حين كان الشاعر محمود البريكان يؤكد ان "الشعر جدير بأن تكرس له حياة كاملة" فإنه وان كان شعره انطوى على غموض وغياب ومفاجآت، لم يكن يتوقع بالتأكيد أن نهايته، ستكون دموية وعبثية كالتي جاءت في الأسبوع الماضي حين نشرت صحيفة "الثورة" البغدادية خبراً تقول فيه ان "البريكان وجد مقتولاً في بيته إثر جريمة آثمة تمت بدافع السرقة". وإذا كان البريكان يتساءل في احدى قصائده "متى يجيء الزائر المجهول؟" فإنه لم يكن يتوقع ان يكون "الزائر المجهول" قائلاً ينبثق من وقائع الانهيار الاجتماعي العراقي، بعدما بات الطريق الى تأمين لقمة العيش، يستبيح الحرمات، ومنها حياة البشر. ومن المؤكد ان القاتل لم يكن يعرف أيّ انسان هذا الذي مات بين يديه، فما يعرفه أمر واحد: كم سيأخذ من البيت وأهله؟ هكذا سحقت الوقائع اليومية المنحطة شاعراً طالما آثر ان يحيط نفسه بعزلة تامة، على أمل صفاء الروح وسلامها الداخلي، وطالما ضحى بأشياء كثيرة يستحقها، أكانت تتعلق بموقعه الشعري أم بالريادة في الشعر الحديث من أجل نوع من الاخلاص لنص ظل مأسوراً بالخفي والعميق انسانياً وكونياً: "عند خطوط الحدود/ تندمج الأزمنة/ تتحد الأحلام والحوادث الممكنة/ عند خطوط الحدود/ يبتسم الأموات للأحياء/ ترتسم الطفولة البيضاء/ في صفحة النهاية/ عند خطوط الحدود/ تسفر عن طلسمها الأحزان/ وتلعب الذكرى مع النسيان/ عند خطوط الحدود/ يشاهد الانسان/ صورته من لحظة البداية/ ويلمس الموت الذي يكمن في الوجود". والبريكان كان زمنياً وشعرياً من جيل الرواد، وواكب السياب في الكتابة والحياة، غير انه تبعاً لتركيب ذاتي ووعي خاص للكتابة وفعلها المعرفي والإنساني، آثر الإنزواء. وفي هذا الصدد نقرأ للسياب رأياً في البريكان: "انه محمود البريكان شاعر عظيم ولكنه مغمور بسبب نفوره من النشر وسأحاول بذل كل جهد لإخراجه من صمته ليتبوأ المكانة اللائقة به". وعلى رغم أن شعره وفير وموزع على نحو أربع مجموعات، وآخرها ما ضمه ملف خاص عنه في مجلة "الأقلام" العراقية عام 1993 إلاّ ان الشاعر البريكان لم يكن حريصاً على طبع شعره في كتاب، وهو أمر لا ينتقص من قيمة ما كتبه الراحل بحسب الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي التي تقول عنه في كتابها بالانكليزية "الشعر العربي الحديث": "شاعر ذو أصالة عظيمة ونظرة كونية، نادراً ما ينشر نتاجه ولا يعرف له ديوان مطبوع، ما حرم العالم الأدبي من ثيماته المتعددة، ومن النبرة، ومن النظرة، وطريقة التمثل، المتميزة تماماً، والتي يمكن ان تكون ذات فائدة عظيمة للجيل الطالع من الشعراء في العالم العربي". وتؤكد الشاعرة العراقية دور البريكان في "تطور الشعر الحديث" وريادته في هذا المجال قائلة: "دور محمود البريكان لا ينكره أحد، ولكن هناك من حشر نفسه في قضية الريادة بحضوره الدائم في حلقات الشعر، وبإصراره على الظهور بينما ابتعد مبدع كالبريكان عن هذا المجال وامتنع عن نشر شعره منذ وقت طويل". ومن بين القريبين للراحل، يوم كانوا مجموعة من الأدباء الجدد، الروائي والقاص العراقي مهدي عيسى الصقر الذي عاش أيام التطلع الأولى نحو المعرفة في مدينة البصرة أواخر الأربعينات من القرن الفائت، وهو يقول عمّا يميز السياب ومجايله البريكان: "محمود البريكان قليل الكلام. هو النقيض لبدر شاكر السياب الذي يحب ان يتدفق في الحديث، وان يشرب ويلهو ويروي النكات اللاذعة عن شخصة وعن الآخرين، وعلى رغم التناقض في طباع الشاعرين، كانا صديقين حميمين". ويرى الناقد طراد الكبيسي ان البريكان انتقل من الرومانسية التي فاضت بها قصائده الأولى الى مرحلة الواقعية الجديدة التي بدأت منذ عودة الشاعر الى بغداد من الكويت عام 1959 ليتصاعد عنده الاحساس بالنفي الوجودي الاجتماعي، وليتكرس فيه لاحقاً نوع من الانكفاء الداخلي، فتزداد أسوار العزلة حول الشاعر. ولم تصدر عنه طوال سنوات أي اشارة، سوى تلك التي كان بعض الشعراء والكتّاب يوجهونها اليه، تذكيراً بمكانته ودوره. كما فعل الشاعر عبدالرحمن طهمازي في كتابه الصادر أواخر السبعينات "البريكان: مقدمة ومختارات" دار الآداب - بيروت. الشاعر والكاتب رشيد ياسين يقول عن "الظاهر والمحتجب" لدى البريكان: "كان دوماً كجبل الجليد العائم لا ترى منه العين سوى سطحه الظاهر، بينما تظل تسعة أعشاره محتجبة تحت الماء. وهذا ما يجعلني اعتقد ان البريكان سيسبب الكثير من الحيرة والعناء لمؤرخي سيرته في المستقبل". ومع الطابع "الغامض" للشاعر البريكان الا انه يقول وفي حوار نادر مع الشاعر حسين عبداللطيف: "مطمحي ان اتفاعل مع كل شيء ولا أندثر في شيء. انني أذهب أكثر الى سبر الأبعاد المجهولة للوجود، والى استشراف المصائر الكبرى. مطمحي ان يكون الشاعر فعلاً عظيماً من أفعال الحرية، ومغامرة في مستوى النزوع الأعمق للإنسان، أن يكون طريقة في الالتحام بالعالم والتعالي عليه، وفي المضي الى قرار التجربة الإنسانية وتأملها في شجاعة. انني اعتدت ان أدخل في التناقض الوجودي وان أجد كثيراً من الجمال في وجه الحقيقة". الناقد سعيد الغانمي أفضل من قرأ البريكان من نقاد العراق الجدد وهو يرى ان صاحب "حارس الفنار" انشغل "ليس بحكمة المضامين والأفكار" بل بحكمة الأشكال والأساليب، من هنا تأتي عناية القصيدة بالتفصيلات الصغيرة، أحياناً بالجملة القصيرة، والكلمة المفردة، وأحياناً بالحرف الواحد. "ان العناية بهذه التفصيلات ليست محاولة شكلانية بل هي رغبة في تحويل الشكل الى مضمون"، ويضيف عن "غنائية" البريكان: "انها تجهل أكثر مما تعلم، وفي الحقيقة فإن حكمة الشعر تبدأ من هذه اللحظة بالذات، التي يختلف فيها ما يقوله الشاعر عما يبوح به، تبدأ من اللحظة التي ينقسم فيها المتكلم الى ذات ترى وذات تتكلم، الى شاعر يعلم وراوٍ يجهل". والشاعر محمود البريكان ولد في الزبير في مدينة البصرة عام 1929 كما تورد "موسوعة أعلام العراق" وفي أوائل الثلاثينات كما يورد الشاعر حسين عبداللطيف أقرب الشعراء في البصرة اليه. وهو أول من كتب الشعر الحديث والمطولات ك"المجاعة الصامتة" 1950 و"أعمال المدينة" 1951. وانقطع عن الحياة الشعرية في العراق بعد هجرته للعمل في الكويت في 1953 وظل فيها ما يربو على خمسة أعوام ونصف العام، نشط خلالها في "النادي الثقافي القومي" ليعود عام 1959 الى بغداد ويتم دراسة الحقوق التي كان انقطع عنها عام 1949، وظل في بغداد حتى عام 1971 ليعود الى البصرة ويعمل في التدريس لم يمارس المحاماة وليستقر به المطاف مدرّساً للعربية في "معهد اعداد المعلمين". وعن تلك السنوات يقول أحد تلاميذه، الشاعر رعد كريم عزيز، وعن "غموضه" في الشعر و"وضوحه" في الحياة وانضباطه: "ترى هل كان موقف البريكان من الحياة والكون معاً، موضع التباس فيما هو واضح ضمن موضوعته الأثيرة: الانسان ومصيره المحتوم السائر نحو الخفوت؟". ويلفت الى ان البريكان "كان يعلمنا التوافق بين الكلمة والمعنى، مؤكداً ان الإنسان يمكنه ان يختصر القيم الرفيعة حين يتوافق مع ذاته المخلصة لقيم الحق والخير والجمال".