بغصة ملؤها الشوق والأسى تسترجع مارسيل مارينا سنوات الفترة الذهبية في عالم التمثيل في لبنان يوم سطع نجمها وبرزت بجدارة ممثلة لامعة على الشاشة. كانت تلك الفترة بالذات هي التي شهدت اوج مراحل الإنتاج المحلي اللبناني وفورته، إذ كانت الأعمال لا تتوقف والمشاريع لا تنتهي، الأمر الذي جعل كل الأنظار تتجه نحو لبنان الذي كان الأول والسبّاق في العالم العربي. وهكذا كانت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي فترة نعيم وحركة قوية لم تشهد الساحة الفنية لها مثيلاً قبلاً. فبرزت اسماء كبيرة ونجوم صنعت تاريخاً عامراً. إلا ان الفرحة لم تدم طويلاً إذ سرعان ما انقضت تلك الأيام الذهبية مع انتهاء السبعينات وبداية الحرب اللبنانية التي أرخت بظلالها على كل المجالات، ولم يسلم هذا القطاع، فتوقفت عجلة الإنتاج في الوقت الذي راحت فيه معظم البلدان العربية الأخرى تدعم انتاجها وتغذيه. وكانت النتيجة تدهور الإنتاج اللبناني بعد ان سبقه الكل بأشواط بعيدة. اليوم تدفع مارسيل مارينا الثمن غالياً مثلها مثل غيرها من الفنانين المخضرمين وتكتفي بالعودة الى الوراء فتتذكر بشيء من الحنين الأيام الماضية وتقول: "كان الإخلاص سمة الأعمال الماضية لذلك كانت تخرج افضل ما يكون ويتقبلها المشاهدون من دون اي تكلف حتى مع وجود اخطاء في التمثيل او الإخراج... أحن الى تلك الأيام الذهبية التي شهدت اطلالتي الأولى وظهوري الأول وكان الكل يداً واحدة. إذ كنا نتبادل الأدوار والبطولة، كما كانت القصص مشوقة ومن صميم الواقع اللبناني على عكس اليوم، اذ تضيع الطاسة بغياب اي رابط في القصة، وإلى الآن لا أزال احتار في الإجابة عن سبب حبنا للأعمال القديمة بالأبيض والأسود. وأتأسف لفكرة عدم استساغة ما يعرض على الشاشة منها. خيبة ولا تخفي هذه الفنانة المخضرمة خيبتها الكبيرة مما آلت إليه الأوضاع اليوم بعد ان أضحت الساحة شاغرة من امثالها ممن تركوا بصماتهم في عالم التمثيل وبعد ان اصبح الإنتاج المحلي اللبناني في غرفة العناية الفائقة بحسب ما تقول وتتابع: "يسيطر اليوم على الساحة الفنية عدد ضئيل من المنتجين الذين يفرضون شروطهم في ظل غياب اي انتاج يذكر، إذا لا نرى في السنة اكثر من عمل او عملين، وإذا نظرنا من حولنا قليلاً وجدنا ان معظم الفنانين المخضرمين غائبين عن الشاشات والسبب يكمن في استغناء المنتجين عنهم واستبدالهم بشباب يقبلون التمثيل بأجور زهيدة الأمر الذي لا يرضى به الفنان الذي يفضل البقاء في منزله محافظاً على كرامته بدل هدر طاقته سدى. فهل يجوز مثلاً استقدام شابة صغيرة لتلعب دور ام لثلاثة اولاد في الستين من عمرها في الوقت الذي يوجد لدينا عدد هائل من الفنانين الكبار الذين لا يزال لديهم الكثير لإعطائه من دون ان تتوافر لهم الفرصة لذلك؟ للأسف ما نمر به اليوم لا يطاق إذ ان الأمور لم تعد سائرة بالشكل السليم لأن الأعمال تقتصر على الجيل الجديد من الشبان والشابات وهذا غير كاف اطلاقاً". وتتابع قائلة: "بالطبع لا احد يأخذ من دربنا شيئاً إلا انني اتكلم من الناحية الفنية إذ لا يجوز ان ترتكز الأعمال الى شخص او شخصين لا غير، لأن في ذلك حرقاً للممثل واحتكاراً فنياً. علماً ان الساحة تتسع للجميع بوجود عدد كبير من الأعمال التي ابطالها مجموعة كبيرة من الممثلين الموجودين على الساحة الفنية. وينطبق ذلك على بعض المسلسلات العربية التي نتابعها ولا نشبع منها. ولنأخذ مثلاً مسلسل نور الشريف "العطار والسبع بنات"، اذ وجدته رائعاً وشاهدنا فيه عدداً لا بأس به من الممثلين المنتمين الى الجيل نفسه الذي ننتمي إليه او الى الجيل الأكبر منا، اضافة الى الشباب، الأمر الذي يدلّ الى الخلط بين القديم والجديد ليخرج العمل كلاً متكاملاً. اما عندنا فالأمر مغاير تماماً. ومع هذا اتمنى من كل قلبي التوفيق لهؤلاء الشباب وخريجي الجامعات الذين يحلمون باحتراف التمثيل. فلنأمل ان يعيشوا الازدهار الذي تمتعنا به في الماضي يوم كنا منهمكين بالتوفيق بين الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية. فالمستقبل لهم، لكن يبقى السؤال اي مستقبل إذا لم نقدم لهم ما يجعلهم يقفون على أرجلهم بكل ثقة. فهم اليوم لا يزالون في مرحلة تعلم المشي مفتقدين للسند الذي ينجيهم من الهزات وذلك يكون بوجود ابطال حقيقيين في القصة من امثال، علياء نمري ولمياء فغالي وسميرة بارودي وإلسي فرنيني وألفيرا يونس وغيرهن الكثير من الممثلات الجالسات في منازلهن من دون عمل يذكر". بداية مع "غارو" وبالفعل كانت الفترة السابقة من مسيرة مارسيل مارينا حافلة بالعطاء في السينما والمسرح والتلفزيون حيث كانت بداياتها في الفيلم السينمائي "غارو" للمخرج غاري غارابتيان وما لبثت ان تتالت الأعمال نذكر منها "في طريقي رجل" و"القاصرون" و"فندق الأحلام" و"بنت الحارس"... وكانت حصتها في التلفزيون كبيرة اذ شاركت في الكثير من المسلسلات مثل "سهرات تلفزيونية"، "الشاهد الأخير"، "أبو ملحم"، "المصيدة"، "قصر الحمراء"، "البؤساء"، "سجين القلعة"، "المرآة"، "الأمانة"، "غداً تزهر الأرض"، "لارا والبحر"، "منار" "الشمس تحت سطح البحر"، "رحلة الأحلام"، "نوادر جحا"، "اسرار"، "اسمها لا"، "صائمون ولكن"... وكان "المشوار الطويل" المحطة الأبرز في مشوارها الفني اذ تقول: "أعمال كثيرة برزت وعدد منها لم يعرض في لبنان وكانت من انتاج خاص، اما العمل الذي اخذ ضجة اكبر من غيره محلياً فهو "المشوار الطويل". وهو لا يزال يعرض الى اليوم على الشاشة ويتابعه الناس الى درجة ان بعضاً من الجيل الجديد تعرفوا إليّ من خلاله. صحيح انا قمت بأعمال كثيرة إلا انني أفتحر بهذا الدور جداً نظراً الى كوني جسدته الى جانب عمالقة الفن في لبنان ومصر". وفي المسرح ارتبط اسمها بمسرح "شوشو" ومن اعمالها المسرحية: "شوشو بك عريس"، "الحق عالطليان"، "حيط الجيران"، "شوشو والعصافير"، "اللعب عالحبلين"، "مريض الوهم"، "دكتور شوشو"، "فرقت ع نمرة"، "واو سين"، "حزب سعد الله"، "جرجي درس الموضوع"، "فيزا قيد الدرس" وصولاً الى آخر اعمالها المسرحية "Please مع وقف التنفيذ" التي مثلتها في عزّ الحرب. وتقول عن ذلك "أرجعتنا الحرب خمسين سنة الى الوراء، ومع هذا، ففي فترة الحرب كنا في وضع افضل مما هو عليه اليوم. وأذكر انه حين كنت أقدم مسرحية "Please مع وقف التنفيذ" لم يكن من السهل عليّ التنقل بين منزلي الكائن في سن الفيل ومسرح البيكاديللي في الحمرا بوجود الحواجز على الطرقات. مع هذا اعود وأكرر اننا كنا في حال افضل إذ طوال مدة الحرب لم ننقطع عن العمل ولم نجلس في منازلنا، بل على العكس كنا ننتقل من مكان الى آخر ونتجول في البلدان المجاورة. وذهبت الى الأردن والمغرب واليونان حيث قضيت معظم تلك الفترة وصورت مسلسل "الأمانة" من تسعين حلقة من إنتاج خاص. اما اليوم فلا احد يتشجع على الإنتاج وإذا قامت احدى المحطات بذلك نراها تقوم بالقليل عن خوف ورعب". دوبلاج لقد عاش الفنانون اللبنانيون في الحرب افضل بكثير مما يعيشونه اليوم، والأمر نفسه يقال عن الفترة التي تلت الحرب مباشرة، إذ جاء الدوبلاج ليكون السعفة الحقيقية للفنان في زمن تدهور الأوضاع. وتضيف مارسيل: "كان الدوبلاج السند الكبير للفنان في تلك الفترة نظراً الى انعدام الإنتاج التلفزيوني لسنوات. وما قام به الدوبلاج هو تشجيع الفنان ومنعه من الهجرة والتشريد، على رغم كل الانتقادات التي رافقت تلك العملية. من هنا لا استطيع إلا الاعتراف بأن الدوبلاج عطاء فني كبير. وكم من مرة تمنيت لو كنت اجسد الشخصية بالفعل. وعلى عكس ما يظن البعض هو عملية صعبة تستلزم جهداً وخبرة إلا انه من جهة ثانية، كان مسألة مريحة نفسياً للفنان الذي شعر باستمراريته. وهكذا لمدة عشر سنوات بقينا مرتاحين حتى مع غياب الإنتاج الفني الكبير، اما اليوم فالأمور تبدلت إذ للأسف لم تعد الدبلجة ترضينا فأصبح الدوبلاج "بالبلاش" حيث يستقدمون تلاميذ يرضون بكل ما يعطونهم اياه في الوقت الذي كنا نتقاضى من خلاله في السابق مبلغاً محترماً يكفينا ويشجعنا على الصمود". وبهذا لا تخفي مارسيل مارينا شعورها بالتقاعد المبكر وهي بعد في اوج عطائها إذ تقول: "اشعر اليوم بأنني تقاعدت قبل الأوان إذ لا يوجد اي امل ولا بصيص نور. صحيح يقول المثل: تفاءل بالخير تجده إلا اننا مللنا من التفاؤل من دون جدوى. وكما ترون مشاركاتي اليوم قليلة وصغيرة حيث لا اظهر إلا مرة كل خمس سنوات الأمر الذي يؤدي الى حرق الفنان في الوقت الذي انا فيه في عز عطائي وتقديم الأدوار الجيدة وعز ظهوري على الشاشة واندماجي مع الخريجين. فنحن من يجب ان يكون السند لهؤلاء والأساس. إذ كما ان البناية لا تقوم إلا على عواميد ثابتة هكذا في الوضع الفني على الجيل القديم ان يكون اساس الجيل الجديد. خسارة إذ لا أتأسف إلا على كوني في الأساس لم ابن لنفسي وظيفتين بدلاً من ان يكون التمثيل عملي الأول والأخير. لذلك ادعو الشباب الى عدم الاتكال على هذه المهنة وحدها إنْ ارادوا العيش عيشة لائقة". وهكذا وبعد فترة انقطاع طويلة عن الشاشة، عادت مارسيل مارينا في اواخر التسعينات من خلال مسلسل "اسمها لا"، إلا ان العودة لم تكن مكتملة إذ ما لبث ان توقف البرنامج مع توقف تلفزيون لبنان القسري ووجدت مجموعة كبيرة من النجوم نفسها من دون عمل الى ان ظهرت مارسيل مجدداً في عدد من حلقات المسلسل الرمضاني "صائمون... ولكن". اما اليوم وبعد ان انهت تصوير مسلسل "بلا نجوم" فها هي تنتظر عرضه على الشاشة لمعرفة رأي الجمهور فيه إذ تقول: "تعبنا كثيراً على هذا العمل وكنا كلنا فريقاً واحداً إذ ضم مجموعة كبيرة من الفنانين الكبار مثل: كميل سلامة، هيام ابو شديد، وفاء طربيه، انطوان بلابان، جناح فاخوري، اسعد رشدان، سمير معلوف... وتعاملنا مع الوجوه الجديدة بكل محبة. وكما نرى حاولوا في هذا العمل جمع الكبار مع الجيل الجديد وكان الرابط جميلاً جداً. فالعمل مع المخرج شارل صوايا لا يوصف، ومن جهة ثانية اظهر الكاتب كميل سلامة احتراماً كبيراً للفنان الكبير وذلك ليكون له وجود في العمل والنص من دون ان يهمل الشباب الذين وضعهم في مكانة معينة وجعلهم كلهم ابطالاً، اما شخصيتي فيه فهي زلفة تلك المرأة القاسية التي ورثت بانسيوناً من اهلها واضعة نصب عينيها فكرة تحويله الى فندق وممارسة كل انواع السيطرة والتسلط على زوجها جليل الذي كان مجرد عامل في البانسيون ويلعب دوره سمير معلوف الذي هو زوجي في الحقيقة. وبذلك يمكنني القول انني "فشيت خلقي" في هذا المسلسل إذ انقلبت الأدوار عما هي عليه في الحياة طوال فترة التصوير". فرحة العودة ولا تخفي مارسيل فرحتها الكبيرة بالعودة الى المشاهدين من خلاله وتضيف: "كنت سعيدة جداً في هذا المسلسل ولا علاقة لذلك بكبر الدور بقدر ما كنت فرحة بالعمل بحد ذاته. من هنا اعطيت فيه بكل سعادة لأن الدور هو الأساس في نظري مهما كان حجمه، إذ لا مانع عندي في الظهور في حلقة واحدة من احد المسلسلات كضيفة شرف إن كان الدور يلائم مركزي. واليوم في "بلا نجوم" لعبت شخصية جديدة لم يسبق ان قمت بها من قبل اعني شخصية المرأة القاسية، ولا انكر خوفي في البداية من هذا التغيير لكن على الفنان ان يجسد كل الأدوار ولا يكتفي بلون واحد يطبع مسيرته". وتختم قائلة: "في النهاية اتمنى ان يتقدم الفن في لبنان وتعود إليه مكانته السابقة. فيكثر المنتجون وتبدأ المحطات التلفزيونية بتخصيص موازنة لائقة للأعمال المحلية بدلاً من تكريس اهتمامها لبرامج الألعاب. كما اتمنى للجيل الجديد ان يترك بصماته في الأعمال التي يقدمها".