زرت الولاياتالمتحدة اخيراً للمرة الأولى منذ احداث ايلول سبتمبر الشهيرة والمشؤومة. ولا ابالغ في القول مباشرة ان اميركا التي وجدت هذه المرة تختلف بالكامل عن تلك التي عرفت وألفت لفترة طويلة، فقد وجدت نفسي في غربة ووحشة لم اعهدهما قبلاً، ووجدت اهلها في تحفز وحدة دائمين، وعلى استعداد للقفز سريعاً الى النتائج من دون ان تأخذ الاحداث مجراها. اما الوجوه فهي مشدودة والعيون زائغة وفي ترقب دائم لما حولها. وتبادل الأحاديث - مع الغرباء تحديداً - ليس باليسير، وان حدث ذلك وهو قليل، فلا شك ان ملامحك لها الدور الأكبر في تحديد مدة المحادثة وطولها، اما موضوع الحديث ذاته فلن يتجاوز الإرهاب واسبابه والداعمين له. في منتصف السبعينات، كان الجمال الأميركي في ذروته، وكنا مجموعة من الطلاب السعوديين نتناول عشاءنا في مطعم والى جوارنا زوجان عجوزان ابديا فضولاً زائداً لمعرفة المكان الذي أتينا منه، نحن الغرباء. وحين اخبرناهما اننا من السعودية التفت العجوز الى زوجته قائلاً: ألم اقل لك انهم من جنوب تكساس؟! مثل هذا الموقف تكرر في اماكن اخرى، وكنا نألف هذا الجهل الأميركي ببلادنا، وفي مرات كثيرة كنا نسعى بما نملك من ملكة لغوية محدودة الى اعطاء ما يرد في الذهن من معلومات عن بلادنا، وما لدى كل منا من قناعات شخصية لتوضيح بعض القيم والعادات السائدة في المجتمع السعودي، بل مقارنتها بما كنا نراه في الحياة الأميركية، معطين التميز والامتياز لتلك الثقافة البعيدة مما يطلق عليه "ما وراء البحار". وحتى عندما كانت السعودية تتصدر عناوين الأخبار الدولية بسبب مضاعفات وقف ضخ النفط العربي الى الغرب، ومع ما كان اللوبي الصهيوني ودوائره يقوم به من حملات اعلامية على العرب عامة والسعودية خاصة، إلا ان ذلك كله لم يؤثر على الشعب الأميركي ورفاهيته، وبالتالي لم يكن ارتفاع اسعار النفط سبباً في اي نقمة شعبية على رغم كل المساعي الصهيونية لاستغلال ذلك وتأليب الرأي العام، فعلى العكس كان الناس في انفتاح لا مثيل له على الآخرين، وكانت الغالبية تلوم الشركات النفطية الكبرى على ارتفاع اسعار النفط، ولم نجد كطلاب اي مضايقات من زملائنا في الجامعات او من عامة الشعب، حتى ان البعض كان يلقي باللوم على "الشرق الأوسط" اعتقاداً انه دولة تقف وراء تلك الأزمة العابرة. وهي كانت ازمة عابرة حقاً، لأن الناس كانوا منغمسين في رفاهيتهم، وكل فرد يسعى حثيثاً الى تحقيق أهدافه الرأسمالية الطموحة، ولذلك كانت اميركا تعني العالم في نظر الغالبية والعالم هو اميركا، والاقتصاد الأميركي كان في معزل عن التقلبات الدولية الى حد كبير ويعتمد جوهرياً على دوران رأس المال داخل اميركا نفسها. ولم تكن الجغرافيا علماً مهماً، حتى للطالب الجامعي، فالكثيرون منهم قد لا تتجاوز معرفتهم الجغرافية حدود الولاية التي يعيشون فيها او يأتون منها. لذا فبلاد كالسعودية مثلاً لا تعني شيئاً، او انها مكان ما في جنوب تكساس. وحدهما كندا والمكسيك قد يرد ذكرها بين حين وآخر، ووجودهما لا يعني اكثر من جارتين تابعتين ولا غنى لأي منهما عن العملاق القابع بينهما. هذه الاستقلالية الفريدة، اضافة الى الإرث الديموقراطي العظيم ما جعل اميركا بلداً منفتحاً ثقافياً على الآخر من دون حساسية من عرق او ديانة او خصوصية ثقافية، فهي من الثقة بالذات بدرجة تفوق التخوف والقلق من الآخر بالشكل الذي يحدث في اوروبا احياناً من معاملة عنصرية للأقليات. وهي من التسامح حيث يذوب القادم إليها في بحرها الثقافي تلقائياً، وهي ايضاً البلد الوحيد الذي تتمتع الأقليات فيه بحق غير مخدوش في ممارسة طقوسها الأصلية. باختصار كانت النموذج الديموقراطي الذي يحلم به الجميع، وهو ما سهل على القادمين من مجتمعات اخرى سرعة الاندماج في الحياة وتقبل الكثير من صور الثقافة الأميركية بغض النظر عن الخلفية الثقافية لهذا المهاجر او ذلك الطالب. وعلى رغم تدفق الطلاب السعوديين في السبعينات الى اميركا للدراسة في جامعاتها ووجود الآلاف من الأميركيين العاملين في السعودية، إلا ان الكثيرين من الشعب الأميركي لم يعرفوا شيئاً عن السعودية. وكانت الحكومة الأميركية نفسها قد خصت الطلاب السعوديين بأفضل انواع التأشيرات الممنوحة للأجانب، واعطتهم جامعاتها حقوقاً مساوية للطلاب الأميركيين. كانت اميركا الجميلة بحق، وكان الجميع، وخصوصاً السعوديين، يستمتعون بذاك الجمال وما يضفيه عليهم من سرور. فجأة... انتهى شهر العسل، وانتهى كل ذلك الود. بل ان من يزور اميركا الآن، لا يصدق ان ذلك الجمال تحول الى كل هذا القبح، حتى اصبحت تلك القارة الشاسعة تضيق رحباً بزوارها ذوي البشرة السمراء، وصار السعودي تحديداً عرضة لأشكال مختلفة ودرجات متنوعة من التمييز على المستويين الرسمي والشعبي، وفي بعض المواقف يسعى بعضهم جاهداً الى مسح صورة اميركا الجميلة واحلال الصورة الجديدة بمجرد معرفته انك تحمل الجنسية السعودية. بل إنه، وهنا بالذات، تقفز البارانويا فجأة لتكون سيد الموقف، ولتذهب كل الصور الجميلة الى غير رجعة. وما عليك في كل الأحوال إلا أن تستعين بصبر ايوب وحكمة سليمان لتجاوز الموقف، وإلا فإن اي رد فعل قد تراه طبيعي ربما جر وراءه ما لا تحمد عقباه. لست في حاجة الى ان تطأ قدماك ارض اميركا لتعرف الوجه الآخر لتلك الفاتنة الجذابة يوماً ما، إذ بمجرد تقديم طلب التأشيرة الى السفارة يواجهك الكثير من الطلبات الصغيرة بل التافهة احياناً، وهو ما يفسره بعض العاملين بالتعليمات الواردة من واشنطن وضرورة التقيد بها، ولذا لا بد من الخوض بالكثير من التفاصيل الدقيقة ومن حضورك الشخصي ومن ثم اجتياز المقابلة الشخصية. اما الحصول على التأشيرة فهو بالتأكيد خاضع لعوامل مختلفة، احدها المرحلة العمرية لطالب التأشيرة، اما في مطار الملك خالد الدولي فقد كان موظف الخطوط السعودية واضحاً حين فسر ضرورة الحضور قبل ثلاث ساعات من موعد اقلاع الطائرة الى نيويورك، للتمكن من ارسال قائمة الركاب الى السلطات الأميركية للموافقة عليها قبل الصعود الى الطائرة. وفي مطار ج ف كينيدي في مدينة نيويورك بدأت الصورة الجديدة تأخذ شكلها وتتراءى لي واقعاً لا خيالاً. وكان اول ما لاحظته كثرة العيون المترصدة في المطار على رغم وصولنا المبكر. اليوم عطلة لمناسبة عيد الشكر. واما التفتيش الشخصي الدقيق لكل مسافر على حدة مع التركيز على فئة الشباب فليس إلا التحية الأولى التي تقابلك بها بلد الحريات. لقد شعرت بالأسى لأن الطريقة التي يتم بها التفتيش لا توحي بالانضباط اكثر مما توحي بالتشفي والاستهداف. بعد اربع ساعات من الانتظار لإنهاء الاجراءات الأمنيه انطلقت الرحلة من دون اربعة من الركاب السعوديين. هل هي الصدفة وحدها التي جعلت اميركا القبيحة تظهر لي في حجوزات الفنادق وشركات تأجير السيارات واحد المطاعم الراقية، وصولاً الى كاونتر المغادرة بالمطار؟ لقد واجهت تلاعبات تكاد تكون مريبة وغير مألوفة على الاطلاق في حجز احد الفنادق، ساعدني على التخلص منها ما تسلحت به من وثائق تدعم موقفي أخذتها معي مطبوعة من الانترنت قبل مغادرة الرياض. اما في شركة تأجير السيارات فكانت الموظفة ذات العينين الزرقاوين لدى تسليم السيارة، تغمز من طرف ليس خفياً وهي تشير الى ان الحجز لم يحصل من داخل اميركا، وعليه فإن بنود الاتفاق لا بد من اخضاعها لبعض التعديلات، وبالتالي تحقيق رغبتها بتصعيد المبلغ المستحق الى اقصى ما يمكن. لا ادري لماذا فجأة طافت امام عينيّ "فلاشات" متلاحقة من محققي غوانتانامو وهي تمطرني بكل ما لديها من "اكراميات" عن عقد التأجير منذ اللحظة الأولى. أهي الصدفة ايضاً التي جعلت عاملة المطعم ذات الأصول الشقراء تقودني مع ضيوفي الى طاولة عند المدخل تماماً على رغم الحجز المسبق قبل يومين وعلى رغم كثرة الأماكن الشاغرة منذ وصولنا في الوقت المحدد حتى مغادرتنا. بعد انتهاء الزيارة في شرق الولاياتالمتحدة لم تختلف تحية الوداع عن تحية القدوم، ففي مطار فيلادلفيا كانت موظفة الخطوط في غاية النشوة وهي تبلغني، عند رؤيتها الجواز الأخضر، بأنني شخص لا ترحب السلطات الأميركية بمغادرته عبر هذا المطار، لأنه ليس ضمن المطارات الأميركية المحددة لحاملي هذا الجواز بالذات للقدوم او المغادرة. لا اعرف كم طالت لحظات القلق التي مررت بها الى ان تتحقق تلك الموظفة من صحة معلوماتها، اذ عادت بعد غيبة في داخل مكاتب الخطوط لتقول ان الأمر لا يعدو التباساً بسيطاً في فهم التعليمات الواردة في هذا الشأن. ترى، ما هو حجم المعلومات المتدفقة الى مختلف الأجهزة والمؤسسات الرسمية وشركات الخدمات المختلفة والمتعلقة بكيفية التعامل مع ذوي البشرة السمراء؟ لم تكن إقامتي في اميركا طويلة هذه المرة، إلا ان الأحداث التي مررت بها اشعرتني يقيناً بعدم الترحيب إن لم تكن رغبة غير معلنة بالطرد، وكأنهم يريدون القول: ما الذي اتى بك الى هنا فأنت شخص غير مرغوب فيه؟ لكنك ما دمت هنا فسنتعامل معك وفق ما نراه، لأن هذه اميركا الجديدة، فلا خيار لك إذاً إلا القبول والخضوع. وإلا...؟ اذا كانت هذه معاناة زائر عابر بعد مرور اكثر من عام على الكارثة بعدما افترض عودة الأمور الى مسارها الطبيعي وتجاوز حالة الارتباك والحذر ففوجئ بأن الفوضى تتصاعد وتتشعب الى مسارب لا يمكن التنبؤ بخاتمتها... اقول، اذا كانت هذه هي معاناة العابر، فما هي حال المقيم؟ لا اقول سوى: اعان الله طلابنا هناك الذين اصبحوا بين عشية وضحاها عينات اختبار يومية لهيئات التحقيق الأميركية، فعلى رغم ان الطلاب والطالبات يدرسون في جامعات معروفة ووفق اتفاقات مبرمجة وفي تخصصات دراسية محددة ويخضعون الى اشراف جهات حكومية سعودية واخرى اميركية، اضافة الى الاشراف المباشر من مسؤولي جامعاتهم، اي انهم ملفات مفتوحة وواضحة لا شبهة ولا ريب فيها، إلا انهم مع هذا كله ضحايا ضغوط نفسية متواصلة، يعيشون حالات قلق وتوتر دائمين نتيجة الزيارات المتكررة لمخبري المباحث الفيديرالية، واستدعائهم الى مراكز المباحث ودوائر الأمن المختلفة للابلاغ عن اي شيء مهما كان تافهاً او عن لا شيء، ناهيك عن المتابعة الدائمة لهم وخضوع كل تحركاتهم لعيون لا ترى بالضرورة ما هو ماثل امامها بل ربما تخضعه لما قد لا يرد او يخطر في بال! مايحدث في اميركا لايمكن فهمه اطلاقاً إلا إذا اقتنعنا بأن ديموقراطية اميركا كانت زائفه، ومجرد قناع خارجي يفتقد الصلابة، ولا يتمتع بأي درجة من الالتزام الانساني، والا كيف تنحرف تلك الجميلة فجأة عن كل ثوابتها لتستحضر ثوابت تعود الى العصور الوسطى. كنت أقول دائماً : لو كانت اميركا فتاة لكانت صديقتي! لكنها فجأة خذلتني وادارت ظهرها بعد عشرة صادقة استمرت اكثر من عشرين عاماً من دون ان اقتنع بالأسباب، او أفهم المبررات التي طرحتها اميركا وتوالي طرحها منذ الحادي عشر من سبتمبر. ذلك اليوم الفاصل في علاقتنا والذي محا من ذاكرتي كل التفاصيل الجميلة لأميركا لتحل مكانها صورة مختلفة تماماً، محصلتها النهائية ظهور شخصية مغايرة استطيع ان اسميها اميركا القبيحة... اميركا اللاديموقراطية. ولن اغالي لو قلت انها عرقية، لكنني بالطبع لن اقول اميركا الصليبية!! كاتب سعودي.