اعتاد الدمشقيون وخاصة في فصل الصيف الحار الهروب من زحمة المدينة الى بقع خضر، ربما، أقل كثافة سكانية وغالباً ما تكون قريبة من دمشق: الربوة، دمر، الهامة، بسيمة، الغوطة... الخ. وغيرها من الأماكن التي يمكن أن يجدوا فيها متسعاً من الهدوء لإراحة الجسد والروح بعد عناء العمل وهمومه اليومية... طقس جميل وقديم التصق "بالشوام" وحتى إذا رغب أحد أبناء المحافظات السورية ممازحة صديقه الدمشقي بدعوته الى عمل ما قرب دمشق يقول له "اعتبره سيران". وبالفعل في كثير من الأحيان يخيل إليك ان دمشق كلها تطلب هذا الاستجمام الاعتيادي الجميل وبخاصة في أيام العطل حيث توفر لهم تلك الأماكن جواً معتدلاً وهواء منعشاً في عز قيظ الصيف. ومع الامتداد العمراني لمدينة دمشق والهجرة من الأرياف السورية الى العاصمة تلاشى تدريجياً كثير من البقع التي كانت مقصداً للسيران وتحولت مع الزمن الى كتل اسمنتية مترامية هنا وهناك بديلاً من أشجار الجوز والزيتون والصفصاف وعرائش العنب التي كثيراً ما يذكرها العجائز في دمشق ويتحدثون عن أكلة "الهريسة" التي كانوا يطهونها أثناء سيرانهم في بساتين "الزاهرة" أو قرب "السيدة زينب" أو "المزه". وتتذكر العائلات الدمشقية ضفاف بردى قرب معرض دمشق الدولي بمكانه الحالي وبساط المرج الأخضر المحيط به أيام الستينات من القرن الماضي، اضافة الى عبثهم ولهوهم في ساحة الأمويين وحدائقها والأشجار الكبيرة التي كانوا يطلقون عليها أسماء تذكرهم بحادثة ما جرت معهم، أو عن نسيانهم "سياخ اللحمة" أو ضياع أحد الأولاد في السيران وربما نسيان أحدهم التنباك في المنزل وجلب الأركيلة الى تلك الجلسات من دون التمتع "بفوائدها". حصيرة للجلوس في كثير من الأحيان تكون قديمة، الى بابور الكاز وكامل "العدة" التي ترتب قبل يوم السيران مع تجنب نسيان أي شيء، بدءاً من الملعقة الصغيرة الى "الشراطيط" التي تلف عند عنق الأركيلة لكتم الهواء. كل تلك الأشياء تحصر وتجهّز قبل الانطلاق. ولم تكن تلك العادة الدمشقية محصورة في شريحة معينة، فالفقراء كما الأغنياء تجمعهم الرغبة الواحدة في التنزه وقضاء وقت جميل وحتى في اختيار الأماكن ذاتها. ولكن اليوم، ومع الانفجار السكاني للعاصمة في السنوات الأخيرة وظهور أحياء شعبية فقيرة حولها، لوحظ ان سكان تلك الأحياء صنعوا "سيرانهم" الخاصة، فمع دخول "البيزنس" الى السياحة والاضطرار لإزالة مساحات خضر شاسعة حول دمشق واستثمارها من القطاع الخاص ومن ثم تحول معظمها الى مطاعم وفنادق ومقاه يستحيل على الفقير ارتيادها في ظل ظروفه الاقتصادية القاسية، كان طبيعياً أن يبتعد الفقراء عن تلك الأمكنة أو يبعدون. لكن على رغم ذلك البعد القسري، استطاعوا ان يبتدعوا طرائق خاصة ويكتشفوا أماكن جديدة، لا لشيء إلا لأن السيران طقس عائلي "مقدس" في كيمياء الأسرة الدمشقية ومنذ غابر الزمن. لقد باتوا يقصدون مداخل المدينة من جهاتها الأربع وخصوصاً في البقع الخضر التي صممتها المحافظة وبلدياتها لغايات تجميلية. صار الفقراء الدمشقيون اليوم يفترشون العشب في بعض الحدائق العامة وعند غالبية البقع الخضر قرب نصب الجندي المجهول على السفح الغربي لقاسيون بين دمشق ودمر، وأيضاً نراهم على مدخل دمشق الرئيسي من جهة حلب البانوراما الذي يغص بالمئات من العائلات الفقيرة التي لا يكلفها السيران سوى القليل من "البزر والبطيخ ودلة القهوة وترمس الشاي اضافة الى ورق الشدة وطاولة الزهر". وتكاد تكون زياراتهم يومية وان كان ليومي الخميس والجمعة مكانة تقليدية خاصة، ويرجع ذلك أولاً لقرب منازل هؤلاء من تلك الأماكن وثانياً لعدم اضطرارهم لاستخدام أي واسطة نقل للوصول الى المكان. وهناك أيضاً جسر "الزاهرة" جنوبدمشق الذي اعتادت ان ترتاده العائلات بقصد السيران اليومي وغالباً ما تأتي تلك العائلات من الأحياء الشعبية القريبة. ولكن خطورة تلك العادة من السيران الممسوخ تكمن في عدم وجود أي حواجز بين تلك البقع الخضر الواقعة عند مداخل المدينة والطريق العام المخصص للسيارات.