ككل يوم.. أستيقظ في نفس الموعد الذي تعودت أن أستيقظ فيه كل صباح.. لا يهم الساعة التي أويت فيها إلى فراشي في الليلة السابقة، سواء كانت مبكرة أو متأخرة.. المنبه الداخلي في يرن في موعده تماما، فأفتح عيني على نهار آخر، أستيقظ من نومي صباحا لأجد نهاراً آخر في انتظاري، دائما أتذكر مقولة أمي «أيام الله كلها سواء»، أغادر دفء بيتي باتجاه نهار آخر، أترك الحرية لعربتي لتقودني إلى «زناروزا» في شمال كانسس ستي، أقطع نهر الميسوري الذي يفصل الولاية إلى قسمين، دائما عندما أصف الميسوري أصفه بنهر الثراء والفقر، حيث يفصل المنطقة إلى قسمين مشدودين إلى بعضهما بجسور مبنية من أوهام الخيال وأسمنت الحقيقة.. الشوارع مزدحمة .. المحلات مزدحمة، الكريسمس على الأبواب، لهفة الناس على شراء الهدايا تجعلك تحس بشيء من الفرح الداخلي، شيء ما يردك إلى طفولتك الجميلة ومتعتك وأنت طفل بفرحة العيد والملابس الجديدة والهدايا والعيدية، شيء ما يجعلك تحس بلهفة الناس الحارة للفرح في عالم على بعد شهقة من الهاوية، شيء ما يجعلك تعتقد بأن الناس لم تعد في حاجة للاكتراث بمصير عالم يتفكك ويتداعى قطعة قطعة، وأنها لا تريد أن تضيع فسحة متاحة لشيء من الفرح وتبادل الهدايا وبطاقات التهاني، شيء ما ينتشلك من رعونة وحشتك ويلقي بك في خضم الاستعداد للاحتفال بالعيد، لفت انتباهي شرطي يتحدث مع سيدتين منقبتين محملتين بأكياس بلاستيكية منتفخة يحرر لهما مخالفة الوقوف في مكان غير مسموح الوقوف به، فجأة ومن دون سابق إنذار انطلق صوت من الرصيف المقابل بشتائم عنصرية مقززة كرصاصة اخترقت جدار «زناروزا»، التفت المتسوقون من حولي إلى مصدر الصوت وتبين لي مثلهم أن صاحبيه شابان، وبدا للجميع أن شيئا ما أقرب ما يكون إلى المصيبة قد حل.. تواصل الصراخ.. واصلت كغيري متابعة المسرحية بفضول كان قلبي متعاطفا مع السيدتين، إلا أنني كنت على وعي بسوء الموقف الذي أوقع الشاب نفسه فيه عمدا.. اختارت السيدتان الصمت كملجأ يحميهما من تدفق السيل الهادر والغاضب، أما أنا فشعرت بشعر رأسي يقف وبلحم جلدي يقشعر وبقلبي ينكمش، فكرت أن أفعل شيئا، إلا أنني فوجئت مثل غيري بتصرف رجل البوليس الذي قفز للرصيف المقابل وهرع للشاب مسرعا، ثم رأيته يمسك به من ياقة معطفه ويجرجره ويطرحه أرضا مخضعا إياه بالقوة على الأرض، واضعا الأصفاد في معصمه.. كان الشاب الآخر قبل أن يفعل رجل البوليس ذلك بادر وبأسرع من لمح البرق بصفع الشاب صفعة قوية على خده الأيسر.. لحظات وامتلأت المنطقة بعربات الشرطة، وقام أحدهم باعتقال الشاب الذي صفع رفيقه على اعتبار أن ما فعله اعتداء على النفس، رصدت عيناي في وجوه بعض من كانوا حولي منهم ملامح الارتياح.. عاد البوليس للسيدتين ليستكمل إجراءات المخالفة ويمنحهما حق مقاضاة الشاب في نفس الوقت، لا أعرف السبب الذي جعلني أتدخل، كل ما أتذكره أن البوليس نظر إلي من خلال عينين ضيقتين لحظة، ثم أخذ يقلب عينيه الزرقاوين متضايقا متبرما لتدخلي، أشعرني بأنني في مولد لا ناقة لي فيه ولا جمل، قلت له إني أحاول أن أخفف من واقع الإهانة عليهما.. قال لي: سينال عقابه ما لم تتنازل السيدتان عن حقهما في رفع القضية، والتي ستكون السجن ودفع تكاليف المقاضاة وتعويض السيدتين عن الإهانة العنصرية التي لحقت بهما، والتي هو شاهد عليها، التزمت الصمت مستشعرا مدى لقافتي العميقة، كان الانزعاج بادياً على السيدتين اللتين كانتا تتحدثان إنجليزية ضعيفة، وكفرج من السماء طلبت السيدتان تدخلي بعد أن عرفتا أنني عربي، عندها طلب الشرطي مني أن أبلغ السيدتين أن شرطية في طريقها للحضور، وأن الأمور ستكون على ما يرام، أبلغت السيدتين بما قاله لي، وحضرت الشرطية التي أبلغت السيدتين بحقوقهما عن طريقي، فجأة وكلدغة بعوض في ذراعي، قالت لي السيدتان وبصوت عربي واضح «نحن لا نريد شيئا من أحد، لا نريد مشاكل، نرجوك نحن متنازلتان»، كنت أستمع إليهما بمزيج من المرارة والحموضة.. قلت لهما: أرجوكما لا تتنازلا، إن عدم تنازلكما عن القضية هو رسالة للطرف المعتدي أن هجومه انكسر وأنه لم يحقق أهدافه.. كنت أحاول يائسا أن أكون طبيعيا وأنا أقنعهما، ولو أن التبرم كان باديا على وجهي، ونزولا عند إصرارهما نقلت الرسالة للشرطية التي كانت تقرأ انزعاجي الواضح من انكماش ملامح وجهي والنظرة الحائرة المرتبكة، إلا أنها وبعد أن تأكدت من رغبة السيدتين، طلبت من الشرطي قفل المحضر، ثم تبعت السيدتين وقادتهما نحو سيارتهما الراسية بمحاذاة الرصيف، بعد أن فتحت لكليهما الباب حتى صعدتا وأغلقته بعد أن صافحت كلا منهما، ثم تحركت إلى الجهة الأخرى وفتحت الباب المجاور للشرطي السائق، وصعدت مغلقة الباب، فتحركت سيارة البوليس زاعقة تنقل الشابين بأصفادهما في الخلف.. ظللت واقفا برهة في وجوم وخيم صمت ثقيل علي، كنت أغلي من الغيظ، سرت إلى أقرب مقهى صادفني، كنت أتعثر في خطاي مثل طفل يتعلم المشي، أخذت المنضدة الشاغرة الخارجية بالمقهى، طلبت قهوة وأشعلت غليوني وجلست صامتا وكأن على رأسي الطير، كان سؤل كبير ينتصب أمامي: لماذا يتنازل العربي عن حقوقه التي طالما طالب بها بهذه السهولة في بلد منحه كامل الحقوق، تهت في دوامة الحيرة وتعاريج السؤال.. أخرجت من حقيبتي الجلدية التي تتبعني دائما أينما سرت كأنها لعنة كتابا حاولت إشغال نفسي بقراءته، إلا أنني وجدت أن عقلي سارح مفكر في موقف السيدتين.. تمنيت على نفسي لو أن الله يلهمني الجواب، ثم ما لبث أن أفلت عقلي إلى عوالم أخرى بعيدة لها علاقة بما رأيت وسمعت، وتركت المقهى وأسئلة مغشيا عليها بلا جواب.. هل لدى أحد منكم جواب.