ما يميّز كتابة الشاعر العراقي رعد عبدالقادر في مجموعته "صقر، فوق رأسه شمس" هو ضآلة استخدام ضمير المتكلم وتواري الشاعر خلف جملة غير منحازة، تصف وتخبر. ليس القصد أن يستخدم ضمير الغائب مثلاً، بل هي محاولة لتقديم القصيدة الى القارئ من دون الشحنة الذاتية أو الشخصية التي غالباً ما تميز الشعر وكتابة الشعر. أما في الشعر العراقي فيبدو أن ما يفعله رعد عبدالقادر أكثر جدارة بالانتباه والملاحظة، إذْ ان هذا الصنيع قليل الحضور والأثر في الشعر العربي الراهن عموماً، وهو أقل وأندر في الشعر العراقي الذي تتصف تجارب الكثير من شعرائه بلغة شخصية جارحة وقاسية. ولا بد من أن تواري الشاعر أو طمره لذاتيته يخرج جزءاً كبيراً من تجربته وكتابته من أرومة كتابة عربية يسهل تحديد أوراقها الثبوتية وهويتها وأشكال تمظهرها. رعد عبدالقادر لا يمثل فرادة ما في هذا السياق، انه يلتحق بعدد من الأسماء والتجارب الشعرية التي بذلت جهوداً تكوينية ورائدة في اطلاق كتابة هجينة نشأت في ظلال الترجمات والقراءات الأجنبية، كتابة قوية ورشيقة ونافذة ومنجزة بلغة عربية مجدَّدة فيها كل عناصر أو ايحاءات أو ملامح هذه اللغة، لكنها تستثمر مخيلتها في نبرات وتدرجات وايقاعات وأداءات شعرية جديدة وغريبة. انها محصلة تفاعل وتراكم طويل ليس هنا مجال التفصيل في شرحه وتتبّع نشوئه أوصل كتابة الشعر الى الاحتفاظ بثراء الجملة العربية واستعاراتها ولكن من خلال كسر تركيبها اللغوي وإكسابه حيوية حياتية ذات حساسيات مجلوبة من خارجها وقيادة معنى جملتها باتجاه نبرة متقشّفة من البذخ والفصاحة والبلاغة والاكتمال واليقينية والضخامة والمبالغة والميلودراما... الخ. اللغة التي يكتب بها رعد عبدالقادر تتحرك داخل هذا العالم، لغة متحررة من وطأة أو ثقل التجربة الشخصية بمعناها السطحي، أي حين تكون التجربة أول ما يصادفه القارئ في القصيدة. لغة تكتم المعنى أغلب الوقت وتقوم بإخفائه في كلمات وعبارات محايدة وباردة ومطفأة أو تدفنه تحت سطح الجملة بما يذكِّرنا بريتسوس مثلاً. الشاعر، بهذه الطريقة، يقول تجربته ويروي ألمه وإحساسه الشخصي من دون أن يسمي ذلك ومن دون أن يتخذه مطيّة سهلة ومفضوحة للكلمات. كتابة رعد عبدالقادر توحي للقارئ بأنها تكتب بعيداً منه على رغم ان كل لحظة من لحظات انجازها تذكّر ببصمة الشاعر ونبرته وطموحاته. ويزيد من شعور القارئ بهذا ويفاقمه الجملةُ المحايدة التي غالباً ما يبدأ بها الشاعر قصيدته، كأن يقول: "الشجرة المرسومة على الحائط/ أخذت أزهارها تتفتح" أو "هؤلاء الذين مسحوا سبطانات سلاحهم بقطع القماش الجافة". الجملة الأولى، وهذا في الواقع ينطبق على معظم الجمل في غالبية القصائد، مكتوبة بلا ضجة، بطريقة مبتكرة وطازجة، مكتوبة بكلمات قليلة وبعاطفة أقل وبحيادية وبدقة الى درجة ان القارئ يتساءل أحياناً إذا ما كانت هذه الكتابة تعني الشاعر وتخصّه كما تعني قصائد أي شاعر آخر له. الحيادية والدقة وقلة العاطفة صفات تصلح لوصف معظم ما يكتبه رعد عبدالقادر حتى انه يرسم صورة الشاعر المفضّلة لديه في آخر قصيدة من الكتاب: "كتب قصائد موت كثيرة/ إلا أن أية واحدة منها لم تكن قصيدة موته/ يبدأ القصيدة وينهيها من دون أن يُعنى بعاطفته/ أو بعاطفة قصيدته". ولأن عوالم هذه الكتابة ومناخاتها ذات خصوصية تبعدها بمقدار ما من ذاكرة شعرية عربية سائدة ومتداولة فإن الحيادية وقلّة العاطفة تأخذان أهمية أكبر على رغم أن الشاعر يضع كلمة "عواطف" عنواناً لقسم من المجموعة، ولكنها العواطف التي جُفِّفتْ سيولتها واحتفظت بكثافتها، حيث بإمكان الشاعر أن يكتب في قصيدة "النسّاجون": "قدماء وجدد/ ليس من فرق بين غيمة وغيمة، كلها غيوم، السوداء والبيضاء، ليس من فرق، سيان/ الأمل الأخضر والخيبة الداكنة الخضرة/ .../ بشمس أو من غير شمس/ بخضرة الأمل أو بخضرة الخيبة/ بحوار أو من دون حوار/ بحياة أو بموت/ ليس من فرق سوى هذا الخيط الذي لا يُرى/ إن كان في نسج القدماء أو في نسج الجدد/ كله نسيجٌ/ وكلهم نسّاجون". وحتى حين يطلق الشاعر سراح العاطفة قليلاً فإنه يراعي أن يترافق شَجْوها وغناؤها مع تجريد المعنى من انشائيته وقصديته المباشرة: "يا الهي كم أحبك وأحبُّ بيتي، لن أسافر. أحب مكتبتي، هذا الكتاب لم أقرأه بعد/ هذه السنة ستنتهي مثل التي قبلها/ أحب هذه السترة، لونها الغامق كلون عينيك/ انظري الى الحديقة في أي وقت نحن؟ أحب هذه الشجرة وابتسامتك المزهرة، كم أحب يديك/ في الصباح انهما في الضوء تسكبان العطر في الحليب، تصنعان من الخبز أعياداً وأساطير، كم أحب هذا البيت وقت المطر، غمازة خديك/ لن نغادر في هذا الجو الممطر/ انظري كم يبدو بيتنا جميلاً من الخارج/ انها تمطر/ إنه يسافر". يكتب رعد عبدالقادر قصيدة أقرب الى ما سُمي بالقصيدة اليومية، ولكن من دون أن تكون قصيدة تفاصيل نافلة وشؤون عابرة ونثريات حياتية صغيرة. انها اقرب الى القصيدة اليومية لأنها قصيدة نثر حقيقية واضحة الانتماء، والأرجح أن تحقق جزء كبير من نثريتها يعود الى قلة عاطفتها أو عاطفتها الجافة وغير الذاتية وحياديتها ومواراة الصوت الشخصي فيها لمصلحة حساسية التجربة وعمقها. انها، كما قلنا من قبل، قصيدة بلا ضوضاء، صامتة، مدفونة المعنى تحت عمق يظل في متناول خيال القارئ وإمعانه في التأمل. وهذا كله يمنح قصائد الكتاب شيئاً من الاكتهال والحكمة بصرف النظر عن عمر الشاعر الحقيقي.