منذ بدايات عقد التسعينات من القرن التاسع عشر، كان بيار لوتي كون لنفسه، في الأوساط الأدبية الفرنسية خصوصاً، وفي الأوساط الشعبية في شكل عام، سمعة جيدة بصفته كاتباً أغرم بالشرق، وها هو يعرف كيف يصفه في شكل مشوق في كتب ونصوص راحت تصدر تباعاً. وكانت الذروة الأولى، في ذلك الحين، رواية "آزيادة" التي كتبها لوتي بعد تجوال في أفريقيا وإقامة، لردح من الزمن، في اسطنبول. وهذه الرواية أتت يومها لتحكي عن غرام قام بين ضابط انكليزي وسيدة تركية في عاصمة الخلافة العثمانية. ولأن لوتي كان يومها متأثراً بكبار الكتّاب الرومانسيين من أمثال فيكتور هوغو وشاتوبريان، كان من الطبيعي أن تنتهي تلك الرواية - القائمة أصلاً على ما يشبه السيرة الذاتية - بموت الحبيبين. غير أن المهم في تلك الرواية لم يكن موضوعها، بل مناخها: النظرة التي يلقيها الكاتب الفرنسي المغامر والبحار على تركيا ذلك الزمن، تركيا التي كانت بالنسبة اليه والى أوروبا، تكاد تختصر الشرق كله والإسلام كله. ومن هنا اعتبرت "آزيادة" ليس فقط بطاقة اعتماد لوتي لدخول عالم الأدب - وهي كانت روايته الأولى، على أية حال - بل عالم الشرق أيضاً. وهو، بعد سنوات من صدور "آزياده" أحس بأن عليه ان يعيد الكرة وأن يصدر رواية "شرقية" أخرى يضع فيها ما أحس انه ناقص في "آزياده". وهكذا أصدر في العام 1906، أي بعد نحو عقدين من انتشار "آزياده" رواية "الخائبات"، التي تدور أحداثها، أيضاً، في تلك الشرق الإسلامي الذي لطالما سحر الكاتب وجعله راغباً بالانتماء اليه كلياً، شخصياً وكتابة. وكثر يرون اليوم ان "الخائبات" على رغم انها أقل شهرة وشعبية من "آزيادة" ومن غيرها من روايات لوتي "الشرقية" الأخرى، تعتبر أكثر قوة في تعبيرها وفي رسمها لمناخاتها، بل كذلك في مجال اقترابها من الواقع الشخصي الذي يبدو واضحاً ان بيار لوتي أراد التعبير عنه. والطريف ان "الخائبات" إذ بدت أكثر قرباً من الواقع مما ينبغي، أو مما كان لوتي يريد، دفعت كاتبة تدعى مارك هيليس الى ان تصدر في العام 1923، أي في العام نفسه الذي مات لوتي، كتاباً عنوانه "سر الخائبات" تؤكد فيه ان البطلة التي يصفها لوتي في الكتاب، ويعطيها اسم "جنان" لم توجد أبداً، واصفة كيف انها هي نفسها شاركت في الخديعة كما سنرى. ولكن قبل أن نطل على هذا الأمر، سيكون من الأفضل التوقف عند رواية "الخائبات" نفسها. منذ الغلاف يضع بيار لوتي قارئه في مناخ الرواية، موحياً اليه بأنها ليست تماماً من بنات الخيال، بل أنها مبنية على أحداث حقيقية تطاول شخصيات وعلاقات وجدت حقاً. فالرواية، على الغلاف، تحمل عنواناً ثانياً توضيحياً هو: "رواية الحريم التركي المعاصر". وهذا ما أتاح للوتي ان يشرح كيف أنه أراد في الكتاب أن يرسم صورة ل"وضعية المرأة التركية" وأن يُري "مقدار الثقافة الذهنية المرتفعة الموجودة اليوم في دوائر الحريم الأتراك، وما يسفر عنه هذا من معاناة" لدى نساء ذلك الحريم، بفعل التفاوت بين ما تعيش هذه النساء ومستوى تفكيرهن. ولئن كان لوتي يقول بعد ذلك ان الحبكة التي تتمحور الرواية من حولها، هي من اختراعه، فإن السياق نفسه يأتي لينفي هذا، طالما ان الشخصية الرئيسة في الكتاب، هي شخصية كاتب أجنبي فرنسي معروف في تركيا مثله في هذا مثل لوتي نفسه ويحمل هنا اسم اندريه ليري. ومن الواضح ان كل الصفات والسمات التي يضفيها لوتي على بطله، انما تحيلنا الى لوتي نفسه. المهم ان ليري، ومثلما تقول سيرة لوتي انه حدث للوتي نفسه ذات مرة، يلتقي بثلاث نساء فاتنات يحملن في الرواية اسماء: "جنان"، "زينب" و"ملك". وتصف لنا الرواية كيف أن بنات العم هاته يعشن أيامهن خاضعات لقوانين الحريم الصارمة، لا يتمتعن بأية حرية، في الوقت نفسه الذي تؤكد الرواية ان الفتيات تلقين ثقافة رفيعة المستوى تؤهلهن لعيش حياة مختلفة تماماً عن الحياة التي يعشنها. ومن هنا تبدو معاناتهن مزدوجة: كنساء في مجتمع يقمع النساء، وكمثقفات غير قادرات على مسايرة ثقافتهن أو افادة المجتمع منها. ومن الواضح منذ البداية ان الفتيات واعيات لوضعهن ويتمنين لو تكون لهن حياة غير ما يعشن. وتكون "جنان" البادئة بالتعبير عن غضبها وثورتها، إذ نراها تكتب في لحظة صراع بينها وبين نفسها، رسالة الى الكاتب ليري الذي يهيمن منذ زمن طويل على أحلامها، كما تقول له في الرسالة. وإثر تلقي ليري الرسالة، يتوجه الى اسطنبول، وإذ تعرف الفتيات بمجيئه يجابهن الأخطار والقوانين، معاً، لكي يلتقين به. وهكذا من موعد الى موعد، ومن رسالة الى رسالة، يتأثر كاتبنا بوضع صديقاته هاته، ويعدهن بأن يكتب رواية تتكلم على وضعهن وحياتهن التي تمضي من دون هدف، ومن دون القدرة على أية حركة، إذ حتى فعل الخير والانضمام الى جمعيات خيرية، ممنوع عليهن. وكان يمكن الأمور ان تقف عند هذا الحد، والعلاقة أن تكون مثمرة ومفيدة للكاتب وللفتيات، لولا ان "جنان" تقع في غرام الكاتب، غير انها ليست قادرة على تمثل هذا الغرام وعيشه، لذلك يلتهمها غرامها التهاماً وتعيش محبطة خائبة تماماً. وحين يعود ليري الى فرنسا وقد آلى على نفسه أن يفعل شيئاً من أجل صديقاته الثلاث، تصله الأخبار لتنبئه بموت "جنان" التي كانت، بالنسبة اليه، تمثل لغزاً غامضاً يستعصي على كل حل. والحال ان بيار لوتي يوقف روايته هنا، مكتفياً بهذا القدر من الحديث عن معاناة المرأة التركية في ذلك الحين، ويبدو في الصفحات الأخيرة، كما في الصفحات الأولى، كما لو كان راغباً في تغليف الأحداث الحزينة بالحديث عن جمال تركيا، إذ نجده يسهب في وصف المشاهد الطبيعية وحياة الناس ومقدار ما عند الأتراك من كرم وثقافة وأخلاق حميدة، من دون أن يهتم كثيراً بمدى التناقض القائم بين ما يعزوه الى الشعب من مزايا، وبين المصير الذي يتركه هذ الشعب لنسائه. وهكذا بدت "الخائبات" متأرجحة بين أدب الرحلات، والرواية، الى درجة ان كثراً من القراء اعتقدوا دائماً ان ما يرويه لوتي حدث حقاً. وظل الأمر على هذه الحال حتى اصدار مارك هيليس الكتاب الذي ذكرنا، والذي أماطت فيه اللثام عن "حقيقة الأمر"، إذ قالت انها كانت هي نفسها التي ارتدت الثياب التركية والتقت بيار لوتي في تركيا زاعمة انها مسلمة تدعى "ليلى" وراحت تكاتبه، حيث انه هو اتخذ من شخصية "ليلى" هذه، أساساً بنى عليه شخصية "جنان" مخترعاً لها صديقتين. وأكدت هيليس في كتابها، انها أوصلت الخديعة الى ذروتها حين كتبت لاحقاً الى لوتي، تخبره بأن "ليلى" جنان ماتت. مهما يكن من الأمر، فإن القراء ما اهتموا أبداً بكشف مارك هيليس للخديعة، بل استمروا يقرأون "الخائبات"، من ناحية ككتاب جميل عن تركيا وعوالمها، ومن ناحية ثانية كمرافعة من أجل حرية المرأة المسلمة ومستقبلها. وعرف هذا الكتاب كيف يتخذ مكانته في لائحة كتب بيار لوتي التي صنعت للشرق وللإسلام، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، صورة أتت مختلفة عن تلك التي كانت له، في أوروبا، قبلاً. وبيار لوتي الذي جعل من نفسه، وجعلته كتبه، من أكثر كتّاب فرنسا انصافاً للإسلام ولعالم الشرق، وهو ولد باسم لويس فيو، في جزيرة صغيرة في الجنوب الغربي الفرنسي، وهي الجزيرة نفسها اوليرون التي سيدفن فيها عند رحيله في العام 1923، وإذ قرر منذ طفولته ان يصبح بحاراً ومغامراً، تحقق له ما أراد، وأضاف الى ذلك ان اصبح، أيضاً، كاتباً. وكانت قراءته شاتوبريان حببت اليه الشرق منذ وقت مبكر. وهكذا امتزج كل ذلك لديه لينتج عشرات النصوص في أدب الرحلات والرواية، من "آزيادة" الى "الخائبات" ومن "نحو اصفهان" الى "رواية السباعي" و"أخي ايف" و"3 نساء من القصبة" و"في المغرب" و"شبح الشرق" وغيرها. ابراهيم العريس