قالت لي العرّافة في «كوفنت غاردن» كنا نطارد أحلامنا أنا ومسعود. نعدُّ الغيوم، ونتأكد من زرقة السماء، ونطعم طيور الشوق، والأمل. اكتشفت أنني لا أحب الكلام، ومسعود لا يحب الكتابة. لا أبالي إن فقدت صوتي، وهو لا يخشى أن يفقد أصابعه. نتحدث عن كل شيء، وفي كل شيء، والأهم خيباتنا المشتركة، التي تطل علينا في وجه كل مسافر، وفي حديث أي ثمل. من بعيد لاحت لنا العرّافة العجوز. اندسسنا بين الصفوف، وحين حان دوري، مددت أصابعي التي كنت أخشى عليها من الهواء، بينما أخفى مسعود حنجرته التي كان يخشى عليها من الخدش، وبقينا جميعاً أسرى لشفتيها المرتعشتين. نعم سأحظى بحياة طويلة، سأكون ناجحاً في عملي، وسأتذكر جدي الذي كان يحب صلاة الفجر أكثر منّي، وسأكون في حضن أمي يوماً ما، كي تهدهدني بين ذراعيها، ويغدو العالم كلّه سريراً يتأرجح في فضاء الحنان، ولن أتزوج حبيبتي، وسوف أكون عاشقاً لكل شيء، حتى الأشجار، وأضواء الزينة. سمعت منها الكثير، الكثير. دسست الجنيهات العشر في يدها اليمنى، وأنا أتساءل، أهذا ما سيكون حقاً، أم أن هذا ما أردت سماعه؟ نون النشوة كان العاشق الكبير في العائلة كلها. كانت عمتي سعاد تصفه بأنه أغنية، وجدتي هدباء تتعامل معه على أنه قوس قزح، بينما كنت أنتظره كل ليلة كالنجوم. كلما كبرنا، كان يصغر، وكلما تألمنا كان يضحك. كان يبكي في لحظات الفرح، والأعياد، ويضحك في الجنازات، وغرف المرضى. لم نكن نعاتبه على هذه التصرفات الغريبة، لأنه أغنية، وقوس قزح، ونجمة هربت من حقل السماء... ويا ليتنا كنا نعرف أنه سيأكل نفسه حين يجرب العشق، وإلا كنا منعناه من ذلك. كان حين يحلم، يقضم أظافره، وحين يعشق، يقضم أصابعه، وحين لم يرَ طيف عبير، لأكثر من أسبوعين قضم يده، وحين رآها في فستان الزفاف الأبيض - كأنها غيمة - قضم أضلاعه، وصدره، وأحلامه، وقلبه، ولم يبقَ من عمي: سليمان بن عبدالله الطارف، سوى آمال مكسورة، وأحلام محطمة. * إعلامي سعودي ومدير تحرير «إيلاف».