المواطن البصري المعروف بأخبار البحر الاسطورية، السندباد البحري، لم يكمل رحلة واحدة من رحلاته السبع. في كل مرة وفي انتصاف الرحلة كان الموج يلقي به على شاطئ أرض غريبة، بعيدة عن البصرة ليعيش فيها أوديسة يعود بعدها إلى دارة أحلامه وأرض أهله "البصرة". يعود ليقص رحلة غربة غريبة حل فيها على أرض مجهولة تُريه مجهوليته - بعيداً عن الحظوة التي تميزه كأرستقراطي بصري - بين مناظر وأقوام سحرية - معادية - يفلت من مسها بشجاعته وذكائه ومعرفته بالبحر كما الأرض. حينما نقرأ أسفار السندباد نتساءل عن إصرار هذا البحار العجائبي في اللاوصول؟ بحار في هذه الرغبة العميقة التي نكتشفها في ثنايا مقدمة الرحلة في البقاء ليس بعيداً جداً عن أرض البصرة؟ إذ أننا نتيقن منذ البداية بأن الرحلة لن تبلغ هدفها عكس العبارات التي توحي بذلك في متن النص، كأن اكتمالها هو وصول إلى "أرض الصد ما رد" أي أرض اللاعودة بالتعبير العراقي. هل كان هذا البحار العراقي يؤلب أقدار البحر بسبق إصرار كي لا يصل إلى أرض يعرف أنه لن يعود منها؟ وفي مراجعة لأدب الأسفار نضع أعيننا على حقيقة مفرطة في التناقض، لم يكن العراقي جوالاً، لا في البحر ولا في البر. السندباد ومواطنه الآخر الحسن البصري "البري" تجولا في العالم عبر الحكاية المقطوعة بالعودة إلى مسقط الرأس، إلى الأهل الساكنين على ضفاف الأنهار. تدور رحلاتهما القليلة ما بين سلف وآخر وقرية وأخرى أو قرية ومدينة. منذ طوفان نوح وكل قرى العراق ومدنه راسية على الأنهار كأنها افلاك تنتظر طوفاناً آخر. كل أرض تغدو قصية ان كانت ما وراء النهر، والعراقي لا يعبر النهر إلا لماماً. من سكن ضفاف دجلة ظل عليها ومن سكن ضفاف الفرات ظل فراتياً، ولكل منهما طبائع وأعراف وشيم وسحنات وأطوار نحتتها الضفاف. الأغنية العراقية تردد: "الميت بأرض الغير وحده يموت وحده لا كفن لا ناس لا تابوت". فالغريب عن ضفاف أهله عدم مضاع ليس له من زاد الدنيا شيء وليس له مما يقوده للآخرة من شيء. إنه عار حتى من لبس النشور. جلجامش الملك وسليل سومر، الباحث عن الخلود في أول حكاية عن الهجرة والموت، عاد ليموت في أور منزل أهله عند ضفاف الفرات. لكي يبقى ذكره في البرية شيد أسوار المدينة عالية لتمنع أحفاده من الهجرة للأرض البعيدة ما دامت نبتة الخلود لم تعد في مستطاع البشر. جرت العادة، في التاريخ على الأقل، ان تصل الهجرات إلى ما بين النهرين ثم لا تغادرها بعد ذلك. من وصل "أرض السواد" ظل عليها كأن ما وراءها بياض - عدم. شلمناصر ملك آشور وافته المنية حينما خرج بجيوشه بعيداً عن سواده وحفيده سنحاريب الذي مضى نحو منبع النهرين مات هناك في الأرض البعيدة، غريباً بين الجبال القصية المكللة ببياض الجليد. عند العراقيين كل من بعد عن سكناه صار غريباً: الذي يتزوج بامرأة من قرية أخرى يقال عنه "متزوج من أجنبية"، والذي يمضي بعيداً عن قبيلته ومرابعها يبقى بين الآخرين أجنبياً طوال حياته. غير ان من يصل لما بين النهرين يسكن عند الضفاف. حتى أبناء مملكة يهوذا الذين جيء بهم لبابل سكنوا عند النهر وأقاموا لهم مدناً وجامعات عند الفرات وصارت أكاديمية نهردعا وسورا وبوميديتا حواضر يكتبون منها تاريخ الديانة وتعاليمها. لم يوافق العراقيون على التاريخ الهجري الذي بدأ به الإسلام. وقع الهجرة في ذاكرتهم الجمعية له طعم فراق الأوطان، اختاروا تاريخاً آخر هو كناية عن الفراق والرغبة في الاستقرار معاً. أقصد تاريخ وصول الحسين بن علي مهاجراً من المدينة إلى كربلاء ومقتله "استقراره النهائي" في أرض السواد. إنه التاريخ الموازي الذي يحتفل به شيعة العراق كل عام أول عاشوراء، خالطين واياه تاريخاً آخر كامناً في البعيد من ذاكرتهم. فالعراقي لا يريد مكاناً للهجرة في تاريخه، فمياه النهرين في هجرتهما نحو الخليج تتدفقان كل يوم بالحنين والشوق الأزليين في أرواح أهل الضفاف. هكذا، فحين ترك بدر شاكر السياب بصرته نهاية الخمسينات من هذا القرن نحو الكويت التي تبعد عنها مسيرة ساعات، وجد نفسه في منفى بعيد، في أرض الصد مارد، في عنفوان فراقه كتب أجمل قصائد المنفى في شعرنا الحديث: أعلى من العباب يهدر رغوة ومن الضجيج صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون الريح تصرخ بي: عراق والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق! البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون... قبله، في أوائل القرن كان عبدالمحسن الكاظمي شاعر مهجرنا الأول، الذي ولد في بغداد، يكتب من مصر قصائد الشوق لمدينته الأم، محملاً أياها للمسافرين وللأجيال التي ستأتي بعده ليشهدوا على محنة تغربه في مصر التي كات فيها غريباً والتي جسدها تمثاله الذي وضع قرب دجلة عام 1975، بعد ثلاثين عاماً من موته. هكذا كان المشهد العراقي في سكونه الملتف على نفسه كقوقعة وحنينه الشعري المتطرف، قبل أن تهب رياح السبعينات التي ستغيره، بل ستهدمه في زمن قياسي. ففي منتصف ذلك العقد ستبدأ أوليات الهجرة إلى الخارج تحت وطأة أوضاع سياسية ستزداد تعقيداً في الثمانينات بسلسلة حروب كأنها دون نهاية بمواكبها الجنائزية وعنفها الاستثنائي الذي ضرب العقلية والمخيلة العراقية في الصميم. إن الهجرة التي كانت في أوائل السبعينات تبدو للبعض كحل موقت وفردي ستأخذ بعد سنوات صيغة موجات بشرية مليونية وفي الاتجاهات كلها: شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، قريباً من العراق وبعيداً عنه. من دمشق إلى طهرانوبيروت وصنعاء، ونيقوسيا واثينا وروما وباريس ولندن واستوكهولم وكوبنهاغن وبرلين وديترويت وبوسطن ومونتريال وسيدني وكوالالمبور وكراتشسي ومدن أخرى لم يكن يعرفها أبناء النهرين إلا على خرائط أطلس العالم. دفعات وصل تعدادها في تقديرات إلى الأربعة ملايين، بل أن اندفاع مليوني كردي، وأمام عدسات العالم، إثر سحق الانتفاضة العراقية عام 1991، باتجاه الحدود التركية والإيرانية يعد رقماً قياسياً في تاريخ الهجرات قاطبة، لشعب لم يكن من "أبناء المراكب" كما يصف الأرجنتيني بورخس شعبه. الأحداث التي عصفت بالبلاد منذ عقدين خصوصاً غيرت بوصلة العراقي التي كانت تشير دوماً إلى النهرين. فجأة أصبحت بقاع العالم النائية ملجأ ومشروعاً للمواطنة الموقتة، أقول ذلك، إذ منذ البدء حاول المنفيون أن يعطوا صورة أجمل لفجيعتهم التي لم يكن هيناً عليهم، كأفراد أو مجموعات، الاعتراف بها كحالة عطب تاريخي للهوية وللعلاقة مع المكان من خلال اعطائها مسحة ثقافية تعوض البلاد المفقودة، أو على الأقل كممارسة توحي بعدم الانقطاع التام عن المكان الأصلي الذي بقي عند ضفاف النهر. رغم العدد الهائل للمهاجرين ومرور عقدين على هجرتهم، فلا وجود لجاليات عراقية بالمعنى الاجتماعي، يمكننا عوض ذلك الحديث عن جاليات "ثقافية" في هذا الشتات هي لسان حال الرحلة الثامنة للسندباد التي لم تقص فصولها بعد. في أول وصولهم إلى فرنسا منتصف السبعينات حاول المنفيون العراقيون نشاطهم الثقافي، بمفرده، كان الشاعر عبدالقادر الجنابي يصدر نشرته "الرغبة الاباحية" كلسان حال السوريالية العربية، وبجانبه كان فاضل عباس هادي في لندن يصدر "النقطة" من لندن. "أصوات" المجلة العراقية التي أصدرها خمسة كتّاب عراقيين، كانت من أوائل المجلات العربية التي صدرت من العاصمة الفرنسية، سنوات قبل أن تتحول باريس إلى عاصمة ثانية للصحافة العربية. وفي بيروت حين وصول الدفعات الأولى من اليسار العراقي الهارب من قمع التهيئة للحرب العراقية - الإيرانية، صدرت مجلة "البديل" التي لم تتوقف بخروج العراقيين من بيروت عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان. في الحقبة نفسها، وفي كولون - المانيا كان الشاعر الشاب خالد المعالي قد بدأ اصداراته الأولى في "منشورات الجمل" كأول دار نشر عراقية في المنفى. وفي 1989 وبعد عام من افتتاح معهد العالم العربي في باريس الذي لم يحظ مثقف عراقي بدخوله كموظف، سيؤسس المعماري العراقي محمد مكية، المقيم في لندن، أول مؤسسة ثقافية عربية من نوعها في العاصمة البريطانية "غاليري الكوفة"، التي ستصبح المعهد الثقافي العربي الأكثر سطوعاً في لندن إلى جانب دار الساقي. في أوائل التسعينات وخلال التصاعد المأسوي للأحداث للذي سيقود إلى الحرب الأكثر كارثية في تاريخ العراق الحديث، سيؤسس كاتب السطور "المنتدى الثقافي العربي" الذي سيحتضن عشرات المشاريع الثقافية العربية في فرنسا، لعل أشهرها "الملتقى الشعربي العربي - الفرنسي". على نحو آخر ومنذ نهاية الثمانينات كان الشاعر صلاح نيازي في لندن يصدر بانتظام مجلته "الاغتراب الأدبي" التي ستحفز في ما بعد مواطنه الشاعر فوزي كريم على إصدار مجلته "اللحظة الشعرية". وبين الجنوب الأوروبي وشماله كان المنفيون العراقيون يصدرون "النار" في استوكهولم، و"جسور" في مالمو في الجنوب السويدي، على الطرف الآخر ومع وصول أوائل العراقيين إلى مدريد ستصدر مجلة "ألواح". بعد حرب الخليج تأخذ مجلة "فراديس" التي أسسها عبدالقادر الجنابي وخالد المعالي صداها العربي بإثارتها للمشكلات الثقافية العربية بحرية نادرة، محاولة خلق ثقافة رفض بديلة غب الانكسار العراقي الشامل، قبل أن تختفي كثمن لنجاحها فيواصل المعالي اصدار "عيون". ومن دمشق يعلن فخري كريم عن تأسيسه "دار المدى" والمجلة التي ستحمل اسم الدار التي سيرأس تحريرها الشاعر سعيد يوسف. في زمن قياسي ستصدر المدى العشرات من الكتب العربية والمترجمة. في الشرق الأوروبي، وعند أول انفتاح سياسي يصدر الشاعر نبيل ياسين مجلة "مرايا" في بودابست على رغم قلة عدد الجالية العربية في تلك البلاد. وفي المنفى الأكثر جدة، في هولندا حيث يصل في دفعات متقاربة مئات العراقيين اثر حرب الخليج والسنوات التي ستليها، يصدر الناقد ياسين النصير جريدته الأدبية "ثقافة11" ويصدر الشاعر الشاب صلاح الحيثاني مع مجموعة من الادباء القادمين من معسكر اللجوء في رفحاء اثر مشاركتهم في الانتفاضة العراقية 1991، مجلة "واحد" كمحاولة لبدء تاريخهم الأدبي من جديد. وفي الصقع البعيد جداً عن العراق، في أطراف العالم الجديد، حيث استوطن منذ حين قريب عشرات الألوف من العراقيين، يصدر الكاتب سعدي المالح جريدة اسبوعية عربية في مونتريال "المرآة" يعقبها بعد نجاح تجربته بمجلة "عشتار" الفصلية. التشكيليون العراقيون كالموسيقيين بجهودهم الفردية وبكفاءات مختلفة حاولوا المواصلة بشل آخر لكن بدرجة أقل من أهل القلم بحكم طبيعة عملهم المختلف الذي يحتاج إلى مؤسسات وورشات عمل وتدريب باهظ التكاليف. على ذلك ذلك، فإن حضورهم يشمل بقاعاً عدة، خصوصاً البلاد العربية، ولعل الموسيقي نصير شمة خير تعبير عن هذه الحال، فهو تنقل بترحاب في أكثر من قطر عربي، كذا الحال في النشاطات المسرحية التي يمثلها أحسن تمثيل المسرحي العراقي جواد الأسدي الذي يجوب أكثر من بلد عربي محققاً بذلك نشاطاً فريداً لمخرج فريد. إن مشروع المواطنة الموقتة رديف لأكثر المشاريع الثقافية العراقية في الخارج والتي تتميزه الفردية بشكل أساسي. فليس ثمة مشاريع جماعية ناجحة، على العكس من ذلك، انفرطت بزمن قياسي أكثر المشاريع التي ابتدأت كمشاريع جماعية، إذ ان هدف أكثر المبدعين العراقيين، كما يبدو، هو تلك المغامرة الفردية التي توحي بالمواصلة ليس بعيداً عن المكان الأول، وتبرر الوجود خارجه، بعيداً عن النهرين، عبر اقامة غير مادية ومن دون جذور. شيء من روح سحرية، سندبادية يسكن أذهان أكثر المثقفين العراقيين بانتظار عودتهم، ولعل تجربة مجلة "قصص" التي اجترحها الشاعر والقاص كريم عبد قبل عامين حال وصوله لندن أو تجربة الشاعر علي الشلاه في اقامة مؤسسة ثقافية عربية في بيته، حال وصوله إلى سويسرا في العام الماضي، تعبيران عن التبريرية للاقامة خارج البلاد. على اتساع خارطة الشتات العراقي البعيد يتسع المشهد منذ أكثر من عقدين من دون ان تلد جالية عراقية في مكان ما "باستثناء إيران وسورية!". علق شاعر عربي ذات يوم وهو يتحدث عن حجم النشاط العراقي في الصحافة العربية: ماذا سيحدث لو عاد كل هؤلاء إلى وطنهم؟ ليس الأمر في غاية الصعوبة لكي نتخيل ما يلي: سيعود هؤلاء في يوم ما لكي يرووا مواطنيتهم الموقتة، كما كان السندباد يروي لأهل البصرة مغامراته ومواطنيته في جزر سحرية بعيدة، سيعودون ليقصوا الرحلة الثامنة للسندباد، الرحلة الأطول والأكثر سحراً ومشقة، في البر كما في البحر، والتي لم يضمها كتاب بعد. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.