لعل الميزة الأساسية لأدب ما يسمى ب «العصر الذهب» في فرنسا، كانت ذلك التنوع في المواضيع والأنواع الأدبية حيث اختلط كل شيء في مرحلة نظر اليها مؤرخو الأدب اللاحقون على انها واحدة من المراحل الأكثر انتقالية في تاريخ الأدب. كانت هي الفترة التي تصل القرن التاسع عشر بالقرن العشرين، أي في زمن حفل بالمواضيع والأفكار لإبداع كان متوقعاً له أن يكون حاملاً كل أنواع الجديد. ومن هنا كان لا بد للقديم والجديد من أن يتشابكا ويتصادما، بل حتى يتوالدا بغية انجاب الحداثة. واذا كانت جمهرة الأدباء والمبدعين عرفت كيف تنهل من كل شيء ومن كل مكان، فإن تاريخ الأدب سيقول لنا ان كل نوع أدبي، انما أمّن لنفسه من يمثله خير تمثيل. وفي هذا الإطار ينظر الى بيار لوتي، على أنه الأديب والرحالة الذي - والى جانبه فكتور سيغالين - أمّن الجانب الغرائبي الساحر، لا سيما بأعماله المستقاة من مشاهداته في الشرق الأوسط وأفريقيا. ولكن أيضاً وخصوصاً في الشرق الأقصى. واللافت ان بيار لوتي مزج، بنجاح كبير - يشهد عليه إقبال القراء والنقاد معاً -، بين لونين أساسيين من الأدب أتيا لديه متكاملين: الأدب الروائي وأدب الرحلات. ومن هنا نجده في نص من هنا يكتب عن أوضاع عايشها ورآها بأم العين، ثم يصدر من هناك رواية تستند الى تلك المشاهدات خالقة من حولها مواقف وشخصيات درامية وأحياناً ميلودرامية، بحيث ان قارئ لوتي يتساءل في نهاية الأمر، عما اذا كان لوتي، حتى في الروايات، يتحدث عما عايشه حقاً، وكذلك عن مدى استخدامه خياله ونظراته الذاتية، في أعماله الأخرى التي تنتمي الى أدب الرحلات. ولعل قراءة أحد أجمل كتب بيار لوتي، أي «آخر أيام بكين» كفيلة بوضعنا في دوامة هذا التساؤل. ذلك ان هذا الكتاب هو في المقام الأول تسجيل لمشاهدات ثم بعد ذلك سجل تاريخي لأحداث حربية من الواضح أن لوتي عاشها وعايشها بنفسه. لكنه، إذ يقرأ بشغف، يصبح أشبه برواية مميزة. طبعاً يمكن دائماً التعاطي مع نصوص أخرى للوتي على هذا النحو، لكن «آخر أيام بكين» يظل كتاباً له نكهته الخاصة في هذا السياق، تحديداً لأن له حكاية خاصة أيضاً. ففي عام 1900، كانت ثورة «البوكسر» استشرت ضد الجاليات الأجنبية - والمسيحيين الصينيين - في بكين وشانغهاي وغيرهما. واستدعى ذلك - بعد المجازر التي انتشرت أخبارها - قراراً دولياً وأوروبياً بالتدخل. وكانت فرنسا بين متّخذي ذلك القرار. لذلك أرسلت على الفور سفناً حربية بقيادة نائب الأميرال بوتييه، لتنضم الى الأسطول العالمي المتوجه الى الصين. ولما كان بيار لوتي (باسمه الحقيقي جوليان فيو) كبحار جزءاً من ذلك الأسطول، وبالكاد كان عاد لتوه من بعثة بحرية أخرى الى الشرق الأقصى، ضمّ الى سفينة القيادة كمساعد للقائد. وهكذا وجد نفسه يخوض غمار تلك الحرب، ليعود منها ويصدر عام 1902، كتابه «آخر أيام بكين»، الذي يبدو في نهاية الأمر كتاب تاريخ وكتاباً في أدب الرحلات، لا سيما في جزئه الذي يتحدث بخاصة عن المدينة المحرمة في بكين. علماً أنه حتى إن كان صحيحاً ان كثراً من الرحالة والروائيين كانوا تحدثوا عن تلك المدينة الإمبراطورية قبل لوتي، فإن نصّه في هذا الكتاب حول هذا العالم الفسيح والغريب الذي تحكمه الإمبراطورة تسو - هاي، وتحكم انطلاقاً منه العالم الصيني كله، كان - أي هذا النص - العمل الذي أوصل «شعبية» المدينة المحرمة الى الذروة لدى القراء الفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين، إذ سرعان ما ترجم الكتاب الى لغات أخرى. ولكن هذا النص، قبل أن ينشر ككتاب، كان نشر على شكل حلقات مسلسلة (29 حلقة) بعث بها لوتي الى صحيفة «الفيغارو» التي كان يراسلها، مباشرة من الصين. لذا يعتبر نصاً ميدانياً، لكنه - في الحقيقة - تجاوز هذا، مع أن لوتي حين أعاد نشره في كتاب سنة 1902 لم يحدث فيه تصحيحات كثيرة، ما يعطيه طزاجته وقوته. إذاً، من ناحية مضمونه التاريخي يصف لنا الكتاب كل تفاصيل تلك المهمة العسكرية التي انيطت بالأسطول وكيف تمكن التدخل الغربي العام من انهاء «الأحداث الشاذة» التي كانت تقع في كل مدينة صينية توجد فيها جالية اجنبية. لكن لوتي مزج ذلك كله بالحديث الشامل عن المرحلة، ومشاهداته فيها منذ البداية، أي منذ أول عام 1899، وكان لوتي بلغ التاسعة والأربعين من عمره، حين - بسبب الظروف في الصين - ألغي مرسوم حكومي بتسريحه، ليضمّ الى الأسطول، الذي سيبحر وبيار لوتي من ضباطه، أواخر صيف العام التالي للمشاركة في الحرب، وسيكون وصوله الى البحر الأصفر في الخامس من أيلول (سبتمبر) 1900. بالتالي، وكما يفيدنا لوتي، سينطلق هو صعوداً عبر نهر باي - هو، ثم بواسطة السكة الحديد، ثم على صهوات الجياد حتى يصل الى بكين. وهناك سيرى بأم عينه بؤس السكان وما خلفته الحرب لديهم. بل إنه يصف لنا كيف ان المدينة المحرمة (المدينة السماوية وفق الوصف الصيني المعتاد) صارت كتلة من الأطلال. انه الكابوس يخيم الآن على مدينة كانت كالفردوس، يقول لنا لوتي. وهذه الصورة هي، في الحقيقة، التي أوحت اليه بعنوان الكتاب. غير ان هذا لم يمنع لوتي الذي نزل في جناح من أجنحة قصور المدينة المحرمة يسمى «قصر الصيف» من أن يصف روعة ذلك المكان كما كان من قبل، أي قبل نهب «الصينيين» له - كما تقول التقارير الأوروبية -، ولكن «من قبل الأجانب أيضاً» كما يؤكد لوتي. ولعل الفقرات التي كرّسها لوتي، في الكتاب للحديث عن المدينة المحرمة، تبدو أقوى ما فيه: «هناك أولاً السور الأسود الكبير، انه أشبه بجدار بابلي، حصون تفوق قدرة البشر لمدينة يزيد محيطها عن عشرة فراسخ، ها هي الآن تبدو أطلالاً محطمة، شبه خالية إلا من الجثث الملقاة هنا وهناك. ثم داخل هذا سور ثانٍ مطلي بأحمر يشبه لون الدم، يحمي في داخله مدينة أخرى حصينة. وبعد ذلك سور ثالث، يبدو أكثر منعة، لكنه مطلي باللون ذاته. انه سور شديد الغموض. أنا واثق من أن رجل أي أوروبي لم تطأه قبل هذه الكارثة التي وقعت. ولقد اضطررنا اليوم، على رغم كل شيء، أن نتوقف عند مداخله منتظرين أكثر من ساعة للدخول على رغم كل الأذونات الرسمية التي نحملها (...) حيث كان علينا أن نفاوض ونساوم مع حراس لم يكن يهمهم بعد كل شيء إلا أن يهربوا. انه مشهد الانهيار الشامل...». غير ان هذا لم يكن كل ما شاهده بيار لوتي في تلك المدينة ووصفه في ذلك الكتاب. بل ثمة صفحات تبدو مشرقة أكثر، لا سيما تلك التي يصف فيها الوصول أولاً الى البحر الأصفر، ثم الوصول الى نانغ - هاي فبكين. وحتى في هذه الأخيرة بعد تلك الوقفة على «أطلال» المدينة المحرمة، يحدثنا عن بكين في الربيع حديثاً يغلب عليه التشويق والتوقف عند جمال الطبيعة، ثم بخاصة حين يتوقف مطولاً عند قبور الأباطرة، ليعود في الفصل الأخير، والذي حمل الكتاب كله عنوانه، ليكتب في شكل يوميات كل ما شاهد من جديد. لكن ما شاهده هذه المرة يبدو عابقاً بالأمل: «ان بكين ستبنى من جديد، بقدر ما ستعود لتمتلئ بالسكان». غير أن لا شيء سيعود كما كان «لأن إعادة البناء ستكون سريعة وبنفقات زهيدة: روعة الماضي لن تعود». يعتبر «آخر أيام بكين» على أية حال، صرخة ضد الحرب ودمارها، حتى وان لم يقل بيار لوتي (1850 - 1923) هذا صراحة، في نص ربما يكون الأكثر ميدانية ومباشرة بين كتبه. والمعروف ان لوتي كتب معظم أعماله، خلال العقود الأربعة ونيف التي أمضاها في البحرية الفرنسية، إذ مكّنته من أن يزور مناطق كثيرة جداً من العالم وأن يكتب عن هذا العالم، ومن وحيه، نصوصاً حملت عناوين بقيت في الذاكرة مثل «جزيرة الفصح» و «يابانيات الخريف» و «آزيادة» و «أخي ايف» و «زواج لوتي» و «موت فيلة» وهذا الأخير عن مصر التي أحبها ودافع في أوروبا عن استقلالها بحماسة هو الذي كان صديقاً لمصطفى كامل، أحد أكبر مناضليها الاستقلاليين. [email protected]