تحتفل اسبانيا هذه الأيام بمئوية الشاعر رفائيل ألبرتي. هنا ذكريات مع الشاعر وحكايات شخصية تنشر للمرة الأولى. الأمنية الأخيرة التي شغلته كثيراً، ألا يموت قبل تجاوزه المئة عام، ويدخل القرن الحادي والعشرين، لم ينجح في تحقيقها، لأنه مات في 22 تشرين الأول أكتوبر 1998. وحين كانت الكلمات تخرج من فمه، كانت عيناه اللتان لا تزالان تحتفظان ببريق الشعر، تنفتحان باتساعهما، باتساع الأفق الذي يمتد مع امتداد حقول كاستيا، خارج شباك البيت، حيث كنا نجلس. لم يستطع "البحار الأرضي"، الأندلسي رفائيل ألبرتي الاحتفال بعيد ميلاده المئة في 16 كانون الأول ديسمبر 2002. الرغبة تلك سمعته يرددها مرات، وفي كل مرة كانت كلماته تحمل وجداً أكثر، فيها براءة طفولية تجهل الموت، وكأن ألبرتي لا يريد أن يشيخ، أن يظل مثلما كتب عن نفسه قائلاً: "كم أرغب في هذه اللحظة الأكثر شباباً في حياتي ألا أكون مجرد ضياع مجرد شروع بالولادة إنما مثل الحرية، عندما يعيش المرء في الضوء إلى ما لا نهاية. وأنا أعيش على رغم أنني شيخ، ولا أحد يقول إنني جلد ميت" ... والآن عندما أفكر في الصورة الأخيرة التي احتفظت بها ل"ابن العم" ألبرتي كما كان يطلق عليه صديقه العزيز فيديريكو غارسيا لوركا، أتذكر كل الصور الأخرى التي احتفظت بها عنه، تلك الصور التي جمعتها عنه مثل عاشق بعيد... ابتداء من الصورة التي شكلتها مخيلتي من قراءاتي المبكرة له، الصورة الضبابية لابن الخامسة عشرة الذي سحره - كما سحر جيله والجيل الذي قبله - شعر ألبرتي، مروراً بالصورة التي رأيته فيها في إحدى صالات هامبورغ، التي كانت تعرض فيلماً عن الحرب الأهلية الإسبانية، كيف وقف بقامته الوقرة، في إحدى ساحات مدريد محيياً بشعره المتطوعين القادمين من كل أنحاء العالم لنجدة الجمهورية الإسبانية" بمثل تلك الحماسة رأيت صورته يجلس في الكورته كما يطلق الاسبان على برلمانهم، بصفته عضواً في الحزب الشيوعي الإسباني وممثلاً عن دائرة مدينة قاديش الأندلسية، وإلى جانبه جلست "الباسيونيرا دولوريس إيباروي" التي شكل معها ألبرتي علامة مميزة لتاريخ اسبانيا: البرتي يجلس بجانب المرأة التي كانت وزيرة في الجمهورية الفتية، وكأنه يقول: هنا تجلس الجمهورية التي لم يستطع الفاشيست محوها من اسبانيا. المرأة والشاعر. ثم صورته وهو في الرابعة والثمانين، بينما يتسلم في جامعة القلعة Alcala، جائزة سرفانتيس للأدب، لبس بدلة سوداء بأزرار حمر، رافضاً لبس الفراك، البدلة الرسمية الخاصة بتسلم الجوائز. كان الشاعر حاضراً على هواه، وحتى الملك الاسباني خوان كارلوس، أرسل يبلغه أن ألبرتي لا يخضع لشروط القصر الملكي. إنه حر. الشاعر يفرض سلطته على الملك. صورة الإنسان والشاعر المتواضع وهو يصافحني، عندما زرته للمرة الأولى في بيته في مدريد، في الشارع العريض "لاكاستيانه"، ليقول لي يومها الحكمة التي حملتها معي أبداً "المنفى قصة عابرة"، وكيف لي الاعتراض على قوله، هو الذي عاش 39 سنة في المنفى، قال لي: "هل تعرف أن المنفى يجعلك تظل شاباً، لأن الساعة تتوقف هناك، في البلاد التي تركتها، تنتظر عودتك". مقالب صورته وهو يضحك، عندما يتحدث عن أصدقائه، لأنه لا يروي عنهم إلا القصص "الطريفة"، وكأنه يقول "الصداقة هي رواية النكتة"، هي المزاح المشترك، أو ربما تلك هي استراتيجية الشاعر الذي يريد أن يقول: "نحن نعيش على رغم كل شيء"، عشرات القصص سمعتها منه، بعضها سجلته، وبعضها ما زلت أحفظها. قصة المرأة "العملاقة"، زوجة صديقه نيرودا، التي لقبها بذلك اللقب نيرودا ذاته، عندما زاره ذات يوم في شقته في مدريد. أو قصة صديقه ميغيل أستورياس، أو مقالب لوركا الذي كان يريد إقناعه بالكف عن كتابة الشعر والتفرغ للرسم، لكي يرسم أغلفة دواوينه، أو قصة مزاح لويس بونويل الخشن، وغيرها من القصص. لم يستطع ألبرتي الاحتفال بعيد ميلاده المئة، على رغم أنه كان مصراً على الاحتفال بهذه المناسبة، وأنا كنت أقول له "ابن العم ألبرتي، سأقدم لك هدية خاصة في هذه المناسبة". أسكت عمداً، لكي يزداد فضوله. فيسألني بعد دقيقة: "ما هي الهدية". حاولت اللعب معه مثل الأطفال، أرفض البوح بهديتي. فقط في اللقاء الأخير، قلت له، هديتي لك، أن أجعل قصيدتك وأغنيتك "ضلت طريقها الحمامة" تُغنى باللغة العربية. كان سعيداً عند سماعه الخبر. وكنت أعرف كم يحب ألبرتي هذه القصيدة التي كتبها على شكل أغنية أصلاً، وغناها له مغنون في أسبانيا، أشهرهم خوان مانويل سيرات وآنا بيلين، وكانت هي مثل الأغنية الكود في الحانات، يغنيها الشباب المناهضون لنظام الديكتاتور فرانكو. في ذلك الوقت، عندما منحته ذلك الوعد، لم أكن أعلم أنني سألتقي ذات يوم بالمرأة التي ستغني "ضلت طريقها الحمامة". من أين كان لي أن أعرف أن تلك القصيدة، القصيدة التي عشقتها حد الجنون، ستجعلني أكتب رواية أخذت من حياتي أكثر من أربع سنوات، رواية هي البداية الفعلية لذهابي في طريق خاص سيأخذني بعيداً من "تل اللحم"، لا أعرف متى أعود منه، مثلما جعلت المرأة التي أحبها تأخذني بالطيران معها، لنطير بعيداً سوية مع حمامته، مع أغانيها، التي توزعت على اسطوانتين والاسطوانة الثالثة في الطريق... بحّار أندلسي لم يستطع ألبرتي الاحتفال بعيد ميلاده المئة، كما كان يصرّ. كم كان في ودي آنذاك، أن أقول له، إنني سأحتفل في 16 كانون الأول 2002، حتى من دونه، وسأشعل مئة شمعة، مع المرأة التي أحب وسأروي القصص عنه، عن العالم، عن ال"الحمامة التي ضلت طريقها"، وعن الصداقات التي لا تموت، مثلما أفعل الآن، بينما أتذكره، في صوره المختلفة: ألبرتي العاشق صاحب ديوان "أبيات الكابتن"، الذي طردوه من الصف الرابع الابتدائي بسبب رسالة حب كتبها إلى إحدى الطالبات. ألبرتي الثوري مؤلف: "شعر في الشارع"، "من لحظة إلى أخرى"، "فصل البهجة"، "الصخري"، الذي لم يكسر المنفى تمرده. ألبرتي السريالي صاحب ديوان "حول الملائكة"، الذين يطالب في البحث عنهم في "سهر قصبات السكر المنسية". ألبرتي الذي كلما فكرت به، تخيلت حياته الشبيهة بحياة بحار. الأندلسي الجوال الذي لم يُربط غصن شجرة، الذي لم يزر غرناطة بعد قتل الفاشيين لوركا هناك" ألبرتي لم يرفض زيارة المدينة فقط، إنما كرهها منذ أن خانه صديقه الذي أخذ معه إلى قبره الشعلة الأبدية. ألبرتي "المبتسم دائماً"، كما كتب له صاحب النوبل الاسباني "ريمون خيمينيث". ألبرتي الذي يجلس معنا الآن.