كي لا يتحول الحادي عشر من أيلول ستبمبر الى مناحة سنوية ومناسبة لبعث الاحقاد وتبادل الاتهامات بين الغرب والعالم الاسلامي، لا بد من وقفة شجاعة من الجانبين حيال فظاعته وبشاعته. وكذلك حيال فظاعة وبشاعة الاسباب والجذور العميقة التي يتحمل الغرب وزرها - وخاصة في فلسطين - رافضاً بتأثير "ثقافة الخداع" التي يمارسها اعلامه وساسته، حتى مجرد النظر في وجاهتها وأهميتها... غير ان "ثقافة الخداع" التي تعمى الغرب عن رؤية الحقيقة العربية الاسلامية، تمثل في صورة اخرى عبئاً اكبر واخطر على عقول العرب والمسلمين. فبداية قل الحق ولو على نفسك. ولا بد من الاقرار والاعتراف ان الثقافة السائدة في المجتمعات العربية والاسلامية - اعلاماً وسياسة واجتماعاً وتربية - تشتمل على قدر كبير من التزوير والغش الذي يدخل في مفهوم ثقافة الخداع. انها هنا مخادعة اخطر للنفس بشأن الذات وبشأن العالم والآخر. وهي سائدة في الخطاب المسيطر بين حاكم ومحكوم، ورئيس ومرؤوس، وواعظ وموعوظ، ورجل وامرأة، وأب وابن، ومعلم ودارس، وكاتب وقارئ. وهي تتجاوز مخادعة الذات الى تضليل النفس بشأن حقيقة الآخر و"الخصم"، وخاصة فيما يتعلق بفهمنا المضلل لحقيقة الحضارة الغربية والقوة الغربية. هذا ما ينبغي ان يعترف به في البداية، ثم نقف عنده كل يوم، فالظن لا يغني عن الحق شيئاً. وما ثقافة الخداع الاظن لا يضلل الا اصحابه وحدهم. ولكن الادعى للعجب والانتقاد ان تقع المجتمعات الغربية، وفي مقدمها الولاياتالمتحدة، والتي تعتبر متقدمة معرفياً وعقلياً ونقدياً في اسر ثقافة الخداع بشأن ما يشكل ربع جغرافياً البشرية وهو العالم الاسلامي. فعلى تعدد ابعاد المواجهة بين الغرب والاسلام فإن المسكوت عنه والممنوع في الخطاب الاميركي بالذات من الحقائق الحاسمة بشأن العرب والمسلمين يمثل جوهر الخلل في محاولات التفاهم بين الجانبين. ممنوع ومسكوت عنه ليس بالضرورة جهلاً به وانما تخوف من انتقام الهيمنة على العقل الاميركي المنحاز بشكل ظالم لاية سياسة اسرائيلية وان خرجت اسرائيل على كل حدود العالم المتحضر وعلى المعايير الاميركية ذاتها، من اجل مصالح ضيقة بطبيعة الحال، ولكن الاخطر من ضيق المصالح ان الغرب ما زال يتهرب من رؤية الحقيقة الاسلامية ويرفض رؤيتها الا مشوهة ومزورة. وهذه الاعاقة المعرفية يمكن ان تهدد مصالحه وترتد عليه ذاته، كما ارتدت يوم 11 أيلول. من ابرز هذه الحقائق المغيبة والمعرضة للارهاب في الخطاب الغربي والاميركي بالذات والتي يجدر بكل متأمل منصف لتاريخ العصور الحديثة ان يلاحظها ان العالم الاسلامي اخذ يتعرض منذ بدء الحداثة الاوروبية عبر ثلاثة قرون، لضغط القوى الاستعمارية مما أدى الى تصفية اهم كيانين سياسيين وهما الكيان العثماني وكيان السلطنة الاسلامية في الهند، وفي هذه الاثناء احتلت الجيوش الاوروبية تدريجاً اهم عواصم الحضارة الاسلامية شرقاً وغرباً، انتهاء بسقوط اسطنبول وتصفية الخلافة الاسلامية بكل ما تضمنته من جرح واحباط في وجدان المسلمين. الا ان كل هذه الاجتياحات الغربية واجهتها المجتمعات الاسلامية بوسائل المقاومة الوطنية المعتادة في العالم كله، خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة، ورغم معاناة المسلمين تحت الحكم الاجنبي وثقافته، فإن تلك المقاومة لم تتحول قط الى ما يمكن اعتباره "ظواهر ارهابية" او "انتحارية" كما دفعت الى ذلك، وتورطت فيه، عناصر من مجتمعات اسلامية، في وقتنا هذا. ذلك ان الاسلام، كغيره من الاديان والثقافات، وان شرع الدافع عن النفس والمبدأ والوطن، وأعلا من شأن من يضحي في هذا السبيل المشروع، الا انه اظهر احتراماً عالياً للحياة وحقوق الانسان فيها، وحرم الانتحار، ولم يبح للمنتحر شعائر الدفن الاسلامية، واكد القرآن منذ البدء تقدير الاسلام للحياة الانسانية في آيات جليه: "ولا تلقوا بأنفسكم الى التهلكة"، و"من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً" محدداً تحديداً دقيقاً مسؤولية كل انسان بمفرده "ولا تزر وازرة وزر أخرى". على صعيد آخر، كان معظم مفكري النهضة والتجديد في الاسلام دعاة للانفتاح على التقدم الحضاري في الغرب، من شيوخ الازهر والنجف الى عمداء الجامعات العربية. على رغم وطأة الاستعمار الاوروبي الذي كانت الولاياتالمتحدة اول من ثار عليه، واعطى للشعوب المحتلة نموذجاً وقدوة. واذ احدثكم من البحرين التي نهضت لمسؤوليتها التقدمية ملكاً وشعباً في ظل الاصلاحات الديموقراطية الدستورية الشاملة، فإني انقل اليكم نموذجاً حياً لواقع التجديد والانفتاح والتعايش في العالم العربي والاسلامي. وفيما يتعلق بموقف العرب والمسلمين حيال الولاياتالمتحدة بالذات، فقد ظل قادتهم البارزون الى منتصف القرن العشرين من الملك بعدالعزيز آل سعود الى الرئيس جمال عبدالناصر - على ما بينهما من فوارق سياسية وفكرية - يميزون بين السياسات الاوروبية، والسياسة الاميركية التي اعتبروها حينئذ مستقلة واقرب الى الموضوعية والرغبة في التعامل المتكافئ، وبقيت مبادئ الثورة الاميركية وقيمها الدستورية والديموقراطية مصدر الهام للكثيرين في العالم الاسلامي. وهنا لا بد للجميع وعلى الاخص الاميركيين والاوروبيين ان يواجهوا حقيقة من حقائق التاريخ المعاصر وهي ان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة قد عملت على تخريب هذا الرصيد من العلاقات والصداقة والاعجاب الفكري والحضاري لدى العرب حيال الولاياتالمتحدة وأوروبا. وثمة دلائل مؤكدة تثبت ذلك الى حد تفجير المراكز الثقافة الاميركية في العواصم العربية بايحاء اسرائيلي، للوقيعة بين العرب والاميركيين. وعلى من يهمهم الامر التنبه الى ان هذا النهج الاسرائيلي ما زال مستمراً. واذ ابتغت اسرائيل من ذلك حجب التفهم السياسي الغربي لمشكلة تشريد الشعب الفلسطيني، والاستئثار بمساندة القوى الغربية، فإن النتيجة التاريخية المؤسفة الاعم والاوسع هي خلق فجوة وهوة واسعة بين المجتمعات الاسلامية من ناحية وقيم ومنجزات الحضارة الغربية من جهة اخرى، وذلك ما يدفع الغرب ثمنه بشكل باهظ اليوم وليس العرب المسلمون فحسب الذين يراد ابقاؤهم بهذه السياسات في حال تخلف وضعف لا ننكر مسؤوليتهم التاريخية هم أيضاً. فلا مهرب من الاقرار والاعتراف ان الافراد المنتمين الى الاسلام، والمتهمين في اميركا والغرب بارتكاب الهجمات الفظيعة يوم 11 أيلول، هم بالدرجة الاولى تكويناً وثقافة ضحايا تلك الهوة والفجوة الرهيبة التي اقيمت بين الاسلام واميركا منذ عقود من الزمن. لا مهرب من مواجهة هذه الحقيقة بكل ابعادها اذا ارادت اميركا حماية نفسها من اجيال اخرى من الانتحاريين. وللحقيقة التاريخية ايضاً، فإن ابرز حدث ارهابي ضد المدنيين والابرياء قد وقع في الشرق الاوسط على يد مناحم بيغن زعيم الهاغاناه باعتراف السلطات القضائية البريطانية وملاحقتها قضائياً له مع افراد عصابته في ذلك الوقت. ان مناحم بيغن الزعيم التاريخي لليكود بحكم الواقع التاريخي والاسبقية الزمنية هو رائد الارهاب في الشرق الاوسط الحديث ويتساءل المرء ان كان اسامة بن لادن سيحصل على جائزة نوبل للسلام كما حصل عليها مناحم بيغن فيما بعد... واجيال الارهابيين الذي تتردد اسماؤهم وصورهم بكثرة هذه الايام، هم بحكم التراكم السببي التاريخي في معظم مجتمعات الشرق الاوسط من سلالة اشخاص مثل مناحم بيغن، والا فلماذا لم يفرز العالم الاسلامي ارهابييه وبهذا العدد قبل ذلك التاريخ والحدث؟ ولكل فعل ردة فعل. هذا تعبير يتعلمه طلبة المدارس الاميركية منذ الصغر. ثم يبقى، في نهاية هذه الكلمة الوجيزة، وكمهتم بالتفاعل الفكري بين الاسلام والعالم المعاصر، وخاصة في الغرب، ان اطرح على محاورينا الغربيين والاميركيين بالذات الاسئلة الثلاثة التالية: السؤال الاول: لقد اظهر الغربيون في تقدمهم الحضاري، وبخاصة الاميركيون منهم مقدرة هائلة على التسامح مع العقائد والثقافات الاخرى فعلى امتداد العصور الحديثة تصالحت اولا البروتستانية الثائرة مع الكاثوليكية، ثم تصالحت المسيحية مع اليهودية التي لم تنعم بالتسامح من قبل الا في ظل الاسلام وفي المغرب بخاصة الذي يتعرض اليوم لضغط يفتقر للحكمة والانصاف من جواره الاوروبي، ثم تصالح الغرب بتراثه اليهودي المسيحي مع عقائد الشرق البعيد كالبوذية والهندوسية... الخ. وكان ذلك كله انجازاً متقدماً في تاريخ البشرية. فمتى تجتاز المسيرة الغربية امتحانها الاصعب ومحكها الحقيقي في التعايش والتسامح، فتتصالح مع الاسلام. لماذا تأجلت هذه المصالحة التي يحتمها منطق التقدم الفكري والحضاري في الغرب؟ لمصلحة من تتأخر، ومن يقف وراء تخريب هذه المصالحة؟ وعلينا الا ننتظر مجتمعات منهكة ومتعبة وبعضها محتل بأن تبادر هي الى مثل هذه المصالحة التاريخية المؤجلة.. كالمجتمعات الاسلامية. فلا بد أن تأتي المبادرة من القوي المتقدم اولاً. فهل يتجاوز الغرب ذاته، كما تجاوزها مع اليهودية وعقائد الشرق الاقصى، فيتصالح مع الاسلام؟ ذلك سؤال بحجم مستقبل العالم صراعاً او وئاماً. وجوابه بيد كل القوى الفاعلة في الولاياتالمتحدة. سؤالنا الثاني: ما تفسير الرفض الاميركي المطلق للبحث عن اسباب وجذور الارهاب المنسوب الى عناصر إسلامية. لقد قامت حضارة الغرب على مبدأ السببية. فلكل شيء سبب محدد. حتى نزعات اللاوعي واللامعقول في باطن النفس البشرية لها اسبابها "العقلانية" المحددة في العلوم الغربية. فلماذا التهرب من بحث اسباب الارهاب في العالم الاسلامي وبخاصة في فلسطينالمحتلة؟ هذه اشكالية اخرى لا بد من مواجهتها اذا كنا لا نريد الغاء السببية من منطق العالم والعصر لصالح منطق جماعات الضغط وغرائز اللامعقول في التسلط. ان رفض هذه السببية هي تدمير لعقلانية العصر الحديث والعالم المتحضر بأكمله. اما السؤال الاخير: فلماذا يحق لجميع شعوب العالم بمن فيهم الاسرائيليون اقامة دولتهم المستقلة.. الا الفلسطينيون؟ اليس الفلسطينيون بشراً يشملهم الاعلان العالمي لحقوق الانسان؟ هل من جواب لدى اصدقائنا الغربيين والاميركيين بالذات؟ واذا كانوا قد سلمواً أخيراً بذلك نظرياً، فإن سؤال غولدامايير: اين الفلسطينيون أي لا أراهم ما زال سيد الموقف ومن المؤسف ان احفادها رأوا احفادهم في النفق الدموي بعيداً عن الهواء الانساني الطلق.. ان الامر يتطلب شجاعة معنوية قبل كل شيء. ومن المؤكد ان الغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً لا تنقصهم الشجاعة من ناحيتهم، بل ان الحضارة الغربية في تقديري هي عمل من اعمال الشجاعة. فلماذا تفرغ من مضمونها عندما تتعامل مع هذه المسألة؟ وتجبن امام اللوبي المتحيز لاسرائيل؟ لقد كذب الغرب معظم نبؤات سقوطه، ونأمل الا يسقط باستسلامه لغرائز التطرف الاسرائيلي فسقوط الغرب وجبنه امام الابتزاز الاسرائيلي يكاد يمثل مقتله. والفتاة الانكليزية التي قررت اعتناق الاسلام لان احداً من كرادلة الغرب لم يجرؤ على فتح فمه امام الحصار الاسرائيلي لكنيسة المهد لن تكون الوحيدة بين الاجيال الجديدة في الغرب. ومن هنا فإن اميركا بحاجة الى امتلاك شجاعة الحقيقة بقدر اندفاعها لاثبات شجاعتها ضد الارهاب. مطلوب وقف الارهاب ضد الحقيقة اولاً في الغرب واميركا لنصبح بعدئذ شركاء حقيقيين في محاربة الارهاب من اي نوع. وقد لا يكون الامر ميؤوساً منها. فقد انجبت هذه الحضارة ايزنهاور وديغول اللذين لم يفتقرا الى شجاعة الحقيقة مع النفس في اللحظة الحاسمة. فهل عقم الغرب عن انجاب مثلهما؟ تلك هي المسألة. يبقى ان نعود الى سطوة ثقافة الخداع على العقل العربي والاسلامي في هذه الحقبة المظلمة، رغم بروقها الظاهرة... وتحليل ثقافة الخداع ونقدها في تلافيف العقل العربي يحتاج الى مجلدات لا يسعها هذا الحيز، والى ارادة صلبة لتحريره من قبضتها الطاغية في واقعه وفي بعض عهود تاريخه. وهذه مهمة جليلة وخطيرة تنتظر شجاعة الاجيال الجديدة في العالم العربي والاسلامي وقدرتها على امتلاك المعرفة الحقة، فهل يمتلك المسلمون والغربيون الشجاعة المتبادلة للتحديق بنقاوة في عيون الآخر؟ نقول بالعربية لن يصح الا الصحيح ويقولون الحقيقة ستنتصر TRUTH WILL TRIUMPH فتلك حكمة مأثورة في تراث الغرب الذي لم نحترمه الا لالتزامه بها، ولن نحترمه الا اذا اكد التزامه بها وبشجاعة في وجه شارون، كما فعل حيال الطغاة من هتلر الى ستالين. مفكر من البحرين، أستاذ في الدراسات الإسلامية والفكر المعاصر - وبعض أفكار المقالة طرحها الكاتب في ورقته في ندوة أصيلة أخيراً والتي حضرها مفكرون وسياسيون غربيون.