لدى افتتاح التجمع العام الثاني لحركة التوحيد والإصلاح المغربية، ذهب رئيس الحركة الدكتور أحمد الريسوني الى ان "قدراً كبيراً من المشاكل والمتاعب والعثرات والانتكاسات" التي تعانيها الحركات الإسلامية "هو من ذات تلك الحركات وما عملته بأيديها". وحدد الريسوني ما يعنيه بالحركات الإسلامية بأنها "كل من يتحرّك بالإسلام للإسلام وكل من يدعو الى الإسلام ويسعى الى الإصلاح والنهوض". لا حاجة الى الاعتراف بأن الدكتور الريسوني هو من أعلام الحركة الإسلامية في المغرب، غير ان ذلك لا يمنع من محاورته ومخالفته في ما ذهب إليه، لا سيما ان تأثير الانتصار الذي حققه حزبه العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة بدا واضحاً في ثنايا الطرح الذي تبناه. والحال ان الرجل ربما تسرع بعض الشيء، ذلك ان ما أصابته حركته من نجاح لا يعدو الصفحة الأولى من كتاب طويل، ربما أعقبه ما لا يسر، ما قد يدفعه الى مراجعة الطرح من أساسه، مع أنه لو بادر الى قراءة فاحصة للتجارب العربية الاخرى المشابهة لتجربته لتأكد مما نقول، ولا مجال هنا للتفصيل. ثمة حاجة الى القول ابتداء بأن مسيرة الحركات الإسلامية المعاصرة لم تكن مجرد عثرات وانتكاسات، بل ان هناك الكثير من النجاحات التي تحققت، ونذكر الدكتور الريسوني بأن نشأة تلك الحركات لم تكن في أجواء مساندة بقدر ما كانت في ظل أوضاع غيّب فيها الإسلام عن شعوبه ومجتمعاته على نحو غير مسبوق، حيث عانى ما يمكن وصفه بالغربة لردح من الزمن قبل ان يبدأ الدعاة أفراداً ومجموعات سيرهم نحو إعادة الاعتبار لتعاليمه في حياة الناس. والحال ان قدراً لا بأس به من النجاح قد تحقق على هذا الصعيد شمل ما يمكن اعتباره سيادة معقولة لروح الدين بين الناس وترسيخاً لمقولة ضرورة إعادته الى حياتهم في مختلف مجالاتها، بما فيها السياسة، وهو الامر الذي لم يتحقق بيسر وسهولة، بل بكم هائل من الجهود والتضحيات. ان السياسة لا تمثل الا وجهاً واحداً من حركة الدعاة بالإسلام وللإسلام، اذ ثمة وجوه أخرى كثيرة شكلت معالم التحرك، وتحقق على صعيدها الكثير من النجاح كما أشير سابقاً. نأتي هنا الى مسألة الذاتي والموضوعي في صناعة "العثرات والانتكاسات"، ففي الوقت الذي لا يختلف فيه الناس على توافر بعد ذاتي في صناعتها، حيث من السهل على أي أحد سرد الكثير من الأخطاء، الا ان من الضروري القول في المقابل ان الكثير من تلك الاخطاء لم تكن الا نتاجاً لاجتهادات بدت لأصحابها معقولة ضمن ظروف الزمان والمكان، ثم تبين لاحقاً أنها لم تقرأ تلك الظروف على نحو دقيق. غير ان الأهم من البعد الذاتي في صناعة "العثرات والانتكاسات" هو الموضوعي، والحال ان الدكتور الريسوني كان كما هو شأن أكثر الإسلاميين يركز على الذاتي في الفشل ويتجاهل الموضوعي أو يضعه في خانة ضيقة لا تقارن بالذاتي الذي يأخذ مكان الأصل أو السبب الجوهري. نتذكر على هذا الصعيد قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح إنه "يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد". وهنا يبرز سؤال مهم، هو هل ان فشل ذلك النبي كان عائداً لأخطاء ذاتية، وهل يعني ذلك ان الله عزّ وجل لم يحسن الاختيار؟ تعالى عن ذلك علواً كبيراً. لقد نشأت الحركات الإسلامية في ظل واقع تكرست فيه الدولة القطرية، بوجهها العلماني أو الآخر الاشتراكي، ثم تطور فيها البعد المركزي والأمني. وكان ذلك نتاجاً لخلل هائل في ميزان القوى بين الغرب الاستعماري والعالم العربي والإسلامي أفرز هزائم وتبعية على مختلف الصعد، وبذلك اصبح تغييب الاسلام خياراً مفروضاً من الخارج محروساً من الداخل" من الخارج لأن الغرب يريد ذلك خوفاً مما يزرعه الاسلام من عناصر القوة في الأمة، ومن الداخل لأن الأنظمة القطرية لا تريد مخالفة الخارج تجنباً لسخطه، فيما تتوجس من حملة الإسلام خوفاً على وجودها. من هنا كان الميزان مختلاً لصالح الدولة القطرية في مواجهة حركات لا سند لها من الخارج، فيما لا تملك من القوة ما تواجه الدولة الأمنية بامكاناتها الكبيرة. والحال انه لولا قوة الفكرة التي تحملها الحركات الإسلامية وصلتها العميقة بضمير الأمة لاندثرت منذ زمن بفعل قوة خصمها المادية قياساً بها. ولعل مثال الحركات اليسارية والقومية يشكل دليلاً مهماً على هذه المعادلة. ان تجاهل ميزان القوى الدولي في قراءة تاريخ حركات التغيير لا يبدو منطقياً حتى في سياق قراءة تاريخ الدعوة الإسلامية في بداياتها الأولى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فالله عز وجل جعلها في الظرف المكاني المناسب والزماني ايضاً. فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد حرب كونية بين القطبين الأعظم الفرس والروم تفوق فيها الطرف الأول، وما هي الا سنوات قليلة حتى عاد الثاني وهزم الأول ليغدو العملاقان في حالة ضعف غير مسبوقة. وقد عبر المؤرخ المعروف غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب عن ذلك بالقول "ولد محمد في أحسن الأوقات. وقد رأينا ان العالم المسنّ كان متصدعاً من كل جانب، ولم يتوجب على أتباع محمد الا ان يهزوه ليتساقط". من هنا، يمكن القول ان من الظلم ان يقوم بعض الاسلاميين بجلد حركاتهم وتجاربهم والتركيز على النصف الفارغ من كأسها دون الآخر المملوء، فالذاتي حاضر في عثراتها وانتكاساتها... نعم، ولكن الموضوعي أكثر حضوراً بكثير، مع تباين مستوى ذلك الحضور بين تجربة وأخرى. * كاتب أردني.