عشية اجتماعاته السنوية التي سينظمها في منتجع "دافوس" في سويسرا بين 23 و26 كانون الثاني يناير الجاري تحت عنوان "بناء الثقة" يبذل القيمون على "المنتدى الاقتصادي العالمي" جهوداً ملفتة لتأكيد التزام هذه المؤسسة، التي لا تتعاطى عملياً بالسياسة، والتي لا تخضع قراراتها لمشيئة او رغبة اية جهة مهما علا شأنها او عظم جبروتها، حسب قول القيمين على المنتدى بمسألة الحوار بين الغرب والعالم الاسلامي. مع ذلك، لم يحظ العالم العربي بشؤونه وشجونه الاقتصادية والاجتماعية هذه المرة بأكثر من ثلاثة مواضيع بحث من اصل العشرات المطروحة للمناقشة. فلسطين واقتصادها المنهار و70 في المئة من اهلها الذين يعيشون تحت خط الفقر لم تعد، على سبيل المثال، محوراً اساسياً من محاور دافوس كما كان الحال بعد توقيع اتفاقات اوسلو وقمة "مينا" التي عقدت في الدار البيضاء منذ سنوات. واكتفى المنظمون في هذه الجولة بالاشارة من خلال البرنامج الموزع بأن هذا الموضوع "سيُبحث لاحقاً وفقاً للتطورات على الارض" الشيء نفسه بالنسبة الى العراق، شغل العالم الشاغل اليوم، الذي بدا بأنه مُتجاهل تماماً. واكتفى المسؤولون عن المنتدى ممن تمت مساءلتهم بتقديم تفسير شمولي مفاده انهم بانتظار آخر خطاب يلقيه الرئيس بوش قبل اجتماعات دافوس كي يتم تحديد الخطوط العريضة التي ستناقش حيال هذا البلد علمآً أن صلب المواضيع المطروحة ترسم وتدرج على جدول الاعمال قبل شهور من الاجتماعات السنوية. اما في ما يتعلق بمنطقة الشرق الادنى مصر لبنان، سورية والاردن كذلك المغرب العربي فالواضح بأنها مغيبة هذه السنة على رغم الاهمية الجغرا - سياسية المتنامية لها عموماً، وبشكل خاص منطقة شمال افريقيا والانفتاح الجاري على قدم وساق لاقتصاداتها، ووصول عدد سكانها الى ما يقارب ال100 مليون نسمة سنة 2007. باختصار، يمكن القول، أن "دافوس 2003" دخل هو الآخر في "القالب" العام السائد، المفروض من قبل واضعي فكر "صراع الحضارات". على رغم تشديد المشرفين على تظاهرة "المنتدى الاقتصادي العالمي"، بأن دورهم يتلخص بابعاد هذا الهاجس الذي بات يتحكم في سلوكيات مرحلة ما بعد العولمة، وبأنهم عملوا ويعملون بجدية متناهية من اجل التصدي لهذه الافكار من خلال تحديد حلقات بحث وورش عمل تتناول هذا الموضوع من جوانبه كافة كي يسمحوا للعالم "العربي - الاسلامي" حسب قولهم، من توضيح وجهة النظر بين اصحاب القرار وصانعيه وعالم الاقتصاد والمال والاعمال في الغرب، والنخبة في العالمين العربي والاسلامي. في هذا السياق اعلن المنتدى عن تأسيس مجلس من 100 قيادي شاب اطلق عليه اسم "سي 100". طغيان الاستثناء وفي المداخلة التي ألقاها أمام الصحافة العربية في باريس في 8 الشهر الجاري، حاول المدير المختص بمنطقة الشرق الأوسط، في المنتدى الاقتصادي العالمي الكسندر تيوكاريدس تمرير رسالة رئيس ومؤسس هذا الملتقى، كلاوس شواب، التي تركزت بالتأكيد على انه وفريق عمله "يعملان بصدق من أجل ترويج حوار فعلي، بناء ودائم، بين العالمين الاسلامي والعربي"، وبأنهم مقتنعون بأن تقديم مشورة من هذا النوع من شأنها ان تساهم في تعزيز "حوار الحضارات"، وفيما يختص بالعالم العربي، اقتصر هذا العام اذن على هذا الجانب وتداعياته المعروفة، سيما وان برنامج اجتماعات "دافوس 2003" تتضمن أربع جلسات عمل، تحمل جميعها العنوان نفسه تقريباً، مع تقديمه بشكل مختلف في كل مرة. ومن "القاعدة" والوثائق المرتبطة بها، الى النتائج الاقتصادية للحرب على الارهاب، الى الحداثة ضد التقاليد، وأخيراً التحديات أمام العالم الاسلامي، أما المواضيع التي اعتبرها القيمون على دافوس بمثابة تركيز على العالم العربي، وتمثلت بموضوع التحديات الاقتصادية العربية التي يبدو أنها ستكون تلخيصاً "لتقرير التنمية" الشهير، الذي سبق ونشرته منظمة الأممالمتحدة منذ شهور، والذي قرر المنتدى ترجمة فقرات مختارة منه للعرب بعد دمجها واصدارها على شكل كتاب يحمل عنوان: "التنافسية في العالم العربي". وسيناقش الموضوع الثاني صيغة مقارنة بين المرأة في العالمين العربي والغربي ويحمل الموضوع الثالث، عنوان "لقاء مع سعوديين"، يشارك فيه وزير النفط والثروة المعدنية السعودي ابراهيم النعيمي ووزير المال والاقتصاد ابراهيم العساف، وهو فرصة لتقديم الخطوط العريضة للاستراتيجية الجديدة التي وضعتها المملكة لتتزامن مع الخطة الخمسية الجديدة. في المقابل، سيعطي "دافوس 2003" حيزاً استثنائياً من حيث الأهمية لتركيا من خلال تخصيص ثلاث حلقات بحث ومناقشة لها ولمشاكلها وحدها! ذلك بهدف تجميل صورتها أمام المشاركين العالميين بعد انهيار اقتصادها وافلاس كبريات شركاتها بالجملة. ويعزو المراقبون هذا التوجه لوجود رغبة أو نصيحة مقدمة من قبل "دوائر عليا" دفعت باتجاه هذا التركيز على تركيا وايجاد آلية توضع موضع التنفيذ لتوفير المساعدات اللازمة من القطاع الخاص العالمي الممثل في هذه التظاهرة بهدف توفير المبالغ المتبقية وقيمتها 16 بليون دولار لتمكين الاقتصاد التركي من الوقوف على رجليه وتفادي الأسوأ. وإذا كان حضور العالم العربي غير كاف بنظر بعض المحللين، إلا ان عدداً كبيراً من المواضيع المهمة المختلفة ستناقش في الاجتماعات السنوية للمنتدى هذه المرة. ويتعلق الأمر على وجه التحديد بالفن والديبلوماسية في زمن الأزمة، والعولمة بين الفقر وعدم المساواة، الرشوة وتبييض الأموال، ونجاح تجربة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو ارتفاع اسعار النفط، واستقالة الطبقات الوسطى من مهامها في مناطق عدة من العالم. وحظيت المسألة الأمنية والسلاح الفوري وتوسع أوروبا شرقاً وايران بعد 23 عاماً على الثورة بالاهتمام السكاني، بحيث ثم حشد عدد من الخبراء المحللين لمناقشتها والخروج ببعض الاقتراحات في شأنها. وبعيداً عن الحساسيات الزائدة، من المنطق القول بأن "طغيان الاستثناء" كان على الدوام القاعدة التي تتحكم في المواضيع المختارة من قبل اللجان المختصة التابعة. لذا، لا تجوز المبالغة واعتبار "دافوس 2003" معادياً للوجود العربي ومواضيعه الاقتصادية. المهم بنظر المشرفين على هذا الملتقى هو تأمين اكبر حشد ممكن من الشخصيات الدولية، سياسية واقتصادية ومالية وربطها بالوسائل كافة مع أبرز المسائل المطروحة في هذه المرحلة، مع الأخذ في الاعتبار الأولويات الاقتصادية والبعد قدر الإمكان عن المواضيع التي تسبب صداعاً والتي ليس منها انعكاسات مادية ايجابية. مبادرات وعلامات استفهام يعتبر المتتبعون لمسار "دافوس 2003" بأن المبادرة الاكثر ايجابية التي ربما سترى النور هذه السنة، تكمن في تأسيس مجلس يضم مئة من رجال الاعمال والمثقفين والسياسيين ورجال دين ودنيا من اعلام ومسؤولين حكوميين لا يتجاوز عمر الواحد منهم 45 سنة. وسيطلق على هذا المجلس "سي - 100". ويتوقع ان تتمثل هذه الشرائح بعشرين مندوباً، سيتوزعون بين الغرب والعالم الاسلامي، ويلخص "الكسندر ثيوكاريدس" هذه الفكرة بالقول: "ان ميزة هذا المجلس الشباني ستكون في التركيز على المواضيع التي تعتبر بمثابة أبرز نقاط الخلاف بين العالمين المذكورين بدءاً بالديموقراطية واسلوب الحكم والإدارة، مروراً بالعولمة وشروطها وأدواتها وانتهاء بالحداثة وقضية الهجرة". واذا كانت هذه المبادرة والتجربة تملك في الظاهر جوانب ايجابية، الا انها لم تجب على التساؤلات الاساسية المطروحة حولها، أبرزها، ماهية المقاييس المعتمدة في اختيار اعضاء هذا المجلس؟ فالأجوبة المقدمة حتى الآن من قبل مسؤولي المنتدى غير كافية وغير مقنعة، خصوصاً وان هؤلاء يؤكدون بأن اجتماعات دافوس هي التي ستحدد اسماء الأعضاء الذين سيدخلون "نادي النخبة" هذا. فهنالك علامات استفهام كثيرة بدأت بالظهور بحدة قبل اسابيع من افتتاح هذه التظاهرة الدولية التي لا تزال على ما يبدو تبحث عن الخبر الأول. وذهب بعض الصحافيين السويسريين الى حد السؤال حول ما اذا كانت تركيبة مجلس المئة ستتألف من أولاد المسؤولين السياسيين وأثرياء العالم، بغض النظر عن الطرق التي كونوا بها ثرواتهم، أو المقربين من بعض الدوائر المالية المعروفة بارتباطاتها الغامضة. ولم يتردد أحد هؤلاء الصحافيين الاقتصاديين، المختصين في مجال التحقيقات التلميح على سبيل الأمثلة الى نجل رئيس دولة عربية شرقية كبيرة يتمتع بعلاقات مميزة مع القطاع الخاص بدولة كبرى؟ أو ابن رئيس وزراء دولة عربية صغيرة موجود في جنيف، الذي يعتبر والده واحد من الأثرياء العشرة الأوائل على الكرة الأرضية؟ او ابن زعيم دولة عربية تخلت عن ثوريتها اخيراً "انسجاماً مع طبيعة المرحلة"، أو زوجة فلان مسؤول كبير عينت سفيرة لدى اليونسكو أو غيرها من المؤسسات العالمية للقيام بمهام انسانية لا يستطيع غيرها القيام بها، الى آخر هذه المعزوفة، ونصل في نهاية المطاف للاستنتاج بأن المقياس الوحيد الواضح حتى الآن لاختيار هؤلاء الاعضاء هو الا تتجاوز أعمارهم ال45 سنة! ومن علامات الاستفهام الاخرى، عدم الاخذ في الاعتبار لعوامل مهمة مثل الكفاءة العلمية او الفكرية والحياد المفترض لدى هذه الشخصيات الشابة المختارة لكي تكون قادرة على اعطاء الاجوبة المناسبة لعدد كبير من مواضيع الساعة، او المشكلات الدقيقة مثل: مستقبل الديموقراطية في ظل الانظمة العربية الحالية، ودور مؤسسات المجتمع المدني في التحولات الممكنة، كذلك كيفية محاربة البطالة والرشوة. وبالنسبة الى هذه النقطة الاخيرة، يرى مسؤولو المنتدى بان اقحام نادي المئة بمبادرة من هذا النوع من شأنها كشف وتجاوز عدد من المحرّمات السياسية والاقتصادية القائمة حتى الآن. وبالتالي، تشجيع عدد من تيارات الحداثة داخل الدول العربية على المشاركة في مساهمات مبنية على ثقافة جديدة اساسها الشفافية. واذا كان رئيس المنتدى كلاوس شواب ذكر في تصريحات عدة أن المواضيع التي تناقش في دافوس ليست بالضرورة من مواضيع الساعة الا انها يمكن ان تشكل عنصراً ضاغطاً على مسار الاحداث العالمية وتساهم بتغيير عدد من التوجهات. ذلك لان عدداً كبيراً من المواضيع الرئيسية يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بما سيحدث في الشهور او الاسابيع المقبلة على الصعد كافة خصوصاً لناحية الانعكاسات الاقتصادية والجغرا - استراتيجية. وعلى رغم هذا التشخيص يرى المحللون بأن "دافوس 2003" سيواجه صعوبات من نوع مختلف نتيجة الضبابية التي تحيط بأحداث العالم من الشرق الاوسط وازمة العراق الى فنزويلا وكوريا الشمالية وافغانستان الذي يبدو يوماً بعد يوم ان مشكلاتها لا تزال قائمة، ما سيعيق الى حد ما النقاشات داخل ورش العمل المقررة. على اية حال ليس هنالك مسؤول او مشارك في المنتدى على استعداد للالتزام بتقديم اجوبة واضحة حيال الاوضاع القائمة. لذا، نرى الجميع يجنح الى عرض سيناريوات متباعدة، غير واضحة المعالم. ما هو نادر جداً في حالات سابقة مماثلة. الامر الذي يدفع الى الاعتقاد بانه في ظل تطورات من هذا النوع، بالغة التعقيد، يتعين على "دافوس 2003" الاكتفاء بمعالجة مواضيع من الدرجة الثانية مثل: "ايران بعد 23 عاماً من الثورة". او "قوس عدم الاستقرار في افغانستان ومحيطها" وصولاً الى مشاكل غرب افريقيا. ومن الممكن جداً ان تتجنب ادارة المنتدى بشكل طوعي الدخول في المواضيع الساخنة. فاللقاء هو في نهاية الامر كغيره من المؤسسات الدولية، لا يمكنه الخروج عن الحدود المرسومة سلفاً من قبل كبار اللاعبين المقررين على رغم ما يردده المشرفون عليه من استقلالية القرار وما شابه ذلك. انطلاقاً من هذه الفرضيات، يفهم اذن لماذا أُرجئ البحث في الموضوع الفلسطيني وتم تجاهل قضايا الشرق الادنى وتغييب المغرب العربي وابراز تركيا والارهاب وتنظيم "القاعدة". * اقتصادي لبناني.