-1- الساعة الحادية عشرة صباحاً الخارج الجامح حميم. زهره يشيخ لا من الخريف، بل من الحكمة. الحكمة مسك. والمسك طفولة دائمة. -2- قبل أن أقرأ لوركا، وقبل أن أزور بيته في غرناطة، كنت أقول عنها إنها لغة لا تشبع الأيام من رضاع ثدييها. وكنت آخذها بحبال صوتي، وأعقد هذه الحبال بجذور الشعر. وعندما قرأته، لم أكن أعرف أنني أغرز كوكباً غريباً في رأسي. ثم تعلمت كيف أقيس الفروقات بين الشعراء والكواكب. حقاً، لا ترى غرناطة إلا حاملة لوركا بين ذراعيها. -3- الساعة الحادية عشرة صباحاً، في العاشر من أيار (مايو) 2009، زرت برفقة شعره قصر الحمراء. زيارة ليست الأولى، وأرجو ألا تكون الأخيرة. كانت خطواتنا حداءً لقافلة من عُشاق أحبوا نياقهم. وكانت الأشجار وأنواع كثيرة من النباتات ترافقنا. غنّت. أقنع غناؤها الهواء لكي يعزف تآليفه الموسيقية التي لم يعزفها من قبل. النهار كمثل لوحة تؤطرها حواجب الشمس، كنا نبدو فيها كأننا بؤبؤان يجيئان من شمس أخرى. لم تصعد الشمس الى عربتها العالية. آثرت أن تواصل السير معنا مشياً على قدميها. حسناً، فعلتِ أيتها الصديقة الشمس. تعلمينني أن لي في كل مكان جذرين: واحداً أضيئه، وآخر يضيئني. -4- الأيام ترقد في ثقوب قصر الحمراء. في زواياه. في الممرات والأروقة. في الأقفال والأبواب. في الأحواض والحدائق. في النقوش والرسوم، الألوان والحروف والخطوط. ترقد حولها أرقام وإشارات. دروب وآفاق. سلالم. سروج. طاسات للرؤوس، وطاسات للشفاه. ترقد في سديم أخضر. - لوركا، هل يقدر الشعر أن يكون وطناً لليقظة؟ - وأين اليقظة التي تقدر أن تكون وطناً للشعر؟ * كان الضوء ينسج للظل ثياباً غير مرئية. وفي الشفافية التي تؤالف بين الأطراف صانعة منها أوركسترا، رأينا كيف يكون الظل ضوءاً، والضوء ظلاً. وتأكد لنا أن الضوء لا يموت إلا من قلة العمل في حقل الظل. * الساعة الحادية عشرة صباحاً. سألنا عن ثور أسود قيل إنه ضرب موعداً للمصارعة. * سألت لوركا: أين أجد الأم غرناطة، إن لم تكن في الشرفات والنوافذ؟ - أنظر اليها كيف تنحني على العتبات. * تخيلت ذلك اليوم الذي أمطرت فيه سماء غرناطة في احدى زياراتي. كان الرعد نشوة في فراش الغيم. ورأيت المطر كيف يهجر عشيقته، الغيمة الشاردة، التي كانت تنام معه في فراش واحد. ورأيتها كيف تذوب حزناً، وتموت. ولم يكن قبرها بعيداً عن البيت الذي وُلد فيه لوركا. * تخيلت أنني أسأل لوركا: - هل أشفى إن قلت: أعود الى طفولتي؟ أو قلت: بين ذراعي رمانة أنام، وفي سرير وردة أستيقظ؟ * في ذلك اليوم، لم تحضّني غرناطة بذراعيها. أجلستني على ركبتيها. -5- قالت غرناطة: كنت في الأندلس زوجة ثانية أو ثالثة. لماذا أبدو اليوم كأنني زوجة أولى، وكأنني أكثر فتوةً؟ - ... - هل الوقت، اليوم، ذَكَرٌ كذلك؟ - ... * تشغلني الآن فضيحة الفسق. يشغلني، على الأخص، هذيان يتدفق من أبجدية الفجر. * سألت لوركا: - كيف لم تتعب الجيرالدا من وضع رأسها على كتف الريح؟ لم يجب. قال شيئاً آخر: - يجتاح رأسي الى فترة طويلة من النقاهة يمضيها في بساتين قلبي. * - 6- خذ الضوء وارسمه جسداً مائلاً على جسد الظل. سترى أن النظر مرآة. أنه وجه وعينان وكلام. سترى أن النظر لمسٌ بالصمت والحركة والاشارة. قل: الظل جدول. وسوف ترى كيف تتحول الجدران الى دفاتر. وكيف يتدلى الحبر أقراطاً في آذان الحجارة. وكيف يكون الحجر تمرداً، والحبر ترويضاً. وسوف ترى أن النقش والرقش إحكام رمي للحبر، وأن الحركات أقاليم. -7- « في الحمراء، تتآلف مواليد التاريخ مع مواليد الطبيعة»، قلت للوركا. قال: الزمن، هنا، تسطير خطوط، وتخطيط ظلال. وأضواء. كأن الضوء مسطرة نجار بارع. وقلت: هنا، العطر وصيّ على عرش الورد، والضوء وصيّ على عرش الماء. -8- (تعريفات) * النقش دفتر قيد للحركة. * الهواء ازميل يكشط الحجر. * النظر لمس ضوئي، أو هو ادراك سمعي للفضاء. * النقطة خوخ أخضر، حيناً، وحيناً مكان لنداء الخطوط وتجنيدها. وأحياناً، عين غائرة. * الجدار، كمثل العمود، قامة تفتر وتتكاسل غنجاً، لا تعباً. * القنطرة أميرة لنحل الأضواء. * للقبة خاصرة تضبط رقص الألوان. * الزاوية شعر موزون. * العمود عضلة رافعة. * السقف يسمع بخشوع خطاب الألوان. * الباب يشمّر أكمامه. * النحت النافر يرونق الباب. * الشمس تريح أعضاءها على الجدران. * الهندسة فنّ في ترويض الريح. -9- (زاوية السقوط) تَشَعّع، لكي تحسن توحيد أجزائك، أيها الضوء. بين الأقواس المتشجرة، والضلعية، والمسنّنة. بين العقود المقولبة التي تغطي أعالي النوافذ، والأروقة المقنطرة، والشرفات المقوّسة، في هندسةٍ - عرسٍ دائم. أرِنا، أيها الضوء كيف تسترخي السماء في ثقوب ترقِّش السقف، وكَيف تكون الهندسة والسماء توأمين. أرِنا، كيف تكون الهندسة اسماً آخر للشعر، وعلمنا كيف يكون ما لا نراه أجمل مما نراه. -10- (الخاتمة) الآن، بعد أن سمح لي الغيم في غرناطة أن أكون أخاً للمطر، هل سيسمح لي البحر أن أكون أخاً له؟