سيمثل موقف الغرب من ترشيح المثقف العربي المسلم الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي لمنصب المدير العام لل "يونيسكو" المنظمة الدولية للثقافة امتحاناً حقيقياً للغرب نفسه ولقيمه وادعاءاته الليبرالية التي نسمع صخبها هذه الأيام بقوة في كل مكان من العالم. ويجب أن يكون واضحاً منذ الآن لدى جميع الحكومات الغربية انها إذا وقفت ضد ترشيح القصيبي وحالت دون فوزه، فإن هذه النتيجة ستكون سقوطاً لمصداقية الغرب أكثر مما هي خسارة لمرشح المجموعة العربية والاسلامية. السؤال الحقيقي - إذن - في معركة ال "يونيسكو" ليس إذا كان القصيبي سيفوز أو يخسر، وانما إذا كان الغرب صادقاً بالفعل في طروحاته الليبرالية والانسانية في عصر العولمة وتحاور الحضارات. والمغزى الأبعد لهذا الموقف الغربي - الغامض حتى الآن - لا ينحصر في الموقف من شخص القصيبي وسياسات دولته، وانما يمس في الصميم حقيقة موقف الغرب من الاسلام ومن تيار الاعتدال فيه على وجه الخصوص، وهو التيار الذي يدعي الغرب انه "يبحث" عنه، ويتطلع الى التحاور والتعاون معه. هل حقاً يستطيع الغرب ان "يبتلع" عقده وينفتح على اعتدال اسلامي أصيل... قلت: أصيل... أي غير مصنّع محلياً أو دولياً... ولا بد من الاعتراف - إقراراً للحقيقة - بأن الغرب الليبرالي الحديث في مسيرة تقدمه، قد تجاوز الكثير من رواسبه التاريخية ضد كثير من الأديان... عدا الإسلام... حتى هذه اللحظة! ذلك انه في مسيرة التفتح الليبرالي والانساني في المجتمعات الغربية، استطاع الغرب الخروج من بوتقته الكنسية التقليدية الضيقة، بالتدريج، فانفتح أولاً على اليهودية - أعدى أعداء معتقده المسيحي - فبرأها من دم المسيح واستوعب اليهود في مجتمعه المدني وتشكيلاته السياسية حتى تبوأوا مراكز القيادة فيه، وانقلب الأمر في النهاية الى تحيز وانحياز للدولة اليهودية في فلسطين. ثم أطل الغرب على ديانات الشرق البعيد - البوذية والهندوسية والكونفوشية... الخ. فاستطاع ان ينظر اليها بكثير من الحيادية والتفهم، بل التعاطف، على ما يفصلها عن المسيحية من فوارق كبيرة. والسؤال الفكري والحضاري الكبير المطروح اليوم على الغرب وضميره: لماذا لا يستطيع هذا الغرب ان يتخذ الموقف المنفتح ذاته حيال الاسلام والمسلمين؟ لماذا الانحياز الغربي ضد الاسلام، والتخوف الغربي من الاسلام، والغرب اليوم في أوج قوته وجبروته، وليس مهدداً بأية "فتوحات" اسلامية؟ أهو إرث الحروب الصليبية؟ أم الماضي الكولونيالي القريب؟ أم الخوف من الغد؟ أم الاستسلام المهين للإرادة الصهيونية، من دون القدرة على التحرر من قيودها؟ نفهم ان يتضايق الغرب من أعداد المهاجرين المسلمين المتزايدة الى مجتمعاته، وإن لم يكن كل خوفه مبرراً من هذه الناحية... ونفهم ان يتخوف الغرب ممن يسميهم "الارهابيين" الأصوليين من "مدرسة" أسامة بن لادن... ولكن لماذا التردد الغربي، والهمس الغربي الخجول... في شأن غازي القصيبي؟ ستكون كارثة لمستقبل العلاقة بين الاسلام والغرب، إن لم تميز القيادات الغربية في هذه اللحظة التاريخية بين أسامة بن لادن... وبين غازي القصيبي... أعني بين التوجهين المتباينين في شأن مستقبل الاسلام لكل منهما... يتظاهر الغرب بالبحث عن "ليبراليين" اسلاميين، وعن عقلانيين اسلاميين، وعن مصلحين اسلاميين معتدلين. ولو استخدم الغرب كل طاقاته في "الاكتشاف" فإنه لن يكتشف مدرسة اصلاحية اسلامية معتدلة وأصيلة - من دون فبركة خارجية - كالمدرسة التي يمثلها المرشح السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي، إن كتابات القصيبي في الاصلاح والتطور والتقدم معروفة تماماً لدى الدوائر الغربية. بل ان "مواقف" القصيبي في الدفاع عن منظومة من القيم، تبدأ بالدفاع عن نظافة اليد في العمل الاداري، وتنتهي بالدفاع عن حق وحرية الشعوب الصغيرة في الوجود - كموقفه المتميز والشجاع من احتلال الكويت - مروراً بالدفاع عن حرية الرأي والتعبير والمعتقد، ومناداته الجريئة المبكرة في عز الطفرة النفطية بحسن المعاملة للوافدين الى مجتمعات الخليج والجزيرة معاملة تغلب الاعتبارات الانسانية قبل كل شيء. أما التذرع بأن القصيبي يمثل منطقة من العالم لا تتقبل القيم الليبرالية ومسائل حقوق الانسان - حسب منظورها الغربي - فإن الموقف السليم من هذا الأمر، ان كان المتذرعون بهذه الحجة مخلصين في دعواهم - على تحفظنا حيالها - ينبغي ان يتمثل في اشراك دول هذه المنطقة ومجتمعاتها ومثقفيها في المسؤوليات والمنظمات الدولية المعنية بهذه المسائل في نطاق المجتمع الدولي، وليس في محاربتها وخلق "غيتو" من نوع جديد حولها... فبالمزيد من المشاركة والمسؤولية المشتركة يمكن ان يحدث التقارب الناجم عن القناعة الحرة حيال هذه القضايا. وليس كال "يونيسكو" محكاً ومنبراً للتفاعل الفكري والثقافي والحضاري لتوسيع دائرة الحوار الانساني حول تلك القضايا الحيوية والدقيقة لتقريب وجهات النظر في شأنها بين مختلف الكتل الحضارية في العالم وذلك كما عبر عنه بوضوح الدكتور غازي القصيبي نفسه في محاضرته الفكرية الأخيرة التي ألقاها في النمسا بتاريخ 11 تموز/ يوليو 1999، بعنوان: من صراع الحضارات الى ثقافة الحوار. وإذا لم يدرك الغرب مغزى هذه البادرة، بمدلولها العميق، من جانب القيادة السعودية. وضيّع هذه الفرصة العملية، والتجربة الفعلية للحوار والتفاعل، فإنه سيكون قد وقف في حقيقة الأمر الى جانب كل "الأصوليات" المتطرفة في العالم، وليس الى جانب الأصولية الاسلامية وحدها. ولن يسعد أحد بضياع هذه الفرصة كسعادة بنيامين نتانياهو من جانب، ومقاتلي طالبان من جانب آخر. فليس من تقاليد المملكة العربية السعودية الجري وراء هذا المنصب الدولي أو ذاك. ويجب فهم ترشيح القيادة السعودية لغازي القصيبي على حقيقته: إنها يد سعودية وعربية واسلامية ممدودة لكل دول العالم وشعوبها وثقافاتها وحضاراتها... من أجل مستقبل أفضل للبشرية جمعاء. أما محاولة بعض "المثقفين" المحسوبين على العرب تخويف فرنسا من ان القصيبي ليس "فرنكوفونياً" ولا يجيد الفرنسية، فنعتقد ان قيادة فرنسا أعمق نظراً ورؤية من ان تنساق وراء هذا التخويف اللغوي الغريزي والبدائي، بكل ما يحمله من ضيق نظر. فمن مصلحة فرنسا ثقافياً وحضارياً على المدى البعيد، ان تكتسب المزيد من المتحاورين الجدد مع الثقافة الفرنسية، والمتطلعين الى الإلمام بلغة فرنسا وحضارتها كالدكتور غازي القصيبي ونظرائه الكثيرين من المثقفين العرب والمسلمين في الخليج والعالم العربي والاسلامي، وهم الذين فرض عليهم النفوذ الانكلو - سكسوني التثقف بالانكليزية وحدها، في الماضي، وحان الوقت لكسر هذا الاحتكار الذي تدعمه الهيمنة الاميركية حالياً من أجل ان نتعرف الى ما لدى فرنسا من ثقافة متميزة جديرة بالاكتشاف. لقد اهتم كاتب هذه السطور بتعلم اللغة الفرنسية في باريس بعد نيله الدكتوراه من الجامعة الاميركية في بيروت، ولم يضطره شيء لذلك سوى اقتناعه بقيم الثقافة الفرنسية... فلماذا يريد البعض احتكار الثقافة الفرنسية لنفسه والتصرف كوصي عليها ومنع الآخرين من الاقتراب منها! إن هذه فرصة تاريخية لفرنسا الصديقة وثقافتها لأن تحرر هذا الجمع الثقافي العربي المسلم الكبير من أسر الانكلو - سكسونية وأحاديتها، من أجل ان يقترب هذا التكتل الثقافي من الفرنكوفونية وما تنطوي عليه من قيم وجماليات مختلفة، بدل الاقتصار على فرنكوفونيين مستهلكين تخطاهم الزمن، ولم يعد لهم أي تأثير على مجتمعاتهم العربية الاسلامية، مثل الطاهر بن جلون وسواه من الاسماء المستعارة التي تخفي وجوهها وان لم تستطع تضليلنا في شأن حقيقة انحيازاتها...! فثمة اشارات "غير بريئة" في المعركة ضد مرشح المجموعة العربية الاسلامية بهذا الصدد. الطاهر بن جلون، العائد من اسرائيل، يصدر في باريس بياناً باسم القيم والحقوق الانسانية - التي نسيها أثناء زيارته - يعترض فيه على ترشيح القصيبي، مزكياً المرشح المتجول الدكتور اسماعيل سراج الدين الذي لم يرشحه بلده، والذي تنقل بين ترشيح بوركينافاسو في أعماق افريقيا، وترشيح هولندا في أعالي أوروبا. والغريب ان الدكتور سراج الدين يخاطب المثقفين العرب ويدعوهم الى الثورة على الاجهزة الرسمية وهو في "علياء" البنك الدولي الذي يتولى منصب نائب الرئيس في ادارته، وليس سراً ان البنك الدولي منظمة شبه أميركية - بخلاف ال "يونيسكو" التي تمردت عليها - كما ان سياسات البنك الدولي ليست مما يمكن الدفاع عنه خصوصاً في دول الجنوب ومن بينها بلده مصر وشقيقاتها العربيات وعالمها الاسلامي... فأين كان سيادته من هموم الثقافة العربية كل هذا الوقت؟ وذلك ما يجعل من المشروع ان نسأل الدكتور سراج الدين - وهو الذي دعا المثقفين العرب للتعبير عن رأيهم بحرية وصراحة - أن نسأله من واقع معاناتنا اليومية للثقافة العربية: من تكون؟ وأين هي هويتك الأصلية... في أعماق أفريقيا؟ أم في أعالي أوروبا؟ وهل من أثر لترشحك وإصرارك المستغرب عربياً عليه غير التشويش على فرص المرشح العربي في الفوز؟ ولمصلحة من؟ نحن نقدر كفاءة الدكتور اسماعيل سراج الدين ونقدره بشكل خاص، لأن كل شقيق من مصر عزيز على قلوبنا كمعزتها الكبيرة عندنا. وكنا نتمنى لو انه استثمر هذه الكفاءة في دعم الصفوف العربية لا تمزيقها، علماً ان بلده في طليعة الداعمين لترشيح الدكتور غازي القصيبي مرشح المجموعة العربية والاسلامية قاطبة، حيث أعطى الرئيس محمد حسني مبارك كلمته الى الملك فهد بن عبدالعزيز بهذا الشأن. وقد عودنا سيادته دائماً، بوصفه رجل التضامن العربي، انه عند وعده. ولا يسعنا بهذه المناسبة الا تهنئته وتحيته بمناسبة ولايته الجديدة التي نثق انها ستحقق مزيداً من الخير لمصر والعرب.
وعوداً على بدء، يبقى السؤال الكبير كما هو: هل حقاً يؤيد الغرب "الاعتدال" الاسلامي؟ إن غداً لناظره قريب. والاختبار - اختبار كل الادعاءات الغربية في شأن الليبرالية وحقوق الانسان - ستكون نتائجه واضحة للعيان في النصف الثاني من شهر تشرين الاول أكتوبر المقبل. واذا ما ضيّع الغرب هذه الفرصة، فإن الدلالة ستكون في حجم الكارثة المعنوية لمستقبل علاقته مع الاسلام المتحضر والمعتدل. ألا هل بلغت؟ أتمنى لو كان ثمة معادل تعبيري دقيق لهذه العبارة في كل اللغات الأوروبية. * كاتب من البحرين، عميد الدراسات العليا في جامعة الخليج