يعرف الكاتب والشاعر الايطالي النهضوي الكبير بوكاشيو، خصوصاً منذ أكثر من سبعة قرون من الزمن بكتابه الأشهر "ديكاميرون" الذي يقال انه يمت بصلة الى الحكايات الشرقية، وكان له في أوروبا بأسرها، ضجة كبيرة واعتبره، في أساس الرواية الأوروبية بالمعنى الحديث للكلمة. والحال ان كتاب "ديكاميرون" هذا غطى، بشهرته وتجاوب القراء معه على مر الزمن، على الكثير من الكتب الاخرى التي وضعها هذا الكاتب، وكذلك على نشاطات له تتعلق بنصوص أخرى لم يكن هو واضعها، كما كان حال ملحمتي "الالياذة" و"الاوديسه" اليونانيتين. ولكن كان له فضل كبير في تعريف الناس بهما... اذ يروى ان بوكاشيو، خلال مرحلة متأخرة من حياته، انفق معظم ما لديه من مال لكي يستقدم من بلاد اليونان مخطوطتين قديمتين لملحمتي هوميروس، ونسخ عشرات النسخ عنهما لكي تنتشرا بين الناس. ومن ناحية اخرى، اذاً، كان لبوكاشيو مؤلفات غير "ديكاميرون" انتشرت في حينها، لكنها سرعان ما طواها النسيان. ومن بين هذه المؤلفات روايته "فياميتا" التي روى فيها حكاية حبه العميق لأميرة تدعى ماتيلدا كان دائماً على استعداد لأن يبيع حياته من أجلها، لكن حبهما لم يكتمل على رغم انها كانت هي تبادله الهوى، ذلك انها كانت ابنة ملك نابولي روبير دانجو، وما كان خليق بابنة ملك، في ذلك الحين، ان تحب شاعراً أفّاقاً وتقترن به. لذلك انتهت حكاية الحب بالفشل. وعوّض بوكاشيو على ذلك بكتابة "فياميتا". وإضافة الى هذه الرواية العابقة بالشاعرية والمرارة، هناك ايضاً لبوكاشيو كتاب، لا يمت الى رومانسية هذه الرواية بصلة، ويكاد يكون شبه مجهول في ايامنا هذه على رغم ان شهرته في القرن الرابع عشر طبقت الآفاق، واعتبره المهتمون فتحاً جديداً في عالم الكتابة. هذا الكتاب هو "الاحداث السيئة في حياة السيدات النبيلات والسادة المهذبين". وضعه بوكاشيو في العام 1355 لكنه لم يكمله إلا في العام 1360، وصدر في طبعته الاولى، ثم راح يصدر منه طبعات متتالية، يضيف اليها ويعدّل، وظل على هذا المنوال حتى آخر حياته. اما الكتاب فظل يطبع ويوزع وينتشر في اوروبا حتى تعرف القراء الى كتابه "ديكاميرون" فأقبلوا عليه متناسين "الاحداث السيئة..."، اذ رأوا في "ديكاميرون" خيالاً واسعاً، بينما بدا لهم "الاحداث السيئة..." مفتقراً الى الخيال. والحال ان هذا الرأي لم يكن بعيداً من الصواب ولكن... في الشكل الخارجي للكتاب فقط. ذلك ان هذا الكتاب الذي ظل بوكاشيو يعتبره على الدوام الكتاب الذي يعبر عنه وعن شخصيته اكثر من اي كتاب آخر له، كان كتاباً في "السيرة" اي ان الكاتب الشاعر، ضمنه، او ضمن كتبه التسعة، ذلك ان "الاحداث السيئة..." يتألف اصلاً من تسعة كتب جمعت في واحد وتحت عنوان مفرد، سير حياة الكثير من الشخصيات التاريخية التي عاشت حقاً وعرفها الناس على مدى التاريخ، منذ آدم، ابي الخليقة، حتى الملك شارل دانجو. اتى الكتاب يضم سير الكثير من الرجال، ولكن ايضاً سير بعض النساء. فكيف بنى بوكاشيو اختياره؟ بكل بساطة انطلاقاً من ان الشخصيات التي تناول سيرتها كانت، في شكل عام، شخصيات فاشلة، انفقت طاقتها وجهدها وحياتها في سبيل اهداف لم تصل اليها ابداً. بل ان ما يجمع بين هذه الشخصيات اكثر كان ان كلاً منها سقط من اعلى الذرى، في وقت أوصلته فيه جهوده وظروفه الى تلك الاعالي. لكن بوكاشيو لم يتعمد ان يلقي اللوم على الشخصيات وحدها، في ما آلت اليه جهودها، كذلك فإنه في الوقت نفسه لم يتعمد ان ينسب السقوط كله الى الظروف الخارجة عن ارادة اصحاب العلاقة. لقد تناول موضوعه بحياد تام، من النادر ان نجده لدى كاتب ينتمي الى ذلك الزمن نفسه: حلل ما حدث، ورسم سيرة كل شخص، وقال بتجرد رأيه في ما اصابه. هذا من ناحية مضمون الكتاب الذي اهداه بوكاشيو في ذلك الحين الى الثري صديقه ماينار دو كافالكانتي، المضمون الذي اتخذ في النهاية شكل الدرس الاخلاقي والتأمل الوجودي حول غدر الزمان. اما من ناحية الشكل الذي اختاره بوكاشيو لكتابه، فإنه كان شكلاً مبتكراً سيقلده فيه بعد ذلك الكثيرون. فالواقع ان بوكاشيو خلال تلك السنوات الحاسمة والممضّة من حياته كان يعيش في شبه عزلة وفي شبه كآبة، خصوصاً بعدما ايقن استحالة استمرار غرامه بالأميرة ماتيلدا. لذلك عبر منذ بداية كتابه عن عزلته تلك، ثم تخيل انه، وهو في تلك العزلة، صريع الهواجس والأحزان، يزوره تباعاً كل اولئك الاشخاص، ليقوم كل واحد منهم برواية الاحداث السيئة التي عرفتها حياته، أمام بوكاشيو، في سبيل التأكيد له على ان حظه هو بوكاشيو في غرامه، وفي هبوطه من علياء مكانته الى وهاد وحدته وحزنه، ليس نهاية العالم ولا أسوأ ما كان يمكن ان يحدث لانسان. وهكذا، وعلى طريقة "من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته" راح بوكاشيو يستمع الى ما حدث لآدم، لكاليغولا، وتيبيري، ومسالينا، ولعدد كبير غيرهم من عظماء التاريخ الذين سقط كل منهم من شاهق بعد عز. وراح بوكاشيو في الوقت نفسه ايضاً، يتأمل مع زواره الغرباء هؤلاء في ما حدث لهم. وكيف حدث لهم ما حدث، وتفاصيل مصائرهم، ليطلع في النهاية باستنتاج يكاد يقول ما أكده المفكر العربي المعاصر من "انكم تقدرون فتضحك الاقدار" وان لا عز يدوم ولا ذل يدوم. الدنيا في حركة دائمة وفي تبدل دائم. حرص بوكاشيو، اذ يصل الى هذا الاستنتاج، على ان يجعل من كتابه في نهاية الأمر شيئاً اقرب الى الترياق، اي دواء همّه ان يزيل عنه غمامته وحزنه. والحال انه تمكن من هذا، اذ يروى ان بوكاشيو بعدما انتهى من وضع هذا الكتاب وأصدره في طبعته الاولى، انطلق مرحاً ضاحكاً يريد ان يعبّ من الحياة اكثر وأكثر، وظل على ذلك النحو حتى رحيله في العام 1375، اي بعد خمسة عشر عاماً من صدور الطبعة الاولى. لكن شخصيات الكتاب لم تكن من الازمان القديمة، اذ ان بوكاشيو حرص في طريقه على ان يورد، مع شيء من التعاطف، سير اشخاص معاصرين له مثل فيليب دي كاتانا مستشار جان ملكة نابولي وغوتييه دي بريان، دوق اثينا. اما الفصول الأجمل فكانت تلك التي وصف فيها "مآسي" ملوك الرومان القدامى وصراعاتهم، وما الى ذلك... وكانت تلك الفصول هي ما لفت القراء لأن بوكاشيو عبر فيها بكل حرية... اذاً، فإن بوكاشيو، او يوحنا بوكاشيو، الشاعر والكاتب النهضوي، وضع في حياته - وعلى عكس ما قد يتخيل الى الكثر - كتباً اخرى غير "ديكاميرون"، ومنها هذا الكتاب. عاش الكاتب الشاعر بين العام 1313 عام ولادته في باريس والعام 1375، وهو عرف طفولة بائسة، لكن انصرافه الى العلم منذ سنوات حياته الاولى انساه لاحقاً كل ذلك البؤس، اذ ان الظروف سمحت لوالده، ويوحنا بعد مراهق، بأن يرسله الى بلاط ملك نابولي روبير دانجو، وهناك عاش الفتى اياماً زاهية وراحت تتفتح مواهبه الادبية والشعرية على وقع غرامه بالأميرة الشابة ماتيلاد. كما راحت تتفتح معارفه على ضوء اختلاطه بالمفكرين والفنانين والشعراء الذين كان البلاط يضج بهم. وكان من اقرب اصدقائه الى نفسه، الشاعر والكاتب بترارك الذي عمل معه على نشر تذوق الآداب الاغريقية بين الايطاليين في زمنهما، وضمن هذا الإطار كان كل ذلك الاهتمام الذي ابداه بوكاشيو بنشر ملحمتي هوميروس الشهيرتين.