"الصيف... كيف" يقول أهل دمشق وهم يعنون بذلك ان في هذا الفصل يفرح الناس وينطلقون ويبحثون عن اللهو والفسحة الجميلة. ولا ينسى أهل دمشق أن يدمجوا فصل الربيع مع الصيف ليشكلا الأيام السعيدة والبهجة. فالربيع الدمشقي يدهشك ويثير فيك الاعجاب الشديد بزهره ووروده ورياحينه التي تعبق بعطرها الغوطة. شيء عجيب هذه الغوطة. مساحات من الشجر المثمر كالتفاح والاجاص، والمشمش البلدي والهندي والعنب والجوز والدراق، وكل ما يخطر في البال من أنواع الثمار الشهية. كل ذلك الى جانب أشجار الحور السامقة التي تشكل في بعض أماكن الغوطة غابات لا تعيش ولا تنمو إلا على ضفاف المياه والينابيع. مساحات كبيرة جداً من الأرض المشجرة، التي ينمو فيها العشب الأخضر ويطول ليصل نصف قامة الرجل، ومساحات تزرع بالفول الأخضر أو البازلاء، والخس وغيرها من البقول مما يُزين موائد الدمشقيين. وعندما تسير في طرق الغوطة يخطر لك سؤال: أين الشمس؟ لا شمس في الغوطة! هناك فقط خيوط رقيقة من أشعتها تتسلل من بين أوراق الأشجار وأغصانها لتضفي جواً من السحر والجمال على تلك الجنة. كثيراً ما يصادفك طريق طويل تجتازه سيراً على الأقدام أو في السيارة، تحف به الأشجار من الجانبين وتتواصل بالأغصان، فكأنك في احتفال، وفوق رأسك أقواس من سعف، تنساب تحتها كأنك في حلم، ولا يمكن أحداً وهو يسير في هذه الأجواء الحالمة إلا أن يتوقف ليمتع ناظريه ثم يسير الهوينى ممجداً الخالق على ما خلق، وعاشقاً جمالاً طبيعياً لا يصل اليه الوصف. الى هذه الطبيعة يخرج أهل دمشق في عطلاتهم ليمضوا يومهم في "السيران"، والسيران كلمة تأتي من فعل سار، أي ان أهل دمشق في أيام عطلهم يخرجون من بيوتهم ليسيروا نحو الغوطة أو حيث الماء والخضرة لقضاء يوم بين أحضانها. والخروج للسيران له طقوسه. فهو عائلي بالدرجة الأولى يخرج فيه الكبار والصغار ولا يبقى في البيوت أحد. والقاصدون السيران يبدأون بالتحضير له قبل يوم أو يومين، فهناك اللحم المشوي يوصي عليه رب البيت وهناك الخضار التي يجب ان تصنع منها سيدة البيت ومن معها من الصبايا أنواعاً من المأكولات الدمشقية الشهية، مثل اليالنجي، والتبولة، والسلطات المختلفة والفول المقلي. كما ان طبق المقالي من باذنجان وبطاطا وكوسا من مستلزمات المائدة في السيران، والمشروبات الشامية كالتمر الهندي أو العرقسوس والليمون وغيرها... كل ذلك يجب ان يحضر، ولا ينسى أهل دمشق أدوات السيران، كالمنقل لشي اللحم، وأسياخ الحديد لشك اللحم، وأدوات الشاي. وعلى رأس تلك الأدوات النرجيلة. ناهيك عن البساط الشرقي المصنوع من القماش أو الصوف تجلس عليه العائلة، ثم الحشايا أو المخدات للاتكاء أو النوم والتمتع بالهواء العليل. وفي أدبيات السيران وتقاليده انه كلما كان قريباً من الماء يعتبر سيراناً مثالياً، ولذلك فإن أصحاب الأراضي والمزارع على طول ضفاف نهر بردى من نبعه الى مصبه يقيمون "المصاطب" المفصولة عن بعضها بالقصب أو القماش وأحياناً بالاسمنت ويؤجرونها للقادمين من المدينة لقضاء يوم كامل في سيران بهيج. وهذه "المصاطب" تقع على ضفتي النهر، إذ يمكن الجالس ان يغسل قدميه أو يغسل الخضار. هذه "المصاطب" لا سقف لها، عدا أغصان الأشجار التي تحجب المصطبة عن الشمس، وتفتحها على الهواء العليل والمياه المنسابة برقة في مجرى بردى. تسعدك وتبهجك تصرفات الناس في السيران. فهناك اناس يغنون، وهناك جماعة يشربون الشاي ويدخنون النراجيل، وآخرون يشوون اللحم، ونساء هنا وهناك يحضرن الموائد التي تفرش على أديم الأرض المغطاة بالبساط الشرقي، وبين هؤلاء وأولئك ترى الأطفال يتراكضون فرحين ويدخلون المصاطب بحرية. ولا شيء يؤكد نبل الدمشقيين كيوم السيران. فالاحترام والتعاون وغض الأبصار سمة من سمات السيران وقانون لا يخرق وعرف لا يزول. تدهشك الأغاني التي تصدح بها أصوات جميلة، تصاحبها نغمات العود أو الناي، وهي من قلب التراث الدمشقي كالموشحات والمقامات. الى جانب ذلك التراث العريق تسمع نقراً على "طبلة" أو الايقاع فتلتفت لترى شباباً يافعين يؤدون الرقص الشرقي على ايقاعها ويصيحون بأغان حديثة وتتحلق حولهم مجموعة من الأصحاب يصفقون لهم. وينقضي اليوم كله على هذه الحال: فرح وطرب ولهو، وهواء عليل، وفسحة جميلة وخروج من روتين العمل وجدران البيوت التي أصبحت خانقة في هذا الجو الحار.