يُقام في معهد العالم العربي قسم الأحداث الثقافية معرض للصور "الفوتوغرافية" تحت عنوان: "القدس الشريف"، يقدم المعرض قسماً من مجموعة الصور النادرة التي تحفظها المكتبة التابعة لدير القديس أتيانوس في القدس، وهي جزء من الأرشيف الخصب الذي أنجزه المعهد "التوراتي الأثري الفرنسي" في القدس. وتشمل الصور المعروضة المعالم الإسلامية في مدينة القدس القديمة، وكانت أنجزت ما بين عامي 1890 و1925. أما المكتبة فتحوي خمسة عشر ألفاً من "النيغاتيف" بالأسود والأبيض، بعضها طبع في المعرض للمرة الأولى، إضافة الى خمسة آلاف من الشرائح الملونة الشفافة ديابو أو سلايد بقياس كبير. لعل ما يجدر ذكره ان بعض الرهبان الدومينيكان أنشأوا ابتداءً من عام 1890 مؤسسة في القدس معتمدين على المنهج المقارن في ميدان الجغرافيا والمناخ، علم الآثار والإتنوغرافيا علم عادات الشعوب. وشيدوا خارج باب العمود باب دمشق ديراً مزوداً مكتبة ومدرسة لدراسة التوراة وشروطه التاريخية النوعية، وصدرت عنها دورية: "المجلة الانجيلية" ابتداءً من 1892. وكان نظم معرض عام 1995 بعنوان "مسارات توراتية" وتبعه معرضان مماثلان. ويعتبر المعرض الراهن هو الرابع من نوعه، ويحتوي على صور تنشر للمرة الأولى. وتزداد أهميته بعد مشروع تصاوير الحجاز ثم البحر الميت. يشتمل قسم من المعرض على ما صوّره سافينياك بين عامي 1904 و1905 من "الأسوار" وبوابات المدينة. وهي تعكس التاريخ العسكري والحضاري في عمران القدس. ويشتمل المعرض على بعض الصور لقبة الصخرة والحرم ومسجد القبة كان أنجزها جوسين. تبدو البحوث والصور في المعرض، محايدة نسبياً على رغم ارتباطها بالتفسير التوراتي، ذلك أن الإحالة فيها الى العمارة والنقوش والمشاهد الاجتماعية والطقوس والوظائف الروحيّة التي تحرك التجمعات البشرية والوظائف المعماريّة. بل ان القيمة الابداعية والجمالية لتشكيلات الصور تتفوّق على أصالتها التوثيقية، ناهيك بالتقنية العالية في كيماويات التحميض ودرجات الرمادي الرهيفة، ما يثبت ان فن التصوير الضوئي ومنذ بداياته المتقشّفة كان أداة تعبيرية وإبداعيّة تتجاوز دلالة الموضوعات. يقودنا المعرض الى سياحة متناغمة زاهدة اللون والدرجات المتأرجحة بين الأسود والأبيض، مستحوذاً على نشوة ماضي المكان القدسي. ويقودنا الى غبطة مشاهد الحرم الشريف داخل مسجد الصخرة، وهو المسجد الذي بناه الوليد بن عبدالملك مع نهاية القرن السابع وبداية الثامن للميلاد، وضمن ثلاث عمائر أولى في الإسلام: المسجد الكبير في دمشق ومسجد الرسول في المدينة. وكان الخليفة عمر أمر ببناء المسجد الأسبق في صدر الإسلام، لما يحمله بيت المقدس من إجلال لدى المسلمين، باعتباره القبلة الأولى التي كان يتوجه اليها المسلمون في صلاتهم، ثم تحولت الى الكعبة المشرفة وحجرها الأسود في مكةالمكرمة. تبدو المدينةالقدسية الثالثة موصوفة بالقدس الشريف كما توصف مكةبالمكرمةوالمدينة بالمنورة، شريكة في التوحيد الإبراهيمي للديانات الثلاث. ولا شك في ان الإحالة القدسية الأولى ترجع الى إسراء الرسول ومعراجه ابتداءً من بيت المقدس، وكما ورد في سورة الإسراء في القرآن الكريم: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". كان العثمانيون خصوصاً في عهد سليمان القانوني حسّنوا في عمارة المسجد الأموي، وأضافوا السيراميك إلى جوانح القبّة. وأضفى بعض المؤرخين القداسة على اسمها الآرامي إيليا أي بيت الله كما ذكر ياقوت الحموي. أما الطبري فاستخدم عبارة: "إيليا مدينة بيت المقدس"، وهو استرجاع للإسم الآرامي "أورشليم" مدينة السلام، وإن كان تاريخها الراهن والسابق يتناقض مع هذه الصفة، فإننا نشهد فيها آثار المماليك والأيوبيين، تحمل ذاكرة استرجاع صلاح الدين الأيوبي للمدينة من براثن الصليبيين. نعثر في المعرض على صور تفصيليّة للمدينة وسكانها في بداية القرن العشرين، أي قبل محاولات تهويدها. وتتمركز حول قبّة الصخرة وقبة المعراج ومنبر القاضي برهان الدين، ومحراب زكريا منبر نور الدين، ومدرسة الأسعردية وقبة كرسي عيسى وسبيل باب السلسلة وسبيل قبة العشاق، وسبيل قايتباي وقاسم باشا، ثم السور العثماني، وباب العمود دمشق وباب الخليل وباب القطانين وباب المحكمة وباب الرحمة الذهبي وباب المغاربة، ثم صور عن الطواف والجمهرة الطقوسيّة. لا شكّ في أن توقيت المعرض وتزامنه مع الأحداث الأليمة في فلسطين ليسا من الصدف خصوصاً انه بعيد من التوجهات الاستشراقية أو الاستعمارية، وبعيد من تعسف بعض المعارض النظيرة التي تجامل التزوير الصهيوني. ولعلّ كتاب المعرض يستعيد للمرة الأولى بعد فترة طويلة الكتابة باللغة العربية الموازية للفرنسية، وهو ما يضع حداً للجناح المعادي للثقافة العربية، بما يتناقض مع شعار المعهد نفسه الذي تتقابل فيه الكتابة العربية بالفرنسية.