يبدو عبدالمنعم رمضان في مجموعته الشعرية الأخيرة "غريب على العائلة" دار توبقال، المغرب، 2000 وارثاً حقيقياً لبعض افضل تقاليد القصيدة الإيقاعية، تلك التي تميل الى التخفيف من حدة الوزن وقلة مرونة التفعيلة وإلى اللجوء الى خيارات اسلوبية متنوعة تجعل من قصيدته حقلاً خاصاً يمكن ان يطوّره ويغذّيه بتجديد هذه التقاليد ومحاولة إعطائها جرعة شعرية اضافية تزيد من رشاقتها وحيويتها وتعزّز فرص بقائها الى جوار ما يكتبه من قصائد نثر وبكيفيات ومقاربات متنوعة وكثيرة الأسماء والتجارب. لا شك في ان ما يفعله رمضان، وما فعله قبله شعراء آخرون، ظلوا مخلصين للوزن بمعناه العام والواسع ومحكومين بسقفه الشعري غير الحر تماماً على رغم تسميته بالشعر الحر، امر يمكنه النظر إليه بوجهات نظر متعددة، وربما يكون اهمها الحياة الإضافية التي يوفرها سلوك هؤلاء الشعري لقصيدة التفعيلة التي تشكو منذ نشوئها من التعارض القدري بين متطلبات الإيقاع الصارمة وقواعده وبين حركية ارتيادات المعنى وحرية الكتابة ورحابة مخيلتها. هذا التعارض الذي أطاحه رواد التفعيلة انفسهم حين كان يتحكم بعمود الشعر العربي. الأرجح ان جزءاً غير قليل مما فعلوه يكمن في التخفيف من حضور هذ التعارض وليس في التخلص منه نهائياً، وربما كانت قصيدة النثر هي التي أكملت هذا الفعل الذي ظل ناقصاً على رغم التجديد المفصلي الذي لحق بالنموذج الذي طرحه الرواد لشعرهم الجديد، بل ان هذا التجديد الذي اضطلع بإطلاقه وتطويره شعراء مثل سعدي يوسف ومحمود درويش، وأدونيس ولاحقاً نزيه أبو عفش وغسان زقطان وشوقي بزيع... الخ، تحقق القسم الأكبر منه بالاستثمار الذي قام به هؤلاء في مناخات النثر وإمكاناته واحتمالاته. لقد طوّع هؤلاء وغيرهم الاحتياط الضخم لعلاقات النثر والهُجنة التي وسمت النثر العربي نفسه بسبب الترجمة وتأثيراتها لمصلحة قصيدتهم وتجربتهم. حتى ان جزءاً لا يستهان به من مشروع درويش الشعري الراهن يقوم على هذا الاستثمار مثلاً. عبدالمنعم رمضان، ومن دون اللجوء الى شرح طويل ليس هنا مكانه، وبالإحالة الى الملاحظات المبدئية السابقة، واحد من هؤلاء، واحد من سلالة المنهمكين بهذه التجربة التي يمكن تلخيصها بالوفاء للتقليد الشعري أو لبقاياه الأكثر حميمية أو لما يذكر بطعمه ونكهته التي لا يستطيع الشاعر ان يتجنب تأثيرها، أو التخلي عن سطوتها ونفوذها الطويلين، إضافة الى أهمية اللحاق بالتجديد الذي تقترحه الكتابة الشعرية العربية والاختبارات المستمرة التي تتعرّض إليها على أيدي الشعراء الشبان الذين يُظهرون جرأة واضحة في تخطّي التقاليد وبقاياها ايضاً، والذين اخذ بعضهم القصيدة الى النثر المحض والى شحناته السردية والحكائية الأولية وإلى الاحتفاء بمخيلة النثر العادي وبداهاته. وهذا ما يجعلنا نعي، مثلاً، الاحترام أو الإعجاب الذي يبديه رمضان بأدونيس والإشادة التي يرددها ادونيس بدوره برمضان، حتى ان رمضان لا يتوانى عن الإفصاح عن ذلك في شعره ايضاً فيوجه تحية لكتاب "مفرد بصيغة الجمع". رمضان لا يقلّد طبعاً بل يثير الدهشة احياناً ويقدم، في الوقت نفسه، اطروحته الشعرية المطبوعة بنفسٍ شخصي صريح وواضح وُضع في رطار نصّي أوسع من مساحة هذا النفس ومداه الطبيعي. وهذا ما يجعل هذا النص مزيجاً من سيرة ذاتية للقول الشعري ومن سيرة اخرى أعم وأشمل هي سيرة هذا النوع من الشعر تحديداً. فعلى رغم ان شعر رمضان ليس نسخة عن هذا الشعر إلا انه، على الأرجح، إحدى طبعاته التي لفرط ما نُقّحت وجُدّدت ما عادت تذكّر إلا بصعوبة، ولكن بوضوح، بالنسخة الأصلية. ليست هذه هي الصفة الوحيدة أو الطاغية لصنيع رمضان الشعري. بل ان ثنائيات اخرى تحكم منطق كتابته التي تليق بها صفة "المزيج" على اكثر من مستوى داخلي وخارجي. فهي مزيج من كتابة نثرية ووزنية ومزيج من بداهة نثرية طليقة ومن تكتيك ايقاعي حاسم، ومزيج من ايحاء يومي ومن مناخات ما سُمّي بقصيدة الرؤيا والحدس، ومزيج من ادعاء نبرة خافتة ومن تصويت أدائي عال... الخ. هذا، على اي حال، قد يكون خاصية لصيقة بكتابة تحمل انشقاقاً أسلوبياً في مبدأ تأليفها وإنشائها، ولكن ازاء ذلك لا بد من القول ان هذا الانشقاق في تجربة عبدالمنعم رمضان يتسم بالشفافية والثراء والطرافة وبالكثير من المهارة في فهم الحال الشعرية وصوغ شكل القصيدة الى درجة انه يصعب فصل هذا المزيج الشعري المتماسك والمتجانس إلا على سبيل الافتراض التطبيقي، بل ان هذا المزيج يكاد يشكّل ترجيحاً حاسماً لأهمية ما يكتبه رمضان. إنه يكتب القصيدة الموقعة والمدورة ويكتب النثر والنص بالقابلية والاستعداد نفسهما. فقد يكتب تحت عنوان "نساء الخليل بن احمد المرحات" نصاً نثرياً طويلاً تحت ظلال مؤسس علم العروض وواضع بحوره وأوزانه، وقد يكتب قصيدة مدوّرة صارمة التقسيم الإيقاعي ويهديها الى جورج حنين مثلاً. كما انه قادر على الانتقال بين اساليب شتى، المجرّبة منها والجديدة، غير عابئ في كل ذلك إلا بما تمليه عليه السليقة والتجربة في تعزيز معنى القصيدة وشكلها واستعارتها النهائية. قد يكتب بنبرة عالية وتطريبية قصيدة تشتمل أو تتكون من سينوغرافيا يومية يكتبها آخرون غيره بالإعلاء من شأن السرد والثرثرة والمجانية وبانعدام البلاغة وطرد اللغة واستبدالها بالكلام الدارج والمفصّل كما هو الحال في قصيدة بورتريه للسيدة التي غطت رأسها بالظل أو دُرّية: "يقف الشاعر قرب الشرفة/ خلف الشاعر تستندُ البنتُ الفائرةُ الى منضدةٍ/ كان غبارٌ ينتفُ ذقن النور المائل نحو الحائطِ/ عند الركن التلفزيون/ على إفريز الشاشة ارقام تائهة/ في المنتصف تماماً سيدة مسدلة الشعر الى الكتفين/ الجنب الأيسر يكشف كلّ الأذن وكل الخد وكل العين/الجنب الأيمن يخفي بعض خلاء الأشياء السالفة/ القرطان يلوحان كقرصانين اكتفيا بأن ينجذبا نحو العنق/ رفيف العقد قريب يسمعه الثديان/ على قاعدة العقد إله فرعوني يملأ مفترق الثديين/ الثوب الأسود كاف كي ينقطع الصوت ويبدأ في التهجئة/ الساق الواحدة الساقان الواحدتان تمران الى اعلى/ عند الركبة تلتفُّ الأنهار ورائحة الشمع المصهور ويبدأ طرف الثوبِ...". هذا فوتوغراف لغوي بالطبع ولكن الشاعر ينجح في تأليفه وتصويره برهافة وترف. قد يشعر القارئ ان المعنى يمكن ان يقال بغير هذا التطريب وبغير هذا الإيقاع المدور، وقد يشعر بأن ذلك افضل وأيسر من دون بذل كل هذا الجهد الوزني، وقد يميل اصلاً الى سيولة النثر العادية لا الى تدفق الارتجال العروضي، ولكنه لا يستطيع ان يتفادى التأثير الإيجابي لكتابة رمضان وسعيه الى وضع بصمته الشخصية على ما يكتبه وعدم تركه اكلافاً باهظة لاستعماله اللغة على هذا النحو. في مقابل ذلك يمكنه ان يكتب تحت عنوان "اسطبل الموتى" نصاً وإذا جردناه من ايقاعه الذي يبدو فيه بعض التصنع والاستبسال سينكشف عن حكاية ذات منطق سردي جاف. ولكن الخيار الإيقاعي ينقذها أو ينقذ معظمها. اما ما يمكن ان يُثار في كتابة كهذه تخلط بين الإيقاع والنثر فهو الضآلة التي قد تعتري المعنى احياناً، كتابة كهذه قلما نجد فيها تكتّماً وإضماراً ومواربة لأن الإيقاع غالباً ما يقود حشود المعنى على هواه. وإذا حدث ذلك فإنما يحدث على حساب المعنى، فيعلو الطرب ويخفت الكلام وتكثر البلاغة وتضمر الصور. لا نجد هذه النتيجة طبعاً، في قصائد عبدالمنعم رمضان ولكننا قد نجد أصداء متفاوتة منها، ليس بسبب قلة حيلة الشاعر بل، ربما، بسبب العلة المستديمة التي يصنعها تزاوج أو اجتماع الإيقاع والكتابة، إذ لا بد، مهما بلغت درجة التزاوج من الكمال، من ان يقيّد الإيقاع الكتابة، قد يمنحها ابعاداً موسيقية وأدائية لا تحلم بها ولكنها لا تستطيع إلا ان تعترض طريق حريتها الكاملة. ليس هذا مكمن الشعر الوحيد بالطبع ولكنه يطرح في سياق تجربة عبدالمنعم رمضان اسئلة كثيرة عن مرونة المعنى في ظلال الإيقاع الخارجي. المعنى الذي قد يطفو، في هذه الحال التي تمثلها بعض قصائد الكتاب، على سطح الكلمات لا تحتها أو في أعماقها. المعنى الذي يتزيّا بالفصاحة والتصويت العالي والاحتكام الى الأداء الخارجي بدل الاندساس في روح الكلمات، بدل السكن تحت جلد القصيدة وليس على ظاهرها.