده الى المفردات العامة... على الأقل في النصف الأول من الديوان، فهو، منفرد وذاتي، وقصائده تدور في ذاته، حتى ولو تناولت الجبل والأخدود والخيول والذئاب، وكل ما يدخل في دائرة الشعر. إنه في قصيدة "الجَبَل"، يصعد مغطّى بغبار الليل، متبوعاً بمن شيّعهم، وهو لا يتبع أحداً. "كالمفرد/ كثّرتُ الوقتَ / وقسّمت النعمةَ والنوم". وتتوافد عليه الكلمات والجمل وكأنها تهلّ من سويداء اللاوعي... وكأنها لا يصعد جبلاً على الأرض، بل يصعد جبلاً في نفسه. وكالعادة، وبفنتازيا شعرية، تتوافد إليه "ضباع كانت تضحك"، وترتسم دروبه "بضحكات الضبع وتعويذة أنثاهُ". وفي القصيدة لعب حاذق على اللغة، والوزن، والصيغة "لا العشب ولا خطّار الليل... ولا الطير المرزوق بنيته... لا الزاهدُ لا الغالبة بفتنة حجتها/ لا العابر لا المغلوب ولا النبّاحُ وراء الفلكِ/ ... وثمّة أنت". هذا الحشد الهذياني يتتابع في مرثية "خيول سوداء"، حيث يربّي الشاعر أشباحه ويطعمها، ويعايشها ويرافقها بينما هي تصعد سلالم البيت ومنحنياته. وحيث ثمّة "حشد هذياني"، فإن اللغة الشعرية تتناسل من نفسها، وتتوالد بآلية سريالية يكتنفها الغموض الضروري لمثل هذه الكتابة. فما معنى، مثلاً، المقطع التالي من قصيدة "صيحة فوق الحرش": "في العتمة بيت/ منهمك بمشاغل موتاهُ/ المنهمكين بنقل نواياهم في القوس"؟ ثم ما معنى، أيضاً، قوله في قصيدة "الأخدود": "عجيبةٌ أيام الملح/ كأنها لسوانا/ ومثل مأساة محكمة/ اكتملت للتوّ/ يبدأون بالتنفّس إذ نتذكرها". ولربما السؤال عن المعنى في الشعر الحديث، كشعر غسان زقطان، يبدو أو يطرح كسؤال موارب. المعنى؟ المعاني كما قال أبونا الجاحظ "مطروحة على الطريق" وهي مباحة لكل عابر سبيل. أما الكيف، الصيغة، الصورة، الحيلة الشعرية، الأسلوب، فهي التي يطرح حولها السؤال. لذا فالغموض الناشر أجنحته وظلاله على صنيع غسان زقطان، يوقعك في حال من غموض موازٍ له أو مشابه. أنت تسأل نفسك عن عجيبة أيام الملح مثلاً... ما هي؟ وترى أن الانطباع الأول حسي ذوقي، هو طعم الملح... ولكن لماذا "كأنها لسوانا"؟ ثمّ: البيت المنشغل بمشاغل موتاه، هو بيت ما، مؤكد، وربما أشرنا إليه بالإصبع نقول: هذا هو لكن كيف ينشغل الموتى بنقل نياتهم في القوس؟ حسناً... قلنا إن الغموض يسربل هذا النسيج، ولعل الكلمات التي تتناسل من بعضها تتشكل في النتيجة في ما يشبه شبكة صورية لغوية ايقاعية أو سردية نثرية... ولا تترك أكثر من انطباع. "اتبع الرائحة يا ضبعُ/ يا أبانا/ الضاحكَ/ في/ الوديان". هذا ما يختم به غسان زقطان قصيدته المسماة "اتبع الرائحة". وباتباع الرائحة ذاتها في شعر زقطان، سنجد أنفسنا نمشي في ظلال بين نقاط الضوء القليلة والسواد الحالك... تارة تتغلب كمية الضوء فتبين ملامح مشهد ما أو صورة، وطوراً يحلو لك الظل ويطمس المشهد أو يعميه. فإذا كان الضوء يضيء "طريقاً من أكفانٍ بيضاء" في قصيدة "عربات في العتمة"، فما دور "الحصائر الزرقاء" التي تلي الأكفان البيضاء؟ "لن يبصر طرّاق الليل يداً/ ستؤشّر نحو جنوبٍ منخفضٍ في الظلّ/ طريق من أكفانٍ بيضٍ/ وحصائر زرقاء". أهو تداعي اللون وتناسله أم فنتازيا الصورة؟ كذلك أيضاً، وفي القصيدة عينها، قوله: "أيقظ أبناءك يا أبتِ/ سوف يميل الحلم بهم/ وسينقر دفٌّ / في العاشرة تماماً/ في المنحدر/ ويصعد من أقصاه المعتم/ رفّ ذئاب". نقول إن هذا المقطع مقطع صُوَري مظلم... إنه بقعة معتمة يسلّط عليها الشاعر ضوءاً خفيفاً ولا يظهر من كامل المشهد سوى انطباع صوتي: نقر دفّ، وانطباع صوري: رفّ ذئاب في منحدر. إن تقنية غسان زقطان الشعرية تظهر جلية بل نموذجية في قصيدة "ذئاب"، والملاحظة الأولى هي أنه لا صلة للذئاب كمفردة أو كعنوان، بجسد القصيدة. بل ثمة ما يشبه البراءة المعبّر عنها بالبياض، يفتتح الشاعر به القصيدة: "هجرة الطير عن قلبه/ تترك السهلَ أبيض/ حين الحكاية بيضاء/ والنوم أبيض/ والصمت أيقونة للمنادي". وما يلي، لا يخرج عمّا ذكرنا: "... لو تشعل الضوء أو تكتفي بالجلوس/ انتبه للثمار على الأرض".../ "صوتك في غرفتي يربك الصمتَ/ صمت الأواني/ وصمت الرفوف/ وصمت الكتابة/ صمت الإضاءةِ/ صمت البقاء...". نحن نبحث عن الذئاب في خلايا النص وصوره، فلا نعثر على ما يشبهها أو يحقق صورتها. والتقنية الشعرية بكاملها، تتكرر مقطعاً فمقطعاً في القصيدة وتنسحب على سائر قصائد زقطان، وهي على الصورة الآتية: الصورة - تنتج انطباعاً - ينتج تهيؤاً - ينتج مناخاً. فالشعر في كنهه هنا صُوَر مركبة تولّد مناخات نفسية أو وجدانية أو تأملية. لو قرّبنا شعر غسان زقطان في "سيرة بالفحم" من الفن التشكيلي، لوجدنا أنه أقرب الى التعبيرية منه الى الانطباعية، فهو تعبير وليس انطباعياً، والتعبيرية تتحمل الرمز والإشارة والجنوح الى السريالية وربما الفنتازية، في حين أن الانطباعية تسبح في مناخ الواقعية والوصفية والإنشائية. وهو ما يفترق فيه زقطان عن عدد من شعراء فلسطين الانطباعيين أو المباشرين، حيث الصرخة السياسية تجلجل في مدى شعبي هائج... وحيث يسمّى كل شيء باسمه. لكن هذه التعبيرية ينزاح عنها الشاعر أحياناً، خصوصاً في الجزء الثاني من الديوان المسمى "سيرة بالفحم". إنه يأخذ من محمود درويش عذوبة الإيماءة حيث يقول: "يأتي العدوّ ليشرب من شاينا في المساءِ/ ويسند غدارةً للجدار...". ويشير لدرويشيته في هذا المقطع حيث يقول: "القصيدة كانت لدرويش/ هل قال: غدارة في القصيدة أم بندقيّة؟". صحيح أنه، مثلما قال لي غسان يوم جلسنا معاً في كافالا في اليونان، ذات عشية من عشايا الصيف الماضي، على شاطئ البحر: كل سنتيمتر من فلسطين معقّد. الوطن صعب ومعقّد. الأرض ملغومة. القوى العدوّة هائلة ولا تطاق. الدماء غزيرة... لم يعد في إمكان فلسطين أن تكون غنائية. إنها درامية وسريالية... لكنه لم يستطع أن يكون كذلك في كل قصائد ديوانه، فإنه في قصائد الأشخاص والأماكن والمدن مثل "أحمد العوضي" والكرامة 1965 وعمان 1966 وعمان 1975 ودمشق 1986 وبيروت 1982 وتونس 1992 وتونس 1994 ورام الله 2000 وبيرزيت 1998، تجده يميل الى التسجيل والتذكّر وأحياناً السرد النثري... وحين يكون هادئاً فهدوؤه مريب. لكنه يدفق سويداء قلبه بكاملها في قصيدته الأخيرة "الخروج من دمشق الشام" الى أين... والتي يبدأها: "تركنا دمشق على حالها"... * شاعر لبناني.