لو بسطنا خارطة الحركات الإسلامية السياسية بمختلف اتجاهاتها ومسمياتها، فمن المؤكد أن ما سنراه أمامنا هو صورة مختلفة تماما عن تلك التي كانت عليها قبل عقدين من الزمن، حين انطلقت معظم هذه الحركات باندفاع غاضب، تسعى كلٌ حسب اجتهادها وظروفها، لتحقيق مشروع إسلامي للإحياء أو الثورة ضد واقع كانت تراه لا إسلاميا ومشوها وبلا معنى ونموذجا للفشل الحضاري والعجز وخيبات الأمل. ولعل ابرز ما تشي به الصورة الآن هو تجسيدها حال انحسار وهج حركات الإسلام السياسي، بشقيها الإصلاحي والجهادي، بعد رحلة من التجارب الدامية أحياناً، والقاسية في كل الأحيان، في الوقت الذي لم يتغير الواقع الذي ثارت عليه كثيراً. قد لا يوافق كثير من الإسلاميين على مثل هذا الاستنتاج، الذي يبدو بديهياً من وجهة نظر تحليل التجربة التاريخية ونتائجها، وقد يوافق عليه خصومهم وهم يفركون أياديهم تشفياً. إلا أن نقطة الانطلاق، إذا ما أريد فهم التجربة واستيعاب دروسها، لابد أن تشمل مراجعتها بشكل موضوعي، مراجعةً شاملةً تطال كل جوانبها، ليس من جانب الإسلاميين وحدهم، بل من قبل كل المعنيين بمصير أوطانهم ومجتمعاتهم كي يتخطوا أثار المواجهة التي خلّفتها ويستشرفوا نموذجاً مشتركاً للتعايش ولإصلاح الأمور ولإعادة البناء قائماً على أساس المصالحة مع الذات أولاً ومع العصر ثانياً. هذه المراجعة يبدو أنها بدأت فعلا وهناك أمثلة عدة عليها. أما مسألة تراجع مشاريع حركات الإسلام السياسي، والأزمات التي تواجهها تلك التي تمكنت منها من الوصول للحكم أو التي جاهدت من دون نتيجة، فهي حقيقة لا ينبغي إضاعة الكثير من الوقت والجهد في الجدل بشأنها. وبالإمكان النظر إلى ما آلت أليه التجارب المتعددة على امتداد البلدان الإسلامية كي ندرك أنه بينما يخبو بريق ما دعي بتنظيمات الغضب الراديكالية، وربما يكاد ينطفىء، فإن العديد من حركات الصحوة والإصلاح الإسلامية تواجه من المصاعب والتحديات الذاتية والخارجية بما يوسع من الفجوة بينها وبين محيطها الاجتماعي ويشل قدراتها على مواصلة التعبئة من اجل تحقيق نموذجها السياسي إذا ما بقيت على ما هي عليه . فاليوم، يمكننا أن ننظر حولنا لنرى كماً هائلاً من التجارب الإسلامية وهي تصطدم بحقائق الواقع وقوانينه الصارمة، ما يدفعها الى المراجعة الدائمة وأحيانا الهروب إلى ما يعينها على التصالح وربما التطابق مع الواقع الذي قطعت صلاتها به ونذرت نفسها لتفكيكه واستبداله بنموذجها الخاص. ففي إيران التي دشنت عام 1979 نموذجها في الحكم الإسلامي، والذي أوقدت به جمرة حركة الإسلام السياسي المعاصرة، فإن التحولات الجارية منذ تولي الرئيس الانفتاحي محمد خاتمي السلطة تشير إلى أهم مراجعة نقدية ذاتية تجري للمشروع برمته تحمل في طياتها بذور تغير حاد، من المؤكد انه سيترك آثاره ليس على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية وإنما على سائر الحركة الإسلامية العالمية، تماماً مثلما فعل قبل اكثر من عقدين من الزمن. وفي السودان التي أقامت نموذجها الخاص بعد عشر سنين من قيام ملهمها الإيراني، ها هو المشروع يتهاوى داخلياً تحت ضربات الرافعة العسكرية الانقلابية التي جاءت به للسلطة، بعد أن عصفت بمحاولات ريادتها العالمية مسالك الغرور والتنطع الدونكيشوتية، وبعد أن أخفقت في المواءمة والتوافق مع الواقع الصارم الذي يحيط بها. أما في أفغانستان، ثالث بلد يرفع راية الحكم الإسلامي، فإن هناك إجماعاً حتى بين اكثر دعاة الأسلمة تشدداً، بأن ما بنته حركة "طالبان" لم يكن إلا نظاما شاذا قدم المشروع الإسلامي على أسوأ ما يكون، سواء باحتكاره للدين وباحتقاره لإجماع الأمة وبسلبه حق المسلمين في الاجتهاد والشورى، أو من خلال سيادة الفهم الشكلي والتطبيقات المتعسفة لمبادئ الدين الحنيف، الأمر الذي نفّر جموع المسلمين منه وكرس لدى الآخرين النموذج النمطي السلبي عن الإسلام والمسلمين. ومع هذا، فإن ثمة مؤشرات تدل الى أن "طالبان" بدأت هي الأخرى مراجعتها، مختارةً كانت أم مضطرة. من جهة ثانية، عانت حركات الإسلام السياسي الأخرى، المعتدلة منها والمتشددة، على حد سواء، من اخفاقات واضحة في تحقيق مشاريعها التي بلورتها رؤاها للحكم وإدارة المجتمع. فالأصلاحيون المعتدلون بمختلف تياراتهم لم يتمكنوا حتى الآن في أي بلد إسلامي نشطوا فيه من أن يغيّروا نظامه السياسي والاجتماعي ويقيموا البديل الإسلامي الذي أرادوه، على رغم محاولاتهم المستمرة لتغيير خطابهم وأساليب دعوتهم بما يتلاءم مع المراحل الزمنية وظروف الواقع المحيط. واليوم هناك سجالات علنية ومراجعات نشطة تجري داخل معظم هذه التيارات بهدف تقويم المرحلة واستيعاب دروسها ربما ستنتج مناهج أخرى تعينها على مغادرة شواطئ الجمود التي رست عليها طويلًا. أما الحركات المتطرفة التي صبغت مسيرتها بالعنف والدم وهي تسعى لإقامة "حاكمية" تقوم على تكفير المجتمع واستحلاله فها هي تلقي سلاحها جانباً وتعلن قبولها بالتعايش مع أنظمة "الطواغيت" التي جعلت من الجهاد ضدها والخروج عليها فريضة شرعية حتى قيام دار الإسلام التي تنشدها. ولعل المثير هنا أن بعض رموز هذه الحركات، مثل "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" المصريتين، تجاوز القبول بفكرة التعايش إلى إمكان الانخراط في النظام السياسي القائم من خلال عرضها تأسيس أحزاب سياسية تلتزم بقواعد اللعبة القائمة، وهو أمر إن تحقق، ستكون له دلالاته البالغة على مجمل حركة الإسلام السياسي ومن ثم على مستقبل الصراع السياسي الاجتماعي الدائر. ولكن لماذا تتعثر تجربة الحكم الإسلامي في إيران والسودان وأفغانستان، ولماذا عجزت الحركات الإسلامية الأخرى عن الوصول للسلطة؟ لعل اسهل إجابة على ذلك هو أن ينبري الإسلاميون لإلقاء اللوم على قوى الاستكبار العالمي وعملائها المحليين من استئصالين ومستغربين أو علمانيين. ولكن ذلك سيكون تبسيطاً مخلاً في فهم الأمور وتجاهلاً لعوامل العجز الذاتي التي اكتنفت مشاريع الإسلام السياسي. من المؤكد أن المشروع الإسلامي هو من طراز المشاريع الكبرى التي لا يمكن، ولا ينبغي، استخلاص النتائج بشأنها بشكل عابر اعتمادا على تجربة عقدين من الزمن، خصوصاً أنها لا تتعلق بأيديولوجية أو نظرية سياسية أو اجتماعية كالشيوعية أو القومية أو الليبرالية، بسبب ارتباطها بأصول عقائدية وإيمانية متجذرة. لقد كان ممكنا مثلا إلقاء اللوم في سقوط الشيوعية على النظرية ذاتها، كما فعل خصومها، أو على الممارسة كما فعل أصحابها، إلا أن الأمر يبدو متعذراً في الحالة الإسلامية، ما سيتطلب العمل على إعادة اكتشافها، وحفراً أكثر عمقاً في الأفكار والممارسات التي صاحبتها، وهو ما يبدو أنها مقبلة عليه في المراجعة الجارية. إن احسن ما يفعله الإسلاميون هو أن يتوجهوا الى المستقبل وأن يدركوا أن حصاد عملهم خلال العقود الماضية لم يكن سيئاً على أية حال. فالحقيقة أنهم ساهموا بوضع مشروع الإحياء الإسلامي على جدول الأعمال، ليس على مستوى مجتمعاتهم فقط، بل على مستوى الحوار الحضاري العالمي برمته. فمن جهة، ساعد المشروع الإسلامي على اتساع قاعدة المؤمنين وعمق الهوية الإسلامية وجعل الإحياء الإسلامي عملية ثقافية انخرط فيها الجميع، متدينون وعلمانيون في اكبر عملية اجتهاد تجري منذ بدء الدعوة، من المؤكد أنها ستنقل الفكر الإسلامي في مرحلة لاحقة إلى مصاف تقدمي يلائم بين أغراض الدين وبين حاجات المسلمين العصرية. ومن جهة اخرى، فإن المشروع الإسلامي ساعد على كشف عورات المجتمعات الإسلامية من تخلف وتسلط وقمع سياسي وفساد وتبعية، وهي إنجازات ربما تفوق في أهميتها هدف استلام السلطة، ما يستدعي من الإسلاميين عدم التفريط بها من خلال العودة إلى سياسات الغضب والتطرف. إلا أن ذلك لن يكفي، فلكي يتم ضمان عدم العودة إلى تجربة العنف والتوتر وتحقيق المصالحة بين الإسلاميين ومجتمعاتهم، فإن المطلوب أن تشمل المراجعة عودة المشروع الإسلامي إلى جادته الأصيلة، وهو أن يكون جزءاً من مشروع النهوض والتحديث من خلال التصدي للقضايا الأساسية التي تواجه المجتمعات الإسلامية وهي قضايا التقدم والتحرر والديموقراطية وحقوق الإنسان التي لا يمكن إلا أن تكون في صميم العمل الإيماني الذي يرفض الجمود ولا يستنكف عن التفاعل مع العصر ومتطلباته. إن هناك فرصة ممتازة توفرها مرحلة المراجعة التي وصلت إليها الحركات الإسلامية لمنع النكوص، وهي أن تبرهن فعلا على إيمانها بالمشاركة في عملية التحول الاجتماعي، كشريك وليس كوصي مهيمن، ولا أن تستبطن قناعات هدفها الوصول، عن طريق ذلك، إلى ما عجزت عن تحقيقه في معارك الجهاد والاستحلال والتكفير. لكن المؤكد إن عملية إعادة إدماج الإسلاميين في العمل السياسي والاجتماعي تتطلب من القوى الأخرى الكف عن النزعات الأستئصالية والرؤى المتعالية ومباركة الأساليب الأمنية التي تلجأ إليها الأنظمة والنظر إلى التيارات الإسلامية باعتبارها جزءاً حياً من الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي التي يحق لها أن تعبر عن اجتهاداتها السياسية وتتصارع مع التيارات الأخرى بطرق سلمية وموضوعية هدفها المصلحة العامة. لقد أدت المواجهة بين الإسلاميين والتيارات الأخرى إلى حال تأزم شديدة داخل المجتمعات وأشاعت مناخ العنف وعرقلت جهود البناء الاقتصادي والاجتماعي وألحقت اشد الضرر بالعملية الديموقراطية، ما أهدر موارد ثمينة كان في الإمكان توجيهها لعملية الإصلاح والتقدم والنهضة التي هي هدف الإسلاميين وغايتهم مثلما هي هدف غيرهم. ومع هذا، فينبغي الإقرار بأن عملية المراجعة، ومن ثم عملية المصالحة، لا يمكن لهما أن تجريا معزولتين عن الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بهما. فالداخل لا يزال يعاني من أزماته واخفاقاته وضياع البوصلة التي تقود مسيرته، وهي نتاج سياسات عقيمة لا يتحملها الإسلاميون وحدهم بقدر ما تتحملها أيضا الأنظمة والنخب التي قادتها أو التي والتها. بينما لا يزال الخارج ينظر الى الحركات الإسلامية من منظار صراع الحضارات أو باعتبارها موضعا للتهديد الأمني، والأهم من ذلك وفقاً لاعتبارات مصالحه وأهدافه الإستراتيجية. ولعل السؤال الأساسي الذي سيواجه الجميع حين ترسو هذه المراجعة على شاطئ العقل والطمأنينة هو هل في الإمكان فض الاشتباك الذي ولّدته سنوات الغضب والمواجهة نهائيا والبدء بمرحلة جديدة يستعيض فيها الإسلاميون بالاجتهاد عن الجهاد، وخصومهم بالمشاركة عن الاستئصال، أم أن طاحونة الغضب ستدور من جديد؟ * كاتب عراقي.