في صباه اعتاش فقّاس من قراءة الفاتحة على أرواح أموات المقبرة. في يفاعته ذهب يبحث عن شغل. قالوا له ان كل الشغل مشغول. في شبابه فرَّ من الخدمة العسكرية لأن الثكنة لم تتسع لروحه الهائمة. وأخيراً هرب من الوطن الذي يشبه ثكنة باهتة بسياج شائك. بلا مشقة أدرك فقاس ان الوظيفة لم تُخلق له، ولم يُخلق لها، وهو من فصيلة أولئك البشر الذين لا يعرفون أبداً ما يجب ان يعملوه لكنهم يعرفون دائماً ما يجب ألا يعملوه. جاء الى باريس التي لم تتسع لحلمه البسيط والمركب. وجد نفسه يرقد في سيارة مهجورة. قضى فيها أياماً باردة الى أن طردوه منها. اهتدى الى قبو معتم، رأى أشباحاً وأرواحاً لم يرها غيره، وسمع أصواتاً تناديه وحده. لبى فقّاس النداء، وأمسى يخاطب الأرواح، ويتكلم مع أمه البعيدة بلا هاتف، يقول أشياء لو صدرت عن غيره لما صدقتها، لكن الحال مع فقاس تختلف، انه لا يقول الا ما يرى، ولا يحكي الا ما يسمع. يتسكع فقّاس ما بين الحي الجامعي وحي السان ميشال. يعرف الشوارع والأزقة، يعرف الوجوه القارة والثابتة، الغريب منها والأليف. مشّاء لا يكل عن المشي، كأنه تمثال جوال أو خروف أسود هارب من رتابة الحياة البيتوتية. لا يشكو، ولا يتأفف، ولا يلعن القدر. عابر سبيل لعالم آخر. على هذه الأرض وليس منها. آخر وريث لسلالة شيوخ الزوايا والتكايا. يقول فقاس ان العمر رحلة قصيرة، ولا تستحق أن تُهدر في ورش البناء والمصانع. ولا يطمع من الدنيا إلا بقبر مجهول، يسوح في الآفاق يجول في الشوارع الى أن يقضي الله أمراً كان مقضياً. تارة هو سارح بين الأشجار، كأنه جزء لا يتجزأ من المنظر الطبيعي، أو الصمت الذي يود ان يتكلم، وتارة هو متكئ على طاولة في كافيتيريا الحي الجامعي، اصابعه قابضة على الغليون، وعيناه سارحتان في آفاق داخل نفسه. انشغل فقّاس بالعالم العلوي عن السفلي، وبالغيبيات عن الدنيا. يتنبأ بالغيب، لكنه عاجز عن تعيين الحصان الفائز في مضمار سباق الخيل. يعرف حدود علمه ويقول ان العلم عند علام الغيوب. الشارع موطنه، وعيون النساء مأواه، والقيلولة تحت فيء شجرة أقصى مناه. وجهه صارم كوجه راهب أو وجه محارب. يقول ان هذه الأرض ليست أرضه، لكن تلك السماء سماؤه. من وقت الى وقت أبحث عنه في مطعم الأكل السريع، حيث يحط رحاله بعد نهار طويل، حيناً أجده، وحيناً لا أجده. حيناً يكون وحده، وحيناً يلتئم حوله المشردون والصعاليك، ومن ضاعت بهم السبل، الباحثون عن قهوة رخيصة في سلوى حميمة، اسمعهم يتندرون بالحديث كالعجائز حول موقد الشتاء. يتحدثون عن النساء كما يتحدث سندباد عن طائر الرخ. يتحدثون عن كل شيء وعن لا شيء، عن ماض غابر، عن وطن منسي، وعن أمل بعيد، بعيد جداً. أنسى بؤسي في بؤسهم. أضلل همي في همهم. وأسرق شعلة النور المتغلغلة في قرارة يأسهم. باريس - عبدالحميد عبود