لا أظن أن مثقفاً عربياً عانى، ولا يزال يعاني، مرارة المنفى مثل المثقف العراقي الذي كتب عليه أن ينتقل من منفى إلى منفى، على امتداد الكرة الأرضية، تكفيراً عن جريمة التفكير الحر والإبداع الجسور والمخالفة التي تؤكد الحضور. تكاثرت المنافي العراقية، خارج العراق، كي تستوعب كل من لم يستطع تجسيد حلمه في وطنه، وكل من انقلب الوطن في عينيه من حلم إلى كابوس. وماذا يفعل المثقف، أو الكائن، حين يضيق عليه الواقع المحبط، ويغدو أضيق من ثقب الإبرة؟! ليس أمامه سوى الفرار الذي يتجدد كل صباح، الفرار الذي قصد إليه أمل دنقل في قصيدته "الطيور"، عندما تحدث عن النفوس المتمردة كالطيور التي ليس لها أن تحط على الأرض، وليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح، مرشوقة في امتداد السهام المضيئة للشمس، أو الحرية. وكل حالات النفي العراقي التي أعرفها، وقابلت أصحابها من الأصدقاء الأعزاء في أقطار عدة من المعمورة الإنسانية، هي حالات نفي ذاتي، نفي لم يكن بقرار من سلطة حاكمة كما نفت سلطة الإنكليز محمود سامي البارودي إلى جزيرة سرنديب بعد فشل الثورة العرابية، وأحمد شوقي إلى أسبانيا بعد خلع راعيه وحاميه الخديوي عباس حلمي الثاني، وإنما نفي بقرار من صاحبه أو فاعله، قرار ذاتي هو اختيار وموقف وخلاص. والمنافي العراقية تبدأ من الداخل ولا تنتهي في الخارج، تبدأ من غربة الروح واغتراب الوعي في العالم المعادي، وفي الواقع الذي لا يستطيع المثقف تغيير شروطه، ولا قِبَل له على احتماله، فيغدو الوعي كالروح أسير حال من التوحد، هو نوع من الانطواء على النفس وكتمان أسرارها، وممارسة التقية التي تضع من الأقنعة ما لا يخفي الإشارات المراوغة للمسكوت عنه من الكلام المقموع. أما منافي الخارج فأصلها الاغتراب الداخلي الذي يدفع إلى الغربة، والقهر الذي يدفع إلى الفرار، واليأس الذي يدفع إلى البحث عن خلاص في الخارج، على امتداد الكرة الأرضية، بعيداً من الوطن السجن الذي لا يفارق الحنين إليه وعي المغترب. هل تعدّد المنافي العراقية وكثرة المنفيين العراقيين السبب في الثراء الإبداعي الاستثنائي في تجربة المنفى التي لا تزال تطبق على الأدب العراقي المعاصر، المكتوب في الغربة؟ أحسب أن الأمر كذلك، فلا ثراء يعادل ثراء تجربة المنافي العراقية في الكتابة العربية المعاصرة. وهو ثراء يشمل كل أنواع الأدب الشعر والرواية والقصة القصيرة.. وأنواع الفنون التشكيلية فضلاً عن فنون الأداء. وكثرة المبدعين العراقيين الموزَّعين على المنافي تؤكد هذه الملاحظة، حيث يعلو الصوت العراقي في المغتربات الأدبية على كل الأصوات العربية المغايرة، سواء في تجمعات هذا المغترب الأدبي أو ذاك، أو في أنشطة الأفراد من المبدعين المغتربين في عوالم الشتات. وليس مصادفة - والأمر كذلك - أن يعاني شعراء العراق، قدر الموت في الغربة: السيّاب مات في الكويت. بلند الحيدري مات في لندن. الجواهري والبيّاتي ماتا في دمشق. والقائمة طويلة تضم إلى الشعراء والمبدعين غيرهم من المثقفين الذين ماتوا بعيداً من وطنهم الذي حُرِموا منه. أذكر صديقاً عراقياً صحبني إلى قبر كارل ماركس المدفون في إحدى حدائق أطراف لندن. وكنت ذهبت لزيارته في صحبة صبري حافظ في المرة الأولى. وفي الثانية صحبني الصديق العراقي، وتوقفنا أمام القبر الذي يعلوه تمثال ماركس لنلاحظ القبور العراقية المحيطة به لقيادات الحزب الشيوعي التي فرّت من العراق، واستقر بها المنفى في لندن، حيث ماتت ودفنت بجوار الرمز والحلم المستحيل. ولفتت نظري - للمرة الثانية - النقوش العربية المكتوبة على القبور، ومنها نقش متكرر يقول: "وطن حر وشعب سعيد". شعار بذل من أجله عراقيون كثرٌ حياتهم، ولا يزالون إلى اليوم. وما أكثر الذين عرفتهم من المنفيين العراقيين على امتداد سنوات عمري. كانت البداية في القاهرة، خلال الفترة الناصرية، حين كانت الساحة الثقافية المصرية تحتضن أمثال عبدالوهاب البياتي في الخمسينات، وكنت ألقى غيره من المثقفين المغتربين العراقيين على مقهى "لاباس" الشهير، أو غيره من المقاهي التي ذهبنا إليها شبّاناً يافعين لنرى البياتي إلى جانب أقرانه الشعراء المصريين والعرب الذين وجدوا في قاهرة الخمسينات الصاعدة ملاذاً ووعداً، فملأوا أمسياتها إبداعاً كان احتجاجاً على المنفى. وعندما اختلفت أحوال القاهرة، هجرها المغتربون العراقيون إلى غيرها من العواصم العربية، لكن الغالبية وجدت ملاذها الآمن في دول أوروبا والولايات المتحدة، بعيداً من قبضة الأنظمة العربية التي لا تتخلى، قط، عن تحالفاتها الأمنية. وعندما ذهبت إلى السويد للعمل أستاذاًً زائراً في جامعة استوكهولم، عرفت الكثير من المثقفين العراقيين الذين فرض عليهم الاغتراب قسراً. وكنت مثلهم أعاني مرارة النفي الذاتي الموقت، بعد أن طردت مع زملاء لي من الجامعة، عقاباً لنا على الاحتجاج ضد سياسة السادات الاستسلامية. وكان السادات أصدر قراراته الشهيرة في أيلول سبتمبر 1981 باعتقال مثقفين مصريين، وطرد البعض من الوظائف، فتحولت مصر إلى ما يشبه المنفى الذي يدفع إلى الرحيل عنه، وانتهى الرحيل بي إلى جامعة استوكهولم التي انطلقت منها إلى غيرها من جامعات السويد، ملاقياً في كل جامعة المثقفين العراقيين الذين اتخذوا السويد منفى اختيارياً. وصادقت من هؤلاء كثراً في العواصم الأوروبية التي قابلتهم فيها، مدريدولندنوباريس وأثينا وروما وغيرها من العواصم الأوروبية، ومدنها الكثيرة، فضلاً عن نيويورك وبوسطن ولوس أنجليس وغيرها من المدن الأميركية. وعندما استرجع، الآن، ذكرياتي مع المثقفين العراقيين الذين اعرفهم، أكتشف ما لم يرد على خاطري من قبل. اكتشف، مثلاً، أنني لم أقابل صديقي بلند الحيدري - رحمة الله عليه - في العراق قط، لقيته في صنعاء، وفي القاهرة، وفي بيروت، وفي أصيلة - المغرب، وظللت ألقاه في منزله في لندن وأنعم بكرمه وزوجه الفنانة التشكيلية إلى أن توفاه الله. الأمر نفسه مع العزيز سعدي يوسف، مد الله في عمره، لم ألقه في العراق قط، ولا نزال نلتقي خارج العراق، في المنافي الاختيارية التي لا يزال سعدي يتنقل بينها، قبل أن يحط رحاله في لندن. وأقول الأمر نفسه عن حسب الشيخ جعفر، وعن عشرات غيره: فاضل العزاوي، سركون بولص، عبدالقادر الجنابي، فؤاد التكرلي، فاطمة المحسن، ومظفر النواب. ولا أنسى البياتي الذي لم أره في بغداد سوى مرة واحدة، مذعوراً، خائفاً، لم يطمئن إلا بعد أن فارقها، عائداً إلى منافيه الكثيرة، غير ناسٍ بغداد التي غنى لها في منافيه أغاني عدة، أذكر منها "أغنية إلى بغداد" من ديوانه "كلمات لا تموت". وهي القصيدة التي كتبها في دمشق: بغداد برحّنا الهوى،/ لكن حراس الحدود/ يقفون بالمرصاد/ حراس الحدود/ يا مَنْ أغنيها،/ فتسألني لماذا لا أعود؟/ لم تسأليني/ والليالي السود دونك والسدود. وتدفعني أبيات البياتي إلى أن استرجع ما كتبه سعدي يوسف في مقالاته التي جمعها تحت عنوان "يوميات المنفى الأخير" 1983 بصفتها نموذجاً دالاً على غيرها. "المكتبة الملعونة" كتبها سعدي في بيروت، قبل أن يرحل عنها - بسبب الحرب - إلى منفى آخر، في عدن التي لم تكن "المنفى الأخير" كما حسبها سعدي، فقد جاءت باريس بعدها ودمشق وانكلترا التي لا نعرف ما بعدها. ويحكي سعدي عن محاولته صناعة أرفف جديدة في بيته البيروتي، وتستدعي المكتبة الجديدة ذكريات المكتبات السابقة: المكتبة الأولى المختارة بعناية، طوال سنوات الدراسة في الكلية، وخلال سنوات العمل الثلاث. هذه المكتبة الأولى فارقها سعدي حين غادر وطنه إلى المنفى الأول سنة 1957. وعندما عاد بعد سنوات لم يجد مكانها إلا الذكرى، فأخذ يجمع مكتبة جديدة، في هوس وحمى، مخصصاً لها غرفة خاصة. لكنه لم يهنأ بها طويلاًً، إذ سرعان ما ألقي القبص عليه سنة 1963، وفُتِش المنزل، وبخاصة المكتبة التي تحولت إلى تهمة، وإلى عبء على الأهل. السنة اللاحقة جاءت في الجزائر، المنفى الجديد الذي شهد تكوين بداية جديدة، وانتهت إلى النتيجة نفسها في أواخر 1971. وأغلب الظن أن المكتبة البيروتية احترقت في الحرب بقذيفة إسرائيلية، في غرفة كتلك الغرف التي وصفها سعدي في ديوانه "مريم تأتي" - قصائد بيروت المحاصرة 1982 - حين كتب : غرفة/ ليس فيها سوى مكتبهْ/ وسريرٍ/ وملصقْ/ جاءت الطائرةْ/ حملتْ في الهواء السريرْ/ وخطّت بصاروخها بعض ملصقْ.