(1) لم تكن أمه التي لم يرها هي أم أخوته، وتلك كانت فاصلة كبيرة في حياته، بعدما مات أبيه، ولم يجد صدراً حانياً يشتكي إليه، ولم يجد من يمسح دمعته، حين رأى إخوته، أيام العزاء في موت أبيه... وانتهت أيام العزاء ولم ير إخوته بعدها، شعر أن الحياة تمد أيامها له بسكين حادة، لتفصله عن رؤية أبيه، وعن رؤية إخوته... دفنوا أباه قبل يومين، واليوم الثالث للعزاء بكى رحيل أبيه، لم يخبره أحد عن موت أبيه، لأنه كان في زيارة لخاله في القرية، يوم وفاة أبيه، وحين رجع عرف أن أباه مات ولكنه لم يعرف وجوه إخوته!!.... كأنه عقد من ثلاثة فصوص وأنحل، هكذا كان إخوته بعد وفاة أبيه، وكان هو الفص الذي لا يقبله العقد!!.. (2) حين مات أبوه، لم يكن قد أكمل عامه التاسع عشر... كان قدره أن يصحو في هذه الحياة بلا أم... ولد كما يولد أي إنسان، لا يختلف في ولادته عن أحد، ولكنه لم يعش كما عاش هذا الأحد!. فقد كانت حياته مرتبطة بوجود أبيه، وحين مات طرده إخوته من الدار، لم يقل لهم شيئاً فهم جميعهم أكبر منه، ولكن لم يجد مكانا للفرح والراحة في الحياة. بعد أيام العزاء وجد نفسه في الشارع، أغلقت كل الأبواب بوجهه، فرحل إلى القرية حيث يكون خاله، خمسة عشر شهراً عاشها في بيت خاله، وبعدها أكملت بنت خاله عامها الثالث عشر، فطردته زوجة خاله بدافع الخوف على ابنتها، وأول مرة يجد خاله صامتاً، ويلف وجهه عنه كلما التقيا!!!.... وبكل غباء رجع لإخوته في المدينة، سمع أصواتهم من خلف الأبواب ولم يرهم!.... (3) بينه وبين الحياة سنين طويلة لا يعرف عددها ولا يعرف مسلكها، شعر بالضياع وبالشوق لأبيه!... بحث عن عمل، لعله يستره من عري الحياة، فوجد مئات الألوف يبحثون عن عمل!... تعب من كل شيء، جلس على الرصيف تحت فيء شجرة، كان تائه الفكر، لم يستقر على رأي محدد، ولم يجد في هذه الحياة من يشجعه على ذلك... لا يعرف إلى أين يذهب؟ وهذا الليل الذي سيأتي بعد ساعات لا يعرف كيف يستقبله، وليس لديه من المال ما يصد عنه التفكير في القادم، فجأة رأى شخصاً يقترب من موضع جلوسه، ولأن الشمس كانت خلف ظهره لم يتبين ملامحه، وحين اقترب منه، أردف عليه السلام، وأجابه وهو يحاول أن يسحبه من ذاكرته، وجده قريباً منه ولكنه يجهله.. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.... مد يده ليصافحه فعرفه على الفور، أنه صديق أخيه الكبير، الذي كان يراه دائماً يأتي لزيارة أخيه في حياة أبيه... - ما الذي يجلسك هنا؟ - لم أجد غير هذا المكان يحتويني! ... - ولماذا لا تذهب إلى الدار... - لا دار لي! أمسك بيده، وكأنه قرأ في ملامحه تعبه وضياعه، وقاده معه لداره، ليحكي له كل شيء، منذ وفاة أبيه حتى جلوسه تحت فيء الشجرة. تناول معه وجبة العشاء، ونام في غرفة مجلس الرجال، وأول مرة ينام ملء عينيه. (4) في الصباح أفاقه من النوم، قام بتكاسل، وكأنه نام سنين طويلة، أحضر له منشفة، ودله على مكان الحمام، وقبل أن يخرج من غرفة المجلس، وجد إفطاره على المنضدة القريبة من مكان نومه. تناول معه الإفطار، وحين انتهيا، بحث عن ثوبه، فوجده أبيض ناصعاً، ومعلقا على درفة الباب، لم يعرفه إلا حينما أشار بيده إليه. خرجا من داره، وركب معه سيارته، لم يقل له شيئاً، وحين وصلا للمكان الذي يريده، قال له: هذا المبنى لأخيك الكبير، بناه من مال الورثة. كان مبنى هائلاً، دخلا سوياً، وبعد أن مشيا بضعة خطوات، أمسكه بيده وقال هامساً: سأدخل على أخيك أولاً، ومن ثم سوف أجعله يقابلك.... بعد ما يقارب من ثلاثين دقيقة تناول فيها كأسين من الشاي، فتح باب مكتب أخيه، وخرج صديقه ليؤشر بيده أن يدخل. دخل مكتبه، فوجده واسعاً، بارداً، وكأنه ذلك المكتب الفخم في أحد المسلسلات الخليجية الذي عرض في شهر رمضان، تقدم نحو أخيه، مد يده بتردد ولمس كفه، وأشار له بالجلوس، لم ينظر إليه ولم يحدثه، ولكنه خاطب صديقه قائلاً: - سأجد له وظيفة... ولكن... دام صمت محفز لمعرفة ما بعد «ولكن» - يعمل هنا بجد، وينسى إننا نعرف بعض. كان مندهشاً من قول أخيه.... «نعرف بعض» كان يردد في داخله.... أنا لست غريباً عنه، إنه أخي، ولكنه لزمت الصمت... - هناك سكن للموظفين خلف المبنى يسكن فيه... كل الكلمات التي أتت بعد جملته تلك، لم يستوعبها؛ لأنه وقف أمام جملته: نعرف بعض كثيراً. (5) ستة أشهر مضت وهو يعمل في شركة إخوته، لم يطالب بشيء، ولم يسأل عن إرث أبيه، ولم يفكر أصلاً بهذا الموضوع، حتى أتى صديق أخيه، وتحدث معه عن وضعه في الشركة، وأنه لابد أن يكون شريكاً في مال أبيه، وليس موظفا صغيرا فيه، رجاه أن لا يفتح هذا الموضوع مع أخيه، ولكنه صمم على ذلك بشدة. أخذه إلى مكتب أخيه، وحين فتح موضوعه مع أخيه، تأجج غضباً، وكاد أن يطردهما من مكتبه فقال لي صديقه: - انتظرني في الخارج... خرج من مكتب أخيه، لم يتحمله الصبر انتظاراً، فاقترب من باب مكتب أخيه، لعله يسمع ما يقولون،، وكأنه القدر هو من جذبه إلى الباب، ليسمع أخيه يصرخ عالياً: - أبي لم يتزوج غير أمي، وهذا من يدعي أنه أخونا قد يكون لقيطاً رأف به أبي، وقد يكون نتاج نزوة عابرة من أبي.... ضغط على رأسه بقوة يديه .... أنا لقيط ... أنا أبن حرام .... ؟. تركهما وذهب إلى مكتبه، يجر خطواته جراً، حتى أنه لم ينتبه إلى صديق أخيه وهو يدخل مكتبه ويقول له: - أحمل أغراضك، سأبحث لك عن عمل آخر، وسأطالب بحقك... بعدها لم ير إخوته بتاتاً، عدا أخيه الكبير صاحب الشركة، فكان له معه لقاء أخير... (6) - صمتك لن يفيدك بشيء، تكلم .... أبت الكلمات أن تخرج من لسانه، وكأنه فقدت النطق ... كان يشعر بصداع لا يجعله يرى من أمامه .... - كل الأدلة ضدك، لن يفيدك الصمت، قل الحقيقة ... - ............................................................ - لماذا قتلت أخيك الأكبر ؟!!!.... - ........................................................... (7) في يوم الجمعة الموافق الثاني من جمادى الأولى من عام 1431 هجرية، تم تنفيذ القصاص ..... !......