فتحت الغارة الإسرائيلية التي شنتها إسرائيل في الخامس من الشهر الجاري على موقع في عمق الأراضي السورية الباب أمام مستقبل مفتوح بدوره على السيناريوهات كافة. وربما يفيد استكشاف دلالات الغارة على منطقة عين الصاحب غرب دمشق في استجلاء بعض أبعاد تلك النقلة النوعية في الوضع المستقر بين دمشق وتل أبيب منذ ثلاثة عقود كاملة. وأول ما يلفت النظر في الخطوة الإسرائيلية هو توقيتها، اذ تزامنت مع الذكرى ال30 لحرب تشرين الأول أكتوبر التي مثلت أول هزيمة عسكرية حقيقية لتل أبيب والأخيرة أيضاً حتى الآن. وليس من قبيل المصادفة بالطبع أن تختار حكومة شارون الإقدام على مثل هذا العمل العسكري المحدود تجاه دمشق في هذا الوقت خصوصاً، والدلالة هنا واضحة: فالرسالة ليست موجهة الى دمشق بمفردها ولكن للعرب جميعاً، ومفادها أن ما حدث عام 1973 غير قابل للتكرار بحال، اذ التوازنات تغيرت إقليمياً ودولياً وعلى العرب عدم الانسياق وراء نشوة الماضي والاستغراق في استدعاء ذكرى لن تعود. رسالة إسرائيلية أخرى في تلك الغارة مفادها أن الوضع القائم قد لا يستمر طويلاً، وأن وضع اللاحرب واللاسلم الذي طالما تمسك به الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لم يعد مقبولاً إسرائيلياً، وهو الوضع الذي حرم إسرائيل من التمتع بسلام سوري بعد كل من كامب ديفيد مع مصر ثم أوسلو مع الفلسطينيين ثم وادي عربة مع الأردن. وكان منطق دمشق في التمسك بذلك الوضع أن عدم القدرة على الحرب لا تعني بالضرورة قبول سلام مُهين. وتبنى الرئيس بشار الأسد الموقف ذاته، ويبدو أن تل أبيب أرادت تغيير هذا المنطق و"اقناع" دمشق بأن الجمود الحالي ليس بالضرورة أفضل الخيارات، وأن معطيات هذا المنطق قابلة للتغير في أي لحظة وفي شكل لن يكون في مصلحة دمشق، وعندئذ - في وجهة النظر الإسرائيلية - ستفاجأ سورية بأن سقف المكاسب المتاحة أمامها أقل كثيراً من توقعاتها. وتحمل الغارة الإسرائيلية رسالة أميركية مباشرة أكدها موقف البيت الأبيض عقب الغارة. فبدلاً من الإدانة أو الرفض أو أي موقف يُفهم منه أن واشنطن غير راضية عن السلوك الإسرائيلي، إذا بالادارة الأميركية تعلن أن دمشق تؤوي إرهابيين، ما يعني أن ضوءاً أخضر أميركياً صدر لإسرائيل، والأهم أنه يتجاوز مجرد تغاضي واشنطن عن عملية قصف محدودة لمعسكرات مهجورة وإنما هو موافقة كاملة على ما تفكر فيه تل أبيب مستقبلاً. وفي الوقت نفسه تريد واشنطن أن تُفهم دمشق أن لغة التفاهم أصبحت مختلفة، فبعد أشهر من زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول الشهيرة لدمشق، وجدت الإدارة الأميركية أن سورية لم تف بتعهداتها بالتالي عليها تحمل عواقب تقاعسها، وأن فسحة الوقت المتاح أمامها لتلبية المطالب الأميركية المعروفة أصبحت محدودة وربما غير قابلة للتمديد، وبالتالي على دمشق حسم خياراتها سريعاً. والمستهدف هنا بالطبع هو "حزب الله" في الدرجة الأولى، ثم في درجة تالية موقف دمشق من تطورات الأحداث في العراق. فعلى رغم المرونة الكبيرة التي تعاطت بها سورية مع الوضع الجديد في العراق تجنباً للتربص الأميركي والتحرش الإسرائيلي، يبدو أن واشنطن غير مقتنعة بعد بأن دمشق لا تلعب دوراً مناوئاً لها في الشأن العراقي، خصوصاً مع تواتر أنباء عن فرار بعثيين عراقيين إلى سورية استعداداً لمزيد من عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأميركي. وعلى رغم أن هذه أنباء غير مؤكدة ولا دليل على صحتها، إلا أن خسائر الاحتلال الأميركي والتحريض الإسرائيلي يكفيان بسهولة لاستعداء الإدارة ضد دمشق، خصوصاً بعد جلسة الاستماع التي عقدها الكونغرس أخيراً حول مشروع قانون "محاسبة سورية". وثمة هدف أساسي أرادت تل أبيب تحقيقه من عدوانها الأخير، هو قياس رد الفعل العربي على احتمال نشوب مواجهة عسكرية بينها وبين دمشق، فضلاً بالطبع عن رد الفعل السوري ذاته، وهو ما لم يكن ليظهر إذا ما وجهت الضربة إلى "حزب الله" أو أي طرف موالٍ لسورية، حيث رد الفعل المطلوب قياسه يستلزم إجراء التجربة على سورية مباشرة. وهنا تجدر ملاحظة أن العملية الإسرائيلية تصلح للقياس عليها أميركياً، بمعنى أن تمرير ضرب سورية إسرائيلياً ولو في شكل رمزي من دون خسائر أو ردود فعل عنيفة عربياً، يعني، على الأرجح، أن ضربة أقوى وعملاً عسكرياً حقيقياً ضد سورية تقوم به الولاياتالمتحدة سيمر هو الآخر في صورة أو أخرى من دون مشاكل حقيقية لواشنطن ولا بالطبع لإسرائيل. إوضافة إلى ذلك، فإن تحركاً إسرائيلياً مباشراً تجاه "حزب الله" من شأنه أولاً تأجيج التوتر الحاصل بين واشنطن وطهران أو ربما بين الأخيرة وتل أبيب، وهو ما لا يمثل فعلاً مصلحة حقيقية لا لواشنطن ولا لتل أبيب ولا بالطبع لطهران، وبالتالي فإن لدى الولاياتالمتحدة وإسرائيل رغبة في تحجيم نشاط "حزب الله" أو على الأقل الحد منه وتسييسه من دون استفزاز لطهران. ومع ذلك فالانتقال إلى عمل مباشر ضد "حزب الله" ليس مستبعداً بالمرة، لكن وقعه وردود الفعل عليه ستكون مختلفة تماماً بعد البدء بسورية ذاتها. والأهم من ذلك أن شقاً مهماً من مصادر قوة الحزب يجري فعلاً تقويضه من خلال عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل والحزب. فعلى رغم إيجابيات هذه العملية إلا أنها تعني في التحليل الأخير فقدان الحزب واحدة من أقوى أوراقه الضاغطة في مواجهة إسرائيل. الضربة الإسرائيلية لسورية تعني أن على العرب مواجهة مسؤولياتهم، وأن وقتاً طويلاً لم يعد متاحاً لا لانتظار ما لا يأتي، ولا حتى لانتظار ما سيأتي. * كاتب وباحث مصري.