مع بداية فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة ضمن مدينة دمشق يصبح جبل قاسيون متنفساً لأهل المدينة، وملاذاً معتدلاً وهادئاً ومفتوحاً لأولئك الهاربين من بين جدران الغرف المغلقة، فالإنسان بطبعه يميل إلى الاسترخاء في أحضان الطبيعة المشرعة على المدى، حيث النسيم العليل، والهواء النظيف، والهدوء... وجبل قاسيون المطل على دمشق يكون مسرحا مناسباً لتحقيق هذه الرغبة التي لا تكلف شيئا. ولئن كانت سفوح جبل قاسيون تستقبل البشر من كل الشرائح والمستويات والأعمار غير ان النسبة الغالبة هم من العمال وصغار الكسبة البسطاء الذين لا يستطيعون اصطحاب عائلاتهم للذهاب إلى المصايف الكثيرة التي تحيط بالمدينة حيث المطاعم والمقاصف والملاهي...فهذه الأماكن تكون مكلفة لهم، لذلك فهم يستعيضون عنها بقضاء جلسة صيفية ممتعة على سفوح جبل قاسيون حيث يمتد بساط من المرج الأخضر. خبز وحشيش وقمر وهذا التقليد الدمشقي لاحظه شاعر دمشق الكبير الراحل نزار قباني الذي كتب عنه قصيدته المعروفة «خبز وحشيش وقمر» التي أثارت، لدى كتابتها منذ عقود، جدلا واسعا إذ وصل صدى القصيدة إلى البرلمان السوري الذي راح يناقش مضامين القصيدة، وتعرض الشاعر الكبير نزار قباني، على إثرها، لكثير من المضايقات لأنه عمل في هذه القصيدة على تأويل ظاهرة الذهاب للسهر في سفح قاسيون تأويلا سياسيا، وربطها بالوضع الاقتصادي، منتقدا الجمود والكسل واللامبالاة التي يعانيها الناس في الشرق، وهذا ما أثار حفيظة السلطات في حينها، يقول قباني: «عندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ فالسطوحُ البيضُ تغفو... تحتَ أكداسِ الزَّهرْ يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ لملاقاةِ القمرْ.. يحملونَ الخبزَ، والحاكي، إلى رأسِ الجبالْ ومعدَّاتِ السهرْ.. ويبيعونَ، ويشرونَ.. خيالْ وصُورْ.. ويموتونَ إذا عاشَ القمرْ ... أيُّ ضعفٍ وانحلالْ يتولانا إذا الضوءُ تدفّقْ فالسجاجيدُ، وآلاف السلالْ وقداحُ الشاي.. والأطفال.. تحتلُّ التلالْ في بلادي.. حيثُ يبكي الساذجونْ ويعيشونَ على الضوءِ الذي لا يبصرونْ» ما وصفه نزار قباني قبل عقود في قصيدته هذه الذائعة الصيت يتكرر إلى الآن، فلئن جاءت هذه القصيدة في سياق ظروف سياسية واقتصادية معينة وأثارت موجة من ردود الفعل والاحتجاج، إلا أنها تكتب إلى الآن كل مساء، في شكل آخر، على المروج الخضر بمداد أحلام البسطاء، ويراعات أمانيهم البسيطة... عندما يأتي المساء... لكل مدينة خصوصيتها، وطقوسها وتقاليدها التي تفرضها طبيعة المناخ والبيئة والرقعة الجغرافية التي تقع فيها المدينة، وقد حبا الله مدينة دمشق بمياه وفيرة وخضرة تحيط بها من كل الجوانب، والدمشقيون يتآلفون مع مزايا مدينتهم ويتبعون تغيرات الفصول فيها، فيبدلون عاداتهم وتقاليدهم تبعا للفصل، ففي الربيع ثمة طقوس خاصة، وفي الشتاء كذلك، وفي الصيف حيث يكون «السيران» إلى جبل قاسيون متعة متاحة بلا ثمن تؤمن لهم نسمات عليلة ورطبة ونقية قادرة على ان تبدد تعب نهار مضن أمضوه في العمل. فعندما «يأتي المساء ونجوم الليل تنتثر» تراهم يصعدون، فرادى وجماعات، إلى السفح الغربي لجبل قاسيون بالقرب من ضريح الجندي المجهول حيث يوجد مكان فسيح يتوسط قمة قاسيون في الشرق ونهر بردى الذي يتهادى متعبا في الغرب، فيما دمشق تتلألأ بأنوارها في الأسفل، والقمر الحليبي الوحيد في كبد السماء الذي وصفه قباني، يغمر المتنزهين بضيائه الفضي، فيرددون مع نزار مقطعا آخر من القصيدة المذكورة: «يا هلالْ.. أيها النبعُ الذي يمطرُ ماسْ وحشيشاً.. ونُعاسْ ... أيها الشيءُ الذي ليسَ يُصدَّقْ دُمتَ للشرقِ.. لنا عنقودَ ماسْ للملايينِ التي قد عُطِّلت فيها الحواس» حلقات صغيرة تفترش خضرة المرج الندي، تضم الأطفال والنساء والرجال وتمارس تسليتها البسيطة: طاولة زهر، شطرنج، سماع الأغاني عبر الراديو...كما ان المتنزهين يدخنون النارجيلة ويشربون الشاي أو القهوة مع بعض المأكولات الخفيفة التي يجلبونها معهم، ويتجاذبون أطراف الحديث في شؤون الحياة المختلفة، ومن حول هذه الحلقات يلعب الأطفال ويتقافزون ببراءة وشغب وسط السجاجيد وأقداح الشاي ونظرات الصفاء...كل ذلك في ألفة تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل. في أحضان الطبيعة «الرياض» زارت المكان واستطلعت آراء بعض المتنزهين. الشاب وائل الذي يعمل في معمل للرخام عبر عن إعجابه بالمكان، «فهو هادئ وجميل فآتي إليه أسبوعيا برفقة الأصدقاء لأننا لا نستطيع الذهاب إلى المطاعم والمقاصف الفخمة لأن دخلنا الشهري القليل لا يسمح لنا بذلك»، في حين قال صديقه باسل انه يلجأ إلى هذا المكان كلما «شعر بالضجر والسأم» فبإمكانه الذهاب إلى المحلات الفخمة لكنه يفضل هذا المكان الذي يمنحه راحة نفسية لا يجدها في المطاعم المغلقة المكتظة بالزبائن. الميكانيكي احمد الذي يعمل في ورشة لتصليح السيارات يقول «ان هذا المكان بهدوئه وصفائه يبدد تعب النهار والمضايقات التي تسببها مساومات أصحاب السيارات»، فهو، وعلى حد قوله، يكره «الرسميات» في المطاعم إذ عليه أن يتصرف بلباقة وحذر أما هنا فيجد الراحة وحرية التصرف، فضلا عن انه يفضل الجلسة العربية على العشب بدلا من الجلوس على الكراسي في الأماكن العامة، ويقول بأن ليس هناك توقيت محدد هنا مثلما هو الأمر في المحلات والمطاعم مؤكدا بأنه يشعر بالأنس والألفة وسط هؤلاء الناس. ولا يقتصر المكان على الشرائح الفقيرة بل بإمكانك أن تجد عائلات قادمة بسياراتها الفارهة وتظهر على أفرادها علامات الثراء كما هي الحال بالنسبة لعائلة المهندس نبيل الذي يعلل حضوره وعائلته إلى المكان بان «الجو في المدينة خانق جدا لذلك نأتي إلى هنا كلما سنحت لنا الفرصة حيث نجلب معنا كل ما نحتاجه من الماء والشراب والألعاب للأطفال ونقضي معا وقتا ممتعا في أحضان هذه الطبيعة حيث المناظر التي تبعث على الراحة». ويبرر الكثير من القادمين حضورهم بقرب المكان من المدينة، وهو بالفعل ملاصق للمدينة ويمكن لبعض الأسر المجيء سيرا على الأقدام، ويقول احمد الذي يعمل في هذا المكان منذ عدة سنوات بائعا للمشروبات الساخنة والباردة كما يؤجر الطاولات والكراسي لمن يرغب بان «يومي الخميس والجمعة يكونان من اكثر الأيام ازدحاما»، ويؤكد بان المكان «لا يقتصر على شريحة بذاتها بل تجد هنا أسرا وعائلات من جميع الشرائح والطبقات، مضيفا بأنه يلاحظ أحيانا مجموعات سياحية في هذا المكان تلتقط صورا للذكرى، وتتجول بين الناس مبدية دهشتها من هذا الطقس الدمشقي النادر والأليف»، ويتابع أحمد بان «الأشقاء العرب، وخصوصا من دول الخليج العربي، يتوافدون بكثرة إلى هذا المكان ويذهبون بسيارتهم ومع أسرهم إلى قمة جبل قاسيون حيث يستمتعون بمنظر دمشق وهي تمتد مضيئة أمام أبصارهم»، ويقول جابر بائع «غزل البنات» بان بعض العائلات لا تكتفي بالتنزه بل تقيم مناسباتها السعيدة هنا مثل مناسبات الزفاف، والعودة من السفر، والتخرج من الجامعة، ونجاح عملية جراحية، وافتتاح مكتب جديد.. جلسات محببة ورغم وجود أكشاك ومحلات صغيرة تبيع ما يحتاجه المتنزهون، غير ان البائعين الجوالين يملؤون المكان بحركاتهم وأصواتهم وهم يبيعون ما يحتاجه الأطفال للعب، وما يحتاجه الكبار لتمضية السهرة، فهناك بائع «الترمس والبزر والسكاكر والمشروبات الغازية وعرانيس الذرة...وآخرون يبيعون بعض الألعاب والهدايا البسيطة مثل السلال المصنوعة يدويا، والفوانيس، والمسابح، والكرات، ودمى الأطفال والألبسة والعطورات...وغيرها من السلع البسيطة.السيدة رجاء (ربة منزل) التي جاءت مع أسرتها والتي بدت سعيدة بالمكان تقول بأنها تأتي مع أسرتها كلما اشتدت الحرارة في داخل المدينة حيث تجد هنا هواء نقيا وتستمتع بمناظر الجبال الجميلة وتأخذ قسطا من الراحة، وتتفق معها ابنتها ريم الطالبة الجامعية التي تقول بان هذا المكان «جميل وشاعري»، وعلى الرغم من أنها تزور مع زميلاتها الجامعيات أماكن أخرى مثل صيدنايا ومعلولا والزبداني وبلودان (أماكن اصطياف قريبة من دمشق) لكنها تفضل هذا المكان على غيره. جلسات محببة تحتل ليالي جبل قاسيون حيث الثرثرة والحديث واللهو، جلسات تضم الدمشقيين الذين يعشقون الطبيعة وسحرها، فيرسمون بتلك السهرات ذكريات جميلة، كما أن زائر دمشق يحذو حذو أهلها فيزور قاسيون ويتمتع بالمناظر الجميلة ولدى عودته إلى بلده يروي لأصدقائه متعة الأوقات على سفح قاسيون حيث الطقوس الجميلة التي تصوغها مفردات بسيطة حددها من قبل نزار قباني في عنوان قصيدته «خبز وحشيش وقمر».