"رحل الشاعر العراقي رعد عبدالقادر على اثر نوبة قلبية حادة..." خبر من سطرين نقلته إحدى غرف "البالتوك" على شبكة الانترنيت... غرفة البيت العراقي، غرفة يتبادل فيها العراقيون المنفيون أحاديث وأخباراً شتى في غياب الوطن، معظمها لا يسر بالتأكيد... وخبر في غرفة - كهذه - يتناسب على ما يبدو مع الظروف الحالية، التي من الممكن أن يرحل فيها شاعر كرعد عبدالقادر، في بلد يبدو بعيداً كالعراق... في الصيف الماضي وتحديداً في أواخر تموز يوليو زار رعد دمشق والتقينا بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة منذ مغادرتي العراق، كان وفد الصحافيين العراقيين الذين دعاهم اتحاد الصحافيين السوريين في دمشق، محكوماً ببروتوكولات الزيارات الرسمية ومفرداتها، وكان رعد بالذات مضغوطاً، برقابة داخلية صارمة تفرض عادة على أعضاء الوفود العراقية المسافرة، خصوصاً إذا كانت تمثل إحدى الجهات التي يترأسها عدي. ولكن هل كان ذلك مما يضير شاعراً مثل رعد؟ كلا بالتأكيد، فهذا الشاعر ذو سيرة حميدة، لم ينخرط في "السيرك" الذي دخله الكثيرون هناك، ولطخوا وجوههم بحبر متعدد الألوان، ليلعبوا اللعبة الأثيرة: المهرج الذي يروِّح عن السلطان... وعندما خرجوا من هذا "السيرك"، ومن الوطن برمته حاولوا، غسل الوجوه من طلائها، والتنكر لحبرهم القديم المضحك، والكتابة بحبر يستعير الدموع هذه المرة، وصوغ سير أخرى... كانت هذه النقطة مدار حديثنا عندما التقينا في مقهى الروضة في دمشق، بعد أن تملص رعد لبعض الوقت، كي نلتقي، قائلاً إن لقاءه بي، والتواصل مع أخبار الأصدقاء في مختلف المنافي، أهم مفردات سفرته. "سيقضون علينا قبل أن يموتوا، كانت هذه هي جملة رعد عبدالقادر إزاء استغرابي من الشيخوخة التي أسرعت إليه، ابيضاض شعر الرأس تماماً، وتحوله إلى ثلج خالص يوحي بالشتاء الأخير، بعد أن تركته في مقهى حسن عجمي في بغداد، وشعر رأسه اقرب إلى الرماد منه إلى الفحم القديم الذي احترق في الموقد! وبدا الشحوب الواضح على وجهه منعكساً لاحتراقات داخلية ممضة يعيشها شخص رقيق كأبي حيدر. أما حبات السكرين التي يضعها في كأس الشاي الذي تغير طعمه تماماً، فكانت تشير إلى مدى خطير، بلغه مرض السكر عنده، فيما الأنفاس المتقطعة بنوبات السعال تشير إلى تعب القلب. تفاصيل تؤكد أن الشعراء والبشر عموماً يستنزفون في العراق قبل أوانهم. غير أن قامته المديدة كانت منتصبة تماماً، هذا ما لاحظته ونحن نقطع طريق الصالحية. قامته المديدة إذاً أكثر ما ذكرني برعد الذي اعرف منذ أكثر من عقدين من الزمن وعززت لدي فكرة الشاعر الذي يشبه النخيل، النخيل وحده يبقى واقفاً ويموت كذلك في بلاد النهرين، او في بلاد بين سيفين على تعبير سعدي يوسف. لم أكن في حاجة الى سؤاله من هم الذين سيقضون علينا، فلدى الشاعر، يستوي جميع القتلة ولا فارق بين الطغاة أو الغزاة، أو العملاء وحتى الشعراء، فالكل على حد سواء، وفي كل الأمكنة وعلى الجانبين! ترك رعد لدي في ختام لقائنا ما يتركه الشعراء قبل موتهم، أو ما يودعونه في كل مكان ويصبح بعد رحيلهم وكأنه الوصايا الأخيرة: نسخاً من ديوانه الأخير "صقر فوق رأسه شمس" الذي طبعه على حسابه الشخصي وسط ظروف الحصار المعروفة، ووقعها بإهداءات لبعض من أصدقائه وشعرائه المفضلين لأتولى إيصالها اليهم لاحقاً سعدي يوسف وعباس بيضون وأدونيس وفوزي كريم ومحمد جمال باروت وفاضل العزاوي وكمال سبتي... ترك أيضاً مخطوطة بصفحات قليلة من ديوان شعري جديد يعيد صوغ بغداد العباسية في شكل ترميزي لا يخلو من نبرة احتجاجية تهكمية، وكان يدفعها إليّ كمن يريد انقاذها من خراب مقبل حقاً، وأودعني أيضاً قصائد أخرى متفرقة كلها كانت بمثابة الوديعة... الآن كيف لي أن افهم هذه الوديعة؟ بعد تلك الزيارة ظل رعد يتواصل معي من خلال المترجمة العراقية خالدة حامد، عبر البريد الالكتروني. كان ذلك يعني الكثير لمثقفي بلد محاصر، وكنت اجتزئ الصفحات الثقافية من بعض الصحف العربية وأرسلها لهم طالما انها تهمهم. وكان من بين ما يرسلون إليّ قصائد وحسب!! ومن بينها قصيدته الأخيرة التي كانت آخر ما وصلني من بغداد، ولعلها كانت آخر ما كتب، يطلب مني نشرها في "الحياة"، وها هي تنشر ولكن بعد رحيله. رعد عبدالقادر الشاعر الذي لا يقوى على مكابدات السفر ولا يؤمن بفوائده، على رغم أنه حاصل على شهادة دكتوراه في الفلسفة الإسلامية كانت لتنفع في إيجاد عمل له خارج العراق لو أراد، ينعطف الآن في سفره وحيداً، ليحقق المنفى الكلي وهو في الوطن/ المنفى... وكثيرون سواه يعيشون في المنفى من دون أن يحققوا فكرته. في الأيام الأخيرة انقطعت الصلة المتواصلة، عبر البريد الالكتروني. كان الخبر الأهم عن العراق هو الفصل الجديد من الحرب النفسية التي بدأت الولاياتالمتحدة بتصعيدها عبر إرسال رسائل بالبريد الالكتروني تدعو إلى التمرد على صدام. وكانت النتيجة أن قامت السلطة في العراق بإغلاق نافذة أخرى وتعطيل خدمة البريد الالكتروني عن عدد محدود من العراقيين كانوا ينعمون وننعم معهم بهذا التواصل! ولم تنجل غبار هذه المعركة، إلا عن تسرب هذا الخبر ذي السطرين وهو ينعي أبا حيدر بنوبة قلبية حادة ظهر الاثنين الماضي.. إذاً هل بدأت الحرب مع هذه الرسائل الالكترونية، وهل كان الشاعر أول المفقودين فيها؟ موت رعد عبدالقادر والحال هذه، يلتقي في المغزى العام مع مقتل الشاعر محمود البريكان، مع أن رعد يصغر البريكان ربع قرن! ذلك إن موت الشاعر في الظل، وفي ظروف خانقة، ناهيك عن حياته الصعبة المنتهية على عجلة ما، يلخص هذا المغزى... وإذا كان البريكان اختار الظل بنفسه، وهو ما سلط عليه أضواء من نوع آخر، جعلت العتمة التي يعيش فيها مغرية أكثر من الشمس التي يحيا تحتها الآخرون، وجعلت سيرته، كذلك، ترتبط لدى البعض بنوع من الهالة المشحونة بأقوال متعددة التوجه والغايات، فإن رعد عبدالقادر لم يختر هذا الظل بنفسه، بل إن الحروب المتلاحقة والحصارات المركبة، هي التي نحَّته باتجاهه، حتى جعلته على رغم كتبه الشعرية الخمسة وتجربته المتميزة بين شعراء جيله، غير معروف عربياً قياساً الى مجايليه، وحتى الى أبناء الجيل الذي أعقب جيله. ظل رعد عبدالقادر لأكثر من عقد مضى، نموذجاً للمثقف العراقي الذي يعيش داخل الوطن، من دون أن يطلي وجهه بحبر الحيلة ويدخل "السيرك"، ثم يهرب بما أوتي من عطايا! الحق إنه ذهب إلى قبره شاعراً فحسب في زمن صعب وفي بلاد تقتل الشعراء. بالهدوء المعهود الذي عاش به رعد عبدالقادر خارج ضجيج السبعينات، يرحل الآن، ولم يعد في مقدور أحد من فرسان ذلك العرس القديم الذي استمر طويلاً، سوى الانحناء أمام مثل هذا الهدوء الذي يختاره رعد ليمر نعشه وحيداً في الوطن كما مر نعش سواه وحيداً في المنفى، المنفى الذي استغرق الجهتين! لا شيء الآن أيها السامرائي البعيد، سوى لحظات سريعة، ككاميرا تلتقط صوراً عابرة لطفل بدشداشة بيضاء يرفع بصره مع الزائرين، ويداعب الحمامات اللائذة بالمنارات العالية للإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي، لا شيء الآن سوى الطفل يستهدي بزحام العباءات العراقية السود أمام سرداب الغيبة، لأمهات يذرفن الدموع أمام السرداب منذ قرون، توسلاً بمنقذ من هذا النفي الطويل، من هذا المنفى المستحيل.